
ثنائية "أكثرية و"أقليات" بالشكل الذي تُطرح فيه في سوريا، وانطلاقًا منها، تُحيل بشكل أو بآخر على "نظرية العرقين".
برغم أنّ كل جماعة داخلة، بهذا المعنى أو ذاك، ضمن خانة "الأقليات"، فتختلف عن "الأقليات الأخرى" بأشياء وعناصر وتشترك مع "الأكثرية" المتخيلة بأشياء، يجري الدمج، عنوة، بين هذه الجماعات كلها، هنا على أساس المحدد الديني، وهناك على أساس المحدد الاثني، وهنا وهناك على أساس المزدوج الاثنوــــ ديني.
وينتشي التعامل مع مجموع "الأقليات" كما لو أن تعدّديتها الظاهرة تدليس وتضليل يُخفي وحدة متأصلة، سحيقة، وعميقة، لا شغل لها سوى مصادرة "حقوق الأكثرية"، وفي الطليعة منها حق الأكثرية في أن تمارس أكثرويتها، الإثنوــــ دينية، على الأقليات.
ولأجل ذلك، فإنّ "نظرية العرقين" تحضر هنا، لأن التمثّلات المبثوثة ما عاد بالمقدور التعبير عنها بمفاهيم "الملة" و"الطائفة" و"الجماعة الأهلية". التمثّل الذي لا بدّ من تفكيكه، ينتمي ــــ بنسبة عالية ــــ إلى واحدة من متواترات "نظرية العرقين"، بمعنى النظر الى التوتّر الحيوي الذي يحكم المجتمع على أنه حاصل نتيجة استقطاب مرير ومزمن فيه، بل تضاد مستدام، بين "روحين" متجسّدتين، واحدة "جيدة" والثانية "سيئة"، وهذا ما يستبد بالحالة التي تُطرح علينا على امتداد الحرب السورية بشكل مكثف، ومنذ سقوط نظام الطغيان الأسدي وحلول نظام الاستيلاء المُكتفي من أسباب الشرعية بتقدير قُدرة تنظيم "القاعدة" على التحوّر. إذ يجري إعمال قسمة بين "دَمّين" مُتخيلين، بين "روحين" مقدّرتين، واحدة لـ"الأكثرية" وثانية لـ"الأقليّات".
والحال هذه، يصبح الأكراد، المسلمون السنة بغالبيتهم، والمسيحيون، الروم والأرمن والسريان، والعلويون والدروز والإسماعيليون، أعضاء في جسد "أقليّاتي" موحد، حتى لو استوجبت "الحنكة" مواجهته بسياسة "فرّق تسد" أكثرياتية ــــ ذرائعية، لا تُفسد للوعي "الثقافي" قضية، لجهة أنّهم جميعًا "أقليات"، ظالمة للأكثرية في وجودها ووعيها!
خطورة هذا التمثّل أنّه يُجاهر بكل شيء إلا بـ"عرقيته". يُبقيها مضمرة. وعندما لا يكون النزاع متصلًا بأصول الدين وفروعه، ولا حتى بالتنازع على الموارد والحصص والموازين، تجري، بشكل مواظب، عمليةُ شحن بطارية "الاختلاف البيولوجي الأسطوري" بين الناس، أي تصويرهم كما لو أنهم ينتمون، في سرّهم، في حقيقتهم، حتى لو لم تكن ظاهرة، إلى عُنصرين. واحد يعبّر عن نفسه بواحديّته: الأكثرية، والثاني بفسيفسائيته، ربما للتعويض عن انحساره في العدد.
استعادة بولانفيلييه
تختلف الإحالة إلى ما نسميه هنا "نظرية العرقيين" عن مفهوم "العرق" الذي يندرج في إطار "العلم الزائف"، بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. مفهوم "العرق" في إطار العلم الزائف ارتكز على التعسّف في تفسير اختلاف الأقوام، من خلال تصنيف تكوين الجمجمة (الفرينولوجيا) وشكلها، والتصنيفات الإنثروبومترية، وفي طليعتها شكل الأنف.
أما "نظرية العرقين"، فسابقة على نظرية "العرق" هذه، ويظهر أنها لاحقة لها. وهي ترجع خصوصًا إلى الكونت هنري دو بولانفيلييه (1722م.)، أي إلى زمن ما قبل فحص الجماجم والأنوف. لم يكن مفهوم العرق قد اكتسب بيولوجيته الزائفة الكاملة بعد، وإن كانت بيولوجيته الخرافية مضمرة "بين السطور".
أحد وجوه المفارقة هنا أن بني أمية عندما أقاموا امبراطوريتهم انطلاقًا من الشام، كانوا أقلية الأقلية
كان دو بولانفيلييه من النبالة الريفية. يشعر بالضيق من استتباب الملكية المطلقة وتصلّب الدولة المركزية. فاختار لأجل ذلك أن يُقدّم سردية عن تاريخ فرنسا على أساس أن هناك صراعًا مستدامًا منذ وقت طويل بين عرقين تاريخيين فيها؛ عرق النبلاء وعرق الفلاحين. النبلاء يستمدّون شرعيتهم، لا من كونهم سكان أصليون، بل من "الفتح" الجرماني لبلاد الغال، خصوصًا مع قوم الفرنجة الذين حلّوا فيها في القرن الخامس للميلاد. وفي المقابل يحضر السكان الأصليّون، أي الفلاحون، أو العامة.
قدّم بولانفيلييه إذًا محاولة لقراءة التاريخ المديد لفرنسا على أساس الثنائية بين النبالة الجرمانية وبين السكان الأصليين المنتمين إلى الأرْومة الكلتية Les Celtes. فذهب الى أن العرق النبيل محبّ للتفلّت، للتمرّد، للكرامة، للحرية. أما شعب الكلت الفلاحي فمفطور على المطواعية. ولأجل ذلك، اعتبر دو بولانفيلييه أن قيام الدولة المركزية، وتهميش النبالة، خصوصًا الريفية ــــ "نبالة السيف" ــــ وتعظيم الملكية المطلقة، كل هذا يدخل في صالح تمكين أهل المطواعية ــــ أي الفلاحين والعوام ــــ على أهل النبالة الجرمانية الغيورة على الحريات.
بالتالي، احتسب دو بولانفيلييه الملك لويس الرابع عشر في خانة أعداء الحريات الأريستوقراطية، ورأى في تجسيديته للدولة "الدولة هي أنا" تجسيدًا لانتصار العوام. قدّم دو بولانفيلييه نقدًا مبكرًا لتغوّل الدولة المركزية الحديثة، ونافح عن فكرة توزيع السلطة، لا تكثفها ولا التفرد بها، لكن من موقع الغيرة على حريات النبلاء، أي من موقع "نظرية العرقين".
عودة الروح لنظرية العرقين
بخلاف نظرية الأعراق البيولوجية العلمية الزائفة التي استُخدمت لتسويغ الاستعمار ومن ثم النازية، والتي ضمرت في زمن ما بعد انهيار الأخيرة ثم انحسار الاستعمار، فإن "نظرية العرقين" بقيت بألف روح، في أكثر من مجتمع. ففي شبه القارّة الهندية، لا تزال النظرة الثنائية ــــ التي تفترض وجود شعبين أو عرقين متمايزين جذريًا: الآري والدرافيدي ــــ حاضرة، ولو بأشكال مختلفة، في المخيال الجماعي في السياسات الثقافية، وأحيانًا في الممارسات اللغوية والمؤسسية.
وهنا لا يقتصر الانقسام على حدود لغوية أو جغرافية، بل يتداخل مع تأويلات ميثولوجية كثيفة تُحمّل الأساطير الدينية ــــ كملحمة الرامايانا أو النصوص الفيدية ــــ تأويلات عرقية فجّة، وتُحوِّل الماضي الرمزي إلى خريطة أصلانية للنقاء والانحطاط، للتفوق والخضوع، للفاتح والمقهور.
وفي سري لانكا، تُعاد صياغة سردية التاريخ القومي بوصفه صراعًا دائمًا بين "السينهاليين" و"التاميل"، لا كجماعتين لغويتين أو سياسيتين فقط، بل كـ"عرقين" متضادين من حيث الأصل والمصير، تُسنَد إليهما صور نمطية أخلاقية وجسدية وميتافيزيقية، تُغذّي خطاب الكراهية وتُبرِّر العنف المؤسسي.
بهذا المعنى، فإن "نظرية العرقين" لا تستند إلى علم مزيّف بقدر ما تستثمر في ما بتنا نتداول فيه، من دون تدقيق للاصطلاح والمفهوم، تحت عنوان "السرديات". ما عادت هناك حاجة إلى "العلم الزائف" بهذا الصدد (ليس في كل المجتمعات، فالعلم الزائف أيضًا له ألف حياة وقناع، وتراه يستعيد "نظرية العرق البيولوجي" في أيامنا من باب "اختبارات النسب الجيني"، بالاستناد إلى نماذج احصائية).
لكنّ "نظرية العرقين" بالشكل العاصف ببلاد المشرق حاليًا لا حاجة لها للجينوم بعد. تبدو أقرب للمنظار الكلاسيكي، أي منظار بولانفيلييه، وتربط مثله ثنائية "العرقين" بمشروعية الفتح: الفتح الجرماني لبلاد الغال على يد قوم الفرنجة، في حال بولانفيلييه، والفتح العربي ــــ تحديدًا في "مآله الأموي" ــــ في حال "الأمويين الجدد" حاليًا. وهؤلاء قد تكفّلوا، على ما يبدو، بتحويل بني أمية من جزء من عشيرة في إطار قبيلة قريش ــــ أو من "عصبية" وسلالة ــــ إلى "عرق شعبي"، أكثروي، في مواجهة جماعات من "السكان الأصليين" الذين لم يتخففوا بعد من هوياتهم الانقسامية، والتي تُضمر الكيد للأكثرية ومصادرة حقوقها.
تكتيل الأقليات في بلد معين مع أقليات من داخل الأكثرية يُمكنه أن ينتزع الأكثرية من الأخيرة، فتغدو "أكثرية في موقع الأقلية"
أحد وجوه المفارقة هنا أن بني أمية عندما أقاموا امبراطوريتهم انطلاقًا من الشام، كانوا أقلية الأقلية. بقي المسلمون أنفسهم أقلية في بلاد الشام ومصر لقرون بعد الفتوحات. أما الوجه الثاني للمفارقة فأن نظرية بولانفيلييه أقامت الاستقطاب بين أقلية نبيلية محبة للحرية، وبين أكثرية شعبية فلاحية محبة للاستبداد الملكي. بينما "نظرية العرقين" على الطريقة المعمول بها في سوريا اليوم تقوم على ربط الأكثرية السكانية بمفهوم "الفتح"، وتصوّر "الأقليات" في المقابل على أنها مُعين الاستبداد والعلمانية معًا.
ولكي تقطع الطريق على ظمأ الأقليات للاستبداد كما العلمانية، فإنها تسوّغ القطيعة مع أي مظهر من مظاهر الديموقراطية عند اختيار من توزع عليهم المناصب والمهام، كما عند تبني اعلانات دستورية موقتة، أو الفصل في مسائل رمزية، كحال "الهوية البصرية" التي بتت بأمرها سلطة كانت تُقدم نفسها على أنها انتقالية ومؤقتة، ولا تزال تُجيب على سؤال ما إذا كان سيُسمح للمخالف في الدين بكذا وكذا من المناصب في الدولة، بوصفها مسائل يفصل بها دستور وقانون غير موجودين بعد!
خرافة "تحالف الأقليات"
المدهش في كل هذا أن التعويل على استنهاض المظلومية السنية حصل مطولًا في وجه نظام ما كان بالإمكان لا احتسابه "علويًا" ولا "أقلياتيًا"، ولا النفي في المقابل لاستناده بالفعل إلى تكتل من الضباط العلويين الأساسيين كشبكة حماية أمنية داخلية له، وإلى شعور انتاب العلويين، لا سيما غداة الحرب السورية، بأنه نظام "محسوب علينا".
إلا أن نتيجة التركيز على "سنية" المظلومية في وجه النظام الأسدي لم تظهر يومًا على أنها دينامية توحيدية للأكثرية، بل على أنها، وبامتياز، دينامية انشطارية بعنف لها. وهنا، بالتحديد، حصل المتغير منذ نهايات خريف 2024. إذ ثمة وعد يُقطع، تحت عنوان "عودة بني أمية"، بأن عصبية الأكثرية لن تنشطر بعد الآن، وأنّ ما يحول دون انشطارها هو اليقظة الدائمة في مواجهة مكائد الأقليات، وفي الوقت نفسه اجتناب استغلال "القوى الخارجية" لموضوع الأقليات ما أمكن.
وهنا يُلاك مفهوم منذ مدة: "تحالف الأقليات". فيجب على الأقليات كي تكون في مأمن أن لا تسعى، بهذا الاعتبار، لأن تتوالف. لكن لماذا؟ لماذا لا يسع الأقليات أن تطرح على نفسها مشروع تحالف في ما بينها إن كانت الأكثرية في البلد المعني لا تُعرف عن نفسها كأكثرية سياسية، بل كأكثرية إثنية ودينية؟ لأن الحساب يمكن أن يؤدي إلى شيء من هذا النوع: تكتيل الأقليات في بلد معين مع أقليات من داخل الأكثرية يُمكنه أن ينتزع الأكثرية من الأخيرة، فتغدو "أكثرية في موقع الأقلية".
يُمكن أن نجد ذلك في حمأة المشاحنة بين "الجمهوريين" و"الديموقراطيين" في الولايات المتحدة. بماذا يُتهم "الديموقراطيون"؟ بأنهم يسعون لتشكيل "تحالف أقليات" ملوّنة مع الجزء الأقل من "البيض" بما يهدد حقوق الأكثرية البيضاء. في مجتمعات أخرى، المشكلة قد تتخذ بعدًا أكثر تبسيطًا: أنه إذا انقسمت الأكثرية الإثنية على نفسها بين تيارين سياسيين عريضين، أعطت للأقلية الإثنية القدرة على ترجيح الكفة.
بالتالي، سواء في شكله الديمقراطي ــــ الانتخابي، أو في شكله "التأجيلي" لموضوع الانتخابات برمته، ثمة دائمًا شعور بأن "تحالف الأقليات" ليس حقًا لها، كونه تحالف، وبدلًا من أن يضمن تصلّب الأكثرية الإثنية أو الاثنوــــ دينية المُتخيلة، في وجه هذا الأخطبوط الأقلوي، فإنه سيؤدي إلى العكس، أي إلى أخذ الأكثرية على حين غرة، والأكل من صحنها.
فيجب على "الأقليات" أن تُنادى هكذا، بهذا الاسم، في الليل والنهار، وأن تسعى جهدها في الوقت نفسه إلى التبرؤ من "التحالف" في ما بينها، بما في ذلك شعور كل جماعة "أقلوية" بأن التنكيل بأبناء جماعة أُخرى يزيد الضغط عليها هي أيضًا، وليس العكس.
الأدهى أنه، ووفقًا لهذا المنظار، ما عاد يُكتفى بالحديث عن النظام الأسدي كـ"نظام النصيرية"، بل كـ"نظام الأقليات المجتمعة"، وربما أمكن من ثم، التبرع بعذر لأعمدة النظام ووجوهه المتحدرة من "القوم الأكثري"، مفاده أنها اجتهدت خطأ، لكن انطلاقًا من غاية نبيلة: محاولة الحد من الطابع "الأقليّاتي" للسياسات التي كانت تُفرض على السوريين!