نريد أبناءنا أحياء

سوف يبقى النضال السلمي للنساء في الكشف عن مصير أحبائهن من أصدق وأنبل أشكال النضال الإنساني، هؤلاء الأمهات اللواتي يحملن قلوبًا لا تُهزم، ويتحرّكن بدافع الحب. وهذا النضال يتجاوز السياسة ليصل إلى جوهر العدالة والحقوق الأساسية.

أرسلت حركة أمهات "ساحة مايو" رسالة منذ أكثر من أربعة أعوام، يتضامنَّ فيها مع المعتقل المصري علاء عبد الفتاح وأمّه الدكتورة ليلى سويف، جاء فيها: "نناضل بالحب لأنّ أولادنا ناضلوا من أجل الحياة والعدالة الاجتماعية". 

خضعت الأرجنتين لحكم ديكتاتوري عسكري بين عامي 1976 و1983، قُتل خلاله أو اختفى أكثر من ثلاثين ألف شخص بحسب بعض التقديرات، فيما بلغ عدد السجناء السياسيين نحو عشرة آلاف، غالبيتهم ممّن اتهمهم النظام الأرجنتيني بالانتماء إلى حركات يسارية معارضة.

بدأت حركة أمهات "ساحة مايو" نشاطها عام 1977، حين اجتمعت أمهات في ساحة Plaza de Mayo أمام القصر الرئاسي في بوينس آيريس، للمطالبة بالكشف عن مصائر أبنائهن. ارتدت النساء مناديل بيضاء ترمز إلى حفّاضات أبنائهنّ وإلى السلام والوحدة بينهنّ، وحمَلنَ أسماء وصور أبنائهن على صدورهنّ. كنَّ يجتمعن كلّ خميس في الساعة الثالثة والنصف عصرًا، ويبدأن بالسير في دوائر صامتة برغم حظر التجمعات العامة. بقيت تلك الأمهات على مدى ثلاثين عامًا يردّدن: "أعيدوهم لنا أحياء". 

تمسّكت "أمهات مايو" بالنشاط السلمي برغم التهديدات والاعتقالات وحتى الإخفاء القسري لبعض أعضاء الحركة. وقمن بنقل قضيتهنّ إلى منظمات حقوق الإنسان والمحافل الدولية. وقد قامت الكاتبة الأرجنتينية ماتيلدا ميلليبوفسكي بتجميع إفادات من 21 أمًّا، وهي نفسها أمٌّ  لطفلٍ مختفٍ، في كتاب "دوائر الحب حول الموت: قصّة أمهات مايو".

تقول ماروني، وهي إحدى أمهات المخطوفين: "في الواقع، لم تتسبّب هذه المأساة في إصابتنا بالشلل. بل على العكس، لقد أشعلت الحماس فينا. لقد منحتنا القوة لبدء السير في طريق لم نكن نفكّر في سلوكه قط. في البداية، سألنا، وتوسّلنا، وقدّمنا الالتماسات المتكررة كي نحصل على معلومات عن أبنائنا. هل ابتلعتهم الأرض؟ وفيما بعد، واجهنا الدكتاتورية مباشرة للمطالبة بعودتهم. لم يُقلقنا من هو الأقوى. إن حبّنا لأبنائنا جعلَنا نتحدى جهازهم القمعي بكامله".

ساهمت هذه الحركة في تسليط الضوء على الجرائم التي ارتكبها النظام، وفي تحفيز ضغط دولي على الحكومة الأرجنتينية لإطلاق سراح المخطوفين والمغيبين. وتحوّلت إلى حركة مستمرة للدفاع عن حقوق الإنسان، وهذا ما حدا بأعضائها للتضامن مع علاء عبد الفتاح ووالدته ليلى سويف.

تفدي ليلى ابنها بحياتها، فهل هناك أنبل من هذا؟ وهل هناك أسمى من هذه المقاومة؟ الموت من أجل الحرية

عُرفت الدكتورة ليلى سويف بنشاطها السياسي منذ أن كانت طالبة جامعية وحتى "ثورة يناير". أما أبو علاء، المحامي أحمد سيف، فقد اعتُقِل مرات عدة في عهد السادات، كما اعتقل لخمس سنوات في عهد حسني مبارك بتهمة الانتماء إلى تنظيم يساري. واعتُقل مرة أخيرة إثر "موقعة الجمل" خلال "ثورة يناير" عام 2011 وأُفرج عنه بعد يومين. توفي أحمد سيف عام 2014 متحسّرًا على ابنه وابنته المعتقلَين، علاء وسناء، في عهد السيسي.

نشط علاء عبد الفتاح كمدوّن منذ عام 2004، حيث طالب باستقلال القضاء المصري عام 2006، ورفض الاعتراف بالمحاكمات العسكرية للمدنيين عام 2011. وبسبب مواقفه تعرض للاعتقال مرات عدة منذ عام 2011، واستُخدم العنف ضده أثناء الاعتقال. حُكِم عليه بالسجن خمس سنوات عام 2013  بتهمة التظاهر من دون تصريح، وما إن أنهاها حتى أُعيد اعتقاله في سبتمبر/أيلول 2019، وبقي عامين من دون محاكمة، ثم حُكِم عليه بالسجن خمس سنوات لمشاركته منشورًا على "فيسبوك" عن ظروف وفاة معتقل، فحوكم بتهمة "نشر أخبار كاذبة باستخدام أحد مواقع التواصل الاجتماعي".

كان يُفترض أن يُطلق سراح علاء في سبتمبر/أيلول 2024 بعد أن قضى محكوميته، إلا أن السلطات المصرية لم تفرج عنه برغم جميع المناشدات والمطالبات، ولم تسعفه الجنسية البريطانية التي منحته إياها والدته ليلى سويف.

بدأت ليلى سويف إضرابًا مفتوحًا عن الطعام منذ نحو ثمانية أشهر، رافعة شعار "تجوع ليحيا"، بهدف الضغط على الحكومة المصرية. وهي الآن ترقد في المشفى في لندن بعد أن انخفض مستوى السكر لديها إلى مستويات متدنية تنذر بالخطر، وليس من المستبعد أن ينهار جسدها في أي لحظة.

تفدي ليلى ابنها بحياتها، فهل هناك أنبل من هذا؟ وهل هناك أسمى من هذه المقاومة؟ الموت من أجل الحرية. يغدو الموت طريقة المقاومة السلمية الوحيدة التي تمتلكها أم علاء في مواجهة آلة القمع. غير أن سويف، قبل أن تغادر مصر، وجّهت كلمة للمتضامنين معها قالت فيها: "أنا لو جرى لي حاجة قبل علاء ما يطلع، الناس تكمّل، معركتكم الصغيرة لحدّ علاء ما يطلع، معركتكم الكبيرة لحدّ ما الناس كلها تطلع، آخر حاجة عايزة قولها أنو رغم كل الناس بتتكلم عن معاناتي ما تنسوش إني أنا محظوظة، أنا بدافع عن ولد أنا عارفة هوّ فين وموجود وبشوفه، أنا ابني وبناتي وأحفادي موجودين. أنا ما دفنتش طفل، ما دفنتش حفيد، أنا مش بدوّر على حد زيّ مصطفى النجار المختفي قسريًا. أنا مش زيّ مامت ريجيني اضطرت تستلم جثة ابن مشوّهة من التعذيب. أنا مش زيّ الستّات في سوريا وفي غزة، مش عارفة قول، أنا محظوظة جدًا رغم كل حاجة".

نعم، ليلى سويف ليست مثل نساء سوريا، برغم معاناتها، كما ذكرت في كلمتها. فكثير من أمهات وأخوات وزوجات وبنات المعتقلين والمغيبين قسرًا في سوريا لا زلن لا يعرفن أي معلومة عن أحبائهنّ بعد سقوط النظام وفتح السجون.

شهدت سوريا اعتقال وتغييب مئات السوريين المناهضين لحكم الأسد الأب، وقام "حزب العمل الشيوعي" بقيادة عبد العزيز الخير، المُغيّب حتى الآن، وبعض الرفيقات، بتنظيم تظاهرة نسائية شبيهة بحركة نساء "ساحة مايو" أمام القصر الجمهوري في حي المهاجرين في 19 آذار/ مارس 1990.

ما زالت عائلات مغيّبين مصرة على معرفة الحقيقة حول اختفاء أحبائها: إن كانوا أحياء، فأين هم؟ وإن قتلوا، فأين قبورهم؟

شاركت في هذه التظاهرة نحو 300 امرأة من أمهات وزوجات وأخوات المعتقلين السياسيين للمطالبة بالإفراج عنهم. وقد نُظّمت هذه التظاهرة بشكل سري. إذ قام عبد العزيز وبعض أمهات المعتقلين بزيارة بيوت المعتقلين فردًا فردًا، واستمرت الزيارات لأكثر من شهر ونصف. وحين تمّ الاتفاق على الموعد، جاءت النساء على شكل مجموعات صغيرة بغية عدم لفت انتباه الأجهزة الأمنية، وتمت الاتصالات بوكالات الأنباء ووسائل إعلام عالمية مثل "رويترز" و"بي بي سي".

استمرت التظاهرة نحو الساعة قبل أن تتدخل أجهزة الأمن وتفرقها بالعنف، ونُقلت المشاركات في باصات إلى مناطق متفرقة من دمشق لقطع التواصل بينهنّ. بيد أنّ هذا لم يضعف المشاركات، بل قمن بتنظيم وقفة أخرى أمام شعبة الأمن السياسي بعد نقل معتقلي حزب العمل الشيوعي من سجن عدرا إلى تدمر.

وفي عهد الأسد الابن، بعد اندلاع الثورة واعتقال مئات السوريين وتغييبهم من قبل النظام وأطراف النزاع الأخرى، تأسست حركة "عائلات من أجل الحرية" عام 2017، ومن أهدافها المطالبة بالحرية لجميع المعتقلين، والوقوف ضد الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي الذي ارتكبه النظام وأطراف النزاع الأخرى. ومن بين هؤلاء النساء السيدة فدوى محمود التي لا تعرف شيئًا، حتى الآن، عن مصير ابنها ماهر طحان وزوجها المناضل عبد العزيز الخير المعتقلين من قبل نظام الأسد.

"هل ابتلعتهم الأرض؟" السؤال الذي طرحته أمهات "ساحة مايو" تردّده فدوى محمود، التي اعتُقلت في عهد النظام السابق بتهمة الانتماء إلى الحزب الشيوعي. نظمت السيدة فدوى وقفات كثيرة أمام السفارة السورية للمطالبة بمعرفة مصير المعتقلين والمختفين قسريًا، ورفعت قضيتهم إلى المحافل الدولية وحقوق الإنسان. وحين سقط النظام وفُتِحت السجون، استبشرت خيرًا بأن ولدها وزوجها قد يكونان من المُفرج عنهم، لكن أملها ذهب سدىً شأنها شأن عائلات كثيرة. فقد اختفت السجلات وتم العبث بالمستندات ولم يُطلق مسار العدالة الانتقالية.

ما زالت هذه العائلات مصرة على معرفة الحقيقة حول اختفاء أحبائها. إن كانوا أحياء، فأين هم؟ وإن قتلوا، فأين قبورهم؟ تقول فدوى محمود: "أريد الحقيقة فحسب، إن كانا قد قُتلا، أريد حفنة تراب من قبريهما". لكنها لن تهدأ، حتى لو عرفت مصيرهما. فطريق النضال طويل، وستستمر بالمطالبة بمعرفة مصير جميع المعتقلين والمختفين قسريًا لدى جميع الأطراف.

سوف يبقى النضال السلمي للنساء في الكشف عن مصير أحبائهن من أصدق وأنبل أشكال النضال الإنساني، هؤلاء الأمهات اللواتي يحملن قلوبًا لا تُهزم، ويتحرّكن بدافع الحب. وهذا النضال يتجاوز السياسة ليصل إلى جوهر العدالة والحقوق الأساسية.

الحرية لعلاء عبد الفتاح ولكلّ معتقل لا أعرفه، والسلام لقلوب الأمهات، جميع الأمهات، في سوريا وفلسطين ومصر.

حوار مع سنان أنطون: ليس الأمل نقيض الذاكرة

بعد روايات "إعجام"، و"وحدها شجرة الرمان"، و"يا مريم"، و"فهرس"، صدرت للكاتب العراقي سنان أنطون رواية "خُزا...

هنادي زرقة
كيف تسلّل العنف إلى الأغنية السوريّة

لم تقتصر الحرب السوريّة على وضع المنظومة كلها تحت طائلة السؤال، بل قدمت ما يشبه منظومة بديلة، ومارست في ف...

هنادي زرقة
الياس خوري: صوت الضحية

يعود الياس خوري في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية ب...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة