جدعة يا ليلى

لا تطمح ليلى سويف إلى تغيير العالم، أو حتى سلوك السلطة التي تختطفنا. لكنها تفعل لأنّ التخلّي عن ابنها "حكم غير منطوق بالسجن مدى الحياة"، لن يكون خيانةً له فقط، بل لاتساقها مع ذاتها.

عرفتُ الخوفَ من خذلان الجسد بعد حادث فقدٍ جلل، تكشّف ما أصابني فيه إثر تعذيب صديقٍ عزيز داخل المعتقل. وظلّت المعركة دائرة لأطمئنّ عليه، حتى أوقعتني أزمةٌ قلبيّة. منذئذٍ والحال غير الحال، ولا أدخل المعركة ـــ والمعارك في المعتقل ضرورةٌ وجوديّة وروتين شبه يومي ـــ بالثقة ذاتها التي كنت أدخلها بها، ليس تشكّكًا ولا غيابًا للإرادة، إنّما لسبق اختبارِ الجسدِ في موضعِ انكسارٍ يمكن أن يهزمك في لحظة مواجهة.

إحدى هذه المواجهات التي انتابتني فيها نوبة هلع قبل أن أحسمها كانت في مواجهة تعذيب زميلين جنائيّين بمعتقل طرة تحقيق، كدتُ أقعُ فيها، وانحاش صوتي فلم أقدر على الصراخ ولا الشتم ولا حتى إبداء الاعتراض على أي صورة. فتحرّكتُ بآليّة، ونمتُ على الأرض بجانب الزميلين. خلعتُ حذائي، ومددتُ قدميّ فوق "الفلقة" بجانب أقدامهما في صمتٍ وحسم. فما كان أمام رئيس المباحث ومخبريه بالعصيّ في أيديهم إلا أن فكّوا وثاقهما وأعادوهما لزنزانتهما، فقمت بالصمت ذاته وعدتُ لزنزانتي الانفراديّة وأغلقوا الباب عليّ.

يمكنُ للجسدِ أن يحسم المعركة، أن ينتصر، تمامًا حيث سقط أو ظننته خذلك.

وهذا ما تعرفهُ ليلى سويف جيّدًا واختبرَته بطول حياتها. في كلّ مرّة اضطرّت لمواجهة، في الجامعة أو الشارع، في النيابة أو في ذاتها: لا أعترفُ بكم، وإن كان أثر بطشكم على وجه حياتي، وفي كلّ تفصيلةٍ منها.

تحكي لي في أسابيع صحبتها ببيت العائلة في بواكير الإضراب عن الطعام، عمّا فعلته في الجامعة، وفي عربة الشرطة. وهي في هذا لا تُضربُ لتناشد ولا لتفاوض ولا لتستجدي. هي فقط تستخدم سلاحها الأخير الذي لا يعرفُ المناورة ولا المهادنة ولا التراجع، ولو حفاظًا على عمرها.

هي فقط تفكر وتقرر، ولتورّط من يتورّط. لا عودة للوراء. سأنقذ حياة ابني وعائلتي ولو كان الثمن حياتي. وهي تذهب بجسدها وإرادتها إلى أقصى ما يصل إليه هذا الجسد من وضوحٍ وحسم حتى الرمق الأخير ــــ حرفًيا لا مجازًا: أن يكون سلاحًا في يدها لا في يد الطاغية.

وحين فقد كلّ شيءٍ معناه، في مصر وسياستها ومجتمعها واقتصادها وحياتها، وحين تحوّلت السياسة والحرب والحريّة إلى مناورات لغويّة بغرض الحصول على فتات، وجب للمعنى أن ينتقل لوسيط آخر، قبل أن يذوي منطفئًا، فحمّلته لجسدها، لا كفعل رمزيّ يمكن إنهاؤه حين يؤدّي رسالته ويُلهم، بل كنصٍّ مباشرٍ لا يحتمل التأويل، كما وجب للرفض بعد أن سُحقت كلّ أدواته أن يعود بدائيًّا قاطعًا في ألصق المساحات بالذات: ذاتها.

حين تُغلقُ الأبواب، يمكن للمرء أن يكون  بذاته بابًا، ناقذةً، وساحة صراع.

الأيقونات لا تفعل، بل تُعلّق، لا تقول، إنّما يُقال عنها، لا تتصرّف، بل تؤوَّل. كما أنّها ــــ وهو الأهمّ ـــ جُرّدت من مخاوف وحدود وشكوك الفعل الإنساني الحقيقي/ الحيّ، ولهذا فهي قد تُلهم، لكن لا تغيّر.

حين قالوا "إحنا ما بيتلويش ذراعنا"، علّقتُ ناصحًا "ليلى لا ترى لكم ذراعًا لتلويه، هي ستفعل كلّ شيء كأمّ لإنقاذ ابنها"

الأيقونة اختزال، تمثيل مفرغ من سياقه وتورّط صاحبه، منتزعٌ من الزمن والظرف ليُعرض خارجه، ويُنتظر منه أن يطلّ من عليائه. ولعلها في هذا تعطّل الأفهام وتجمّل الصراع وتقدّس هذه الصورة من الجريمة التي أوصلت إلى هنا.

أما النضال الحقيقي، الفعل الحيّ الذي تفعله ليلى، فلا يقبل هذه الانتزاعات ولا التجريد. إذ لم يتورّط ليُلهِم، بل ليحافظ على اتّساقه الداخلي. لا يمتلك أجوبة، بل يعيش بوعيٍ زنّان في السؤال ليتخذ موقفه بوجه العدم. لا يدّعي أنه مثال، بل يعيش تناقضاته كلّها دون أن يتوقّف عن المقاومة.

فليلى هنا ليست صورةً للثبات، بل جسدًا حيًّا يتحمّل الألم ويخاطر، ويقاوم بما يظنّه ممكنًا، لا بما قد يصفّق له الجمهور. لا تبحث عن التمجيد، بل تفرض الاعتراف بالمأساة. بالحق. حقّها كأمّ وحقّ ابنها وحقّ عائلتها.

الأيقونة مريحة. تقول بإمكانية البطولة والنقاء، وتحفظ التاريخ ملوّنًا ثابتًا آمنًا في زجاجٍ أو مرمر. لكنّ النضال مقلقٌ لأنّه يعرّي ــــ خذلاننا أو هشاشتنا ــــ يواجهنا بكلفة الحريّة والحياة. ولهذا تزيّف السلطة كلّ أيقونة وتفرض على الناس منها نسخةً مزيّفة منزوعة الدسم والمعنى.

الأيقونات تعلّق على الجدران، لكنّها لا تقودُ في المواجهة.

لكن ليلى لا تفعل، بل تُشهرُ وجهها في وجه الجدار وبنّائيه. لا تصير رمزًا بقبول التمثيل، بل بتفجير التمثيل ذاته حين يهدد يتحنيط المعنى في جسد فارغ من الإرادة وفي سياق فارغ من القيمة. تعرف أنّ ما يغيّر العالم ليس الصورة، بل الصدام بآخر ما لديها (السابع من أكتوبر، عصا السنوار.. نماذج لا تسقط من الذهن وهو يكتب عن ليلى) .

هي هنا لا تطمح إلى تغيير العالم، أو حتى سلوك السلطة المجرمة التي تختطفنا. لكنها تفعل لأنها لا تستطيع ألا تفعل، لأنّ التخلّي عن ابنها مع هذا التصوّر "حكم غير منطوق بالسجن مدى الحياة"، لن يكون خيانةً له فقط، بل لاتساقها مع ذاتها. هي ترفض الانهيار الداخلي، ولو في مقابل انهيار ذلك الجسد الذي يحمل إرادتها وقناعاتها وأمومتها.

هناك نضال لا يطلب النصر وإن تمنّاه، بل يطلب ألا ينهزم الإنسان أمام نفسه.

أتذكّرها وهي تقول "لو بطّلت مش هاعرف أحترم نفسي بعدها"، ردًا على سؤال التراجع عن الإضراب. لم يكن هذا الرعب كلّه قد جرى، وإن توقّعه الكلّ. قلتُ وقتها مخاطبًا السلطة والجمهور وما بينهما من كذّابي الزفّة: "ليلى إذا قالت فعلت، بصرامة وصدق، فافعلوا ما يمكن فعله من الآن".

وحين قالوا "إحنا ما بيتلويش ذراعنا"، علّقتُ ناصحًا "ليلى لا ترى لكم ذراعًا لتلويه، هي ستفعل كلّ شيء كأمّ لإنقاذ ابنها وعائلتها. تصوّر صراع ليّ الأذرع تصوّر غبي وجب إعادة النظر فيه قبل أن تحلّ الكارثة".

وقد حلّت الكارثة إلا قليلًا، بانتظار تفجّرها انتصارًا للمعنى الذي تبنّته ليلى وصارعت لأجله، لكن برعبٍ يفوقُ كلّ احتمال، لا انكسارًا فحسب، إنّّما مقاومةً كذلك، تمامًا كما أرادت ليلى: "لو متّ كمّلوا النضال لخروج علاء وكلّ المعتقلين"، أو بانتظار أن تنتهي هذه الملحمة بختامٍ يليقُ بما كان فيها عبر الـ12 سنة الفائتة، من ألم وحرمان وحصار وتحريض وضربات، بأن تجتمع العائلة حول ليلى، علاء ومنى وسناء، وخالد ولانا، وأهداف وعلاء ــــ الكبير، يحتفلون بتجمّعهم أخيرًا، دون معتقلٍ أو مختطف، خلفهم صورة "عمّو سيف"، وهو ينظرُ لها باتسامة دامعة، وهي تسمعه يسرّ لها غامزًا: جدعة يا ليلى .