هوبز في دمشق.. المجزرة تبدأ بالكلمات

ليس الغرض من هذه المقالة النقاش حول صحة هذه الرواية أو تلك، بل التعامل مع التصريحات الرسمية بوصفها جزءًا من "خطاب الدولة"، فيما نحن إزاء إساءة استخدام للخطاب، في سياق حروب ما دون الدولة.

مرة جديدة يجد السوريون أنفسهم أمام منعطف دموي حاد، قد تختلف مجرياته عن منعطفات سبقته. لكن مقدماته، وحتى أسبابه، قد تتشابه إلى حدّ يقارب التطابق.

في المجريات قد لا يختلف ما يدور في صحنايا كثيرًا عمّا دار في جرمانا، لكن المثالين يختلفان وربما جذريًّا عمّا شهده الساحل السوري في آذار/مارس الماضي. ومع ذلك تكاد الأجواء العامة تكون ذاتها بين تحريض وتجييش وتزايد للخطاب الطائفي، وقصور لخطاب السلطة عن الخروج من خطاب الجماعة إلى خطاب الدولة. 

بينما أعمل على مراجعة خطاب السلطة الانتقالية في دمشق منذ كانون الأول/ديسمبر وصولًا إلى الهجوم على جرمانا وصحنايا في اليومين الأخيرين، قررت الاستعانة بـ توماس هوبز، وتحديدًا كتابه الأشهر "اللفياثان" الذي نُشر قبل نحو أربعة قرون.

ما دفعني نحو هوبز أنّ حضوره بات لازمة شبه ثابتة عند الخوض في نقاش يتعلق بالمرحلة السوريّة الراهنة، وإن كان هذا الحضور يكاد يقتصر على التنبيه من "حرب الكل ضد الكل" التي يحذر منها هوبز بوصفها الحالة الطبيعية التي جُبل الإنسان عليها، والخلاص منها هو في تفويض السلطة المطلقة للدولة.

تستخدم كثير من نخبنا السورية اليوم هذه اللازمة مع كل منعطف دموي تمر به البلاد، أحيانًا قبل المنعطف، وأحيانًا بعده، في دعوة غير مباشرة للخضوع بوصفه ضمانة للسلم الأهلي، مع تجاهل أن هوبز يسوق كلامه في إطار شرح ما ينبغي أن يكون عليه العقد الاجتماعي بين الرعايا من جهة، والسلطة من جهة أخرى، فيعد تنازل الرعايا نوعًا من المشاركة السياسية لأنه "طوعي"، ويؤكد في الوقت نفسه "حق الرعايا في عصيان بعض أوامر السلطة المطلقة إذا كانت تهدد حياتهم"، وبالتالي يبيح للرعايا الحق في الدفاع عن النفس ضد السلطة. 

إذا أخذنا أحداث جرمانا وصحنايا مثالًا، لأنّ الدماء فيهما لم تجف بعد، وحاولنا تطبيق "المقاييس الهوبزيّة" عليهما، سنجد أنفسنا أمام سؤال مُلحّ: من هاجم من؟ وهل اشتبك أبناء جرمانا وصحنايا مع الدولة؟ أم مع مجموعات خارجة عن الدولة؟ ولنبحث معًا عن الجواب في خطاب السلطة الانتقالية (التي التبست بالدولة وتلبّستها منذ شهور). 

على مدخل جرمانا، يُطالعنا مراسل لإحدى الشبكات المحليّة التي أطلقت حديثًا، ويجري لقاء مع "قائد إحدى دوريّات الأمن العام" ويسأله عمّا يحصل، ليجيبه المسؤول: "نحن إخوانكم في الأمن العام موجودون هنا لفض النزاع ما بين أهالي جرمانا وأهالي المليحة، بسبب أن أهالي جرمانا سبوا النبي وأهانوا الرسول".

نحن إذًا ــــ وفق كلام المسؤول ــــ أمام نزاع بين طرفين لا علاقة لهما بالدولة، والأمن العام يحاول فض النزاع بينهما، لكنه في الوقت نفسه يتبنّى موقف أحد طرفي النزاع بطريقة تعميمية فاضحة: "أهالي جرمانا سبوا النبي"، في إشارة إلى تسجيل نُسب إلى أحد شيوخ طائفة الموحدين الدروز، ثم اتّضح أنه مفبرك.

ألم يكن الطلبة الذين هاجموا زملاءهم في حمص خارجون عن القانون؟ أم أن الخروج عن القانون يقتصر على مهاجمة "الأمن العام"؟

يتوجب علينا أن نقول لأنفسنا هنا: "لعلّ المسؤول أساء التعبير، وليس بالضرورة أن يكون كلامه يمثل موقف الأمن العام"، ثم نبحث عن خطاب رسمي يُمثل الموقف الرسمي بوضوح، ونجد ضالّتنا في بيان صحفي صدر عن وزارة الداخلية عبر معرّفاتها الرسميّة قبل وقوع الهجوم الكبير على جرمانا.

نقرأ في التصريح تأكيدًا على أن التسجيل لا يعود للشيخ الذي نُسب إليه الكلام. هذا توضيح مهم فعلًا، لكن التصريح لا ينتهي هنا، بل يأخذ على عاتقه شكر وتقدير "المواطنين الكرام على مشاعرهم الصادقة وغيرتهم الدينية دفاعًا عن مقام النبي". يأتي هذا الشكر برغم أن التعبير عن "المشاعر الصادقة والغيرة الدينية" إنما جاء في شكل هجوم بالأسلحة البيضاء على طلبة من أبناء السويداء في المدينة الجامعية بحمص. 

نبحث عن موقف رسمي آخر، فنقع على بيان لوزارة العدل يؤكد "أهمية اللجوء إلى القضاء لمحاسبة المجرمين ومثيري الفتن". من هم المجرمون المقصودون هنا؟ هل يُعدّ من حمل سلاحًا وهاجم الآخرين مجرمًا؟ أم أنه "مواطن غيور"؟

لا نعلم على وجه اليقين، لكن ما يؤكده البيان ذاته أن وزارة العدل "في إطار حرصها على حماية المقدسات والرموز الدينية لن تتهاون في ملاحقة الاعتداءات، خاصة تلك الموجهة إلى جناب الرسول الأعظم".

كذلك، سنقف على بيان لوزارة الأوقاف، يردد المضامين نفسها، مع الإعلان عن تنسيق بينها وبين النيابة العامة لتحريك الدعوى العامة استنادًا إلى المرسوم 20 للعام 2022 (قانون الجرائم المعلوماتية الذي أصدره الرئيس الفار بشار الأسد).

مرة أخرى من واجبنا أن نسأل: هل قصدت "العدل" و"الأوقاف" المقدسات الدينية؟ أم المقدسات الإسلاميّة؟ هل ستلاحق من ينال من مقدّس أو رمز ديني غير إسلامي كالصليب مثلًا؟ كنيسة؟ مقام؟ وهل تقتصر صلاحية قانون الجرائم المعلوماتية على هذه الحالة فقط، ولا تنطبق على آلاف المنشورات التحريضية ودعوات الإبادة الصريحة التي يضج بها الفضاء الإلكتروني السوري، خصوصًا منذ مجازر الساحل وما رافقها من دعوات نفير شارك في إطلاقها عناصر في الأمن العام رفعوا أصواتهم طالبين الفزعة لأن "العلويين غدروا بنا" (ما أشبه التعميم هنا بـ"أهالي جرمانا سبوا النبي")؟

تدخل ضمن إعاقات الدولة تلك الناتجة من تأسيس ناقص، وهي تشبه أمراض الجسم الطبيعي الناجمة عن إنجاب سيئ

ماذا عن صحنايا وما شهدته وتشهده؟ المعطيات والمعلومات كانت حتى وقت قريب تشير إلى سيناريو مشابه لما حصل في جرمانا: مجموعات (لا تنتمي للدولة) هاجمت البلدة، ووقعت اشتباكات بينها وبين مجموعات أخرى (لا تنتمي للدولة)، لكنّ تصريحات رسميّة سرعان ما حسمت الأمر، ونسبت الهجوم هذه المرة للدولة والأمن العام، واضعة إياه في سياق الرد على "مجموعات خارجة عن القانون من منطقة أشرفية صحنايا هاجمت حاجزًا يتبع للأمن العام".

ليس الغرض هنا النقاش حول صحة هذه الرواية من عدمها، بل التعامل مع التصريح بوصفه جزءًا من "خطاب الدولة"، ما يقودنا إلى التساؤل عن تلك المجموعات التي هاجمت جرمانا سابقًا: ألم تكن مجموعات خارجة عن القانون؟ ماذا عن الطلبة الذين هاجموا زملاء لهم في المدينة الجامعية بحمص؟ ألم يخرجوا عن القانون؟ أم أن الخروج عن القانون يقتصر على مهاجمة "الأمن العام"؟   

قد يقول قائل إن طرح أسئلة من هذا النوع غير مبرّر، لكنه في الحقيقة واجب مُلح، لأن رأس السلطة الحالية سبق أن أكّد أننا على موعد مع "منطق الدولة"، ولأن كثرًا ممن هم في السلطة لم يوفروا فرصة لإطلاق تصريحات تخاطب الخارج حول مسؤولية الدولة والتزامها حماية التنوع والتعدد، ولأنّ كثيرًا من الأمثلة المشابهة قد تضعنا أمام حالة فصاميّة معقّدة، واختلافات هائلة لا بين الكلام والفعل فحسب، بل وبين كلام وكلام آخر يصدر كلّ منهما عن "الدولة" في مقامين مختلفين. 

يُفصل هوبز شارحًا حالات إساءة استخدام الخطاب، فيميز بين أربع حالات أساسية هي "حين يسجل البشر أفكارهم بصورة خاطئة بسبب التباس الدلالات في كلماتهم، وبذلك يخدعون أنفسهم. الثانية عندما يستخدمون الكلمات استخدامًا استعاريًّا، أي بمعنى غير ذلك المخصص لها، وبذلك يخدعون الآخرين. الثالثة عندما يعلنون بالكلمات عما ليس بإرادتهم وكأنه كذلك. والرابعة عندما يستخدمونها ليؤذي بعضهم بعضًا". 

كذلك يميّز  بين المعركة والحرب، ويضع في خانة "حرب الكل ضد الكل" أجواء ما قبل المعركة، التي تُمهد عادة للمعارك بالسلاح، فيتحدث عن "إرادة المنازعة وخوض المعركة" بوصفها جزءًا من الحرب المُحذّر منها، وتندرج هنا إساءات استخدام الخطاب. أما أهم اقتباس أجده مناسبًا للاختتام به فقوله: "تدخل ضمن إعاقات الدولة، وفي المرتبة الأولى، تلك الناتجة من تأسيس ناقص، وهي تشبه أمراض الجسم الطبيعي الناجمة عن إنجاب سيئ". 

من قناة تلغرام إلى فصيل شبحي: القصة الغامضة لـ"سرايا أنصار السنة"

الأسئلة حول "سرايا أنصار السنة" تتجاوز التحقق من وجودها الفعلي إلى تحليل ما تمثله: هل هي تنظيم ناشئ بالفع...

صهيب عنجريني
"المسألة الأويغوريّة" في سوريا: خيطٌ بمئات العُقد

خلال السنوات الأخيرة، لم يعد "الحزب الإسلامي التركستاني" جماعة جهاديّة عرقيّة صرفة، ومن غير الواضح بعد ما...

صهيب عنجريني
في كواليس مجازر الساحل السوري: مرويات دينية وغيبيات وإشاعات

أعدّدت هذا التحقيق استنادًا إلى ثلاثة عشر مصدرًا من سكان اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس وأريافها، بينهم نا...

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة