
في نيسان/أبريل 2004 وإثر انتفاضة الكرد ردًّا على العنف الذي مارسته السلطة السورية بحقهم، التقيت في مدينة عفرين بصحفيين من اليابان، ودار بيننا حوار طويل، لا تزال كثير من تفاصيله عالقة في ذهني، وعلى وجه الخصوص الحديث عن "الشرق الأوسط الجديد" وهدفه غير المعلن: استقرار يوفر بيئة آمنة مستدامة لطرق التجارة، وأنابيب نقل البترول والغاز، والمياه ومصادرها .وأهم عوامل "تحقيق الاستقرار المنشود" هندسة المنطقة ديموغرافيًّا، وأيديولوجيًّا، ولا سيّما، إضعاف والسعي إلى القضاء على المنظمات الأيديولوجية العابرة للحدود.
للمصادفة استعرضنا وقتها مثالين أساسيين: "حزب العمال الكردستاني"، بأيديولوجيته التي هي مزيج من ماركسية متطرفة وهي الجوهر، وشعارات قومية كردية وهي المظهر. أما المثال الثاني فـ"حزب الله" اللبناني، بأيديولوجيته الدينيّة – الشيعية، وولاية الفقيه.
أركز في هذه المقالة على حالة "حزب العمال الكردستاني" بطريقة رياضية (الفرضية ثم العمل على برهان صحتها)، انطلاقًا من فرضية أن "الشرق الأوسط الجديد" يقتضي خلو المنطقة من المنظمات الـ"فوق دولتية".
مسارٌ قديم
خلافًا لما قد يتبادر إلى الذهن، لا يبدو قرار قادة "حزب العمال الكردستاني" المُعلن عنه أخيرًا بحل الحزب أمرًا مستغربًا. هي خطوة ربما تأخر الإعلان عنها. فـ"العمّال الكردستاني" كما عرفه المتابعون، وكما عرّف هو عن نفسه عند تأسيسه عام 1978، لم يعد موجودًا منذ سنوات طويلة، ومسار "الحل" أو "التفكيك" ربما بدأ منذ عقود، وعلى وجه التحديد بُعيد الغزو العراقي للكويت، وما تبعه من ارتدادات أهمها "مؤتمر مدريد للسلام"، ولاحقًا "اتفاق أوسلو" الذي كان أشبه بإعلان انتهاء حقبة الكفاح الفلسطيني المسلح بشكله "الكلاسيكي" الذي اشتهر به في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وبرموزه التاريخية ("فتح"، "الجبهة الشعبية"، إلخ ...).
بالتزامن مع كل ذلك، بدأت عملية التمهيد لإنهاء ملف "حزب العمال الكردستاني". فبينما كان الكرد ينتظرون تحقيق الشعارات والوعود التي أطلقها قادة حزب "العمال"، ومنها: "مطلع التسعينيات سيكون موعد تحرير كردستان الشمالية وولادة دولة كردستان"، فوجئ الكرد بأن محادثات سلام تجري بين الزعيم التاريخي لحزب "العمال" عبد الله أوجلان، والرئيس التركي وقتئذ تورغوت أوزال، بوساطة من زعيم حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" جلال الطالباني، ومما تسرب عن المفاوضات حينها أن أقصى ما قد يحصل عليه الكرد في تركيا نوع من الحكم الذاتي.
وصلت تلك المفاوضات إلى مراحل متقدمة، قبل أن تفرملها الوفاة المفاجئة والغامضة للرئيس التركي، والتي فسّرها البعض ومنهم نجل أوزال نفسه بأنها "ليست وفاة طبيعية إنما عملية اغتيال جاءت ترجمة لقرار الدولة العميقة في تركيا المعترضة على توجهات أوزال".
في المقابل، فإن جناحًا في حزب العمال كان قد لاقى موقف الدولة العميقة التركية، بموقف مشابه معاكس في الاتجاه، وترجم موقفه بعمليات عسكرية عديدة في خطوة تصعيدية. لم تحقق تلك المفاوضات أي مكسب لحزب العمال، بل على العكس وضعت قادة الحزب بمواجهة أول استحقاق صعب أمام مناصريهم الباحثين عن تفسير يشرح لهم أين شعار "دولة كردستان قادمة"، وجلّ ما فاوضوا عليه نوع من الحكم الذاتي؟!
"سبعة أيام مع آبو"
بالتزامن مع المفاوضات بين أوجلان وأوزال، أطلق "حزب العمال" ورشة مهمتها التحضير لعقد مؤتمر كردستاني يشمل كل أجزاء كردستان (في إيران، والعراق، وتركيا، وسوريا)، لكن سُربت معلومات عن نية الحزب تغييب كرد سوريا، ما أثار وقتذاك امتعاض قيادات كردية سورية.
وبرغم محاولة قادة "العمال" تفسير ذلك بأنه "مجرد تكتيك لمسايرة دمشق المحتضنة لقادة الحزب وعلى رأسهم أوجلان"، فإن عقد المؤتمر وتغييب كرد سوريا ترك جرحًا في وجدان الكرد السوريين الذين يُعتبرون الداعم الأكبر للحزب. زاد تقيّح الجرح مع حديث أوجلان في كتاب "سبعة أيام مع آبو" للكاتب السوري نبيل الملحم. إذ نفى أوجلان (المعروف بلقب "آبو") وجود قضية كردية في سوريا، لا من حيث الجغرافيا ولا من حيث الشعب. وقال إن الكرد السوريين "مجرد مهاجرين من شمال كردستان ـــ أي تركيا ـــ باتجاه الجنوب، أي سوريا"، وأنه سيعمل على تصحيح ما جرى عبر إطلاق حملة معاكسة من الجنوب باتجاه الشمال .
كان التحالف بين جبال قنديل وواشنطن بمثابة إعلان "حزب العمال" عن تخليه بشكل علني ورسمي عن أيديولوجيته الماركسية
أيضًا حاول قادة "العمال" التقليل من أهمية ذلك الحديث، تارة عبر نفيه جملة وتفصيلًا، وتارة بزعم أنه مجرد ترجمة خاطئة، وحينًا على أنه "تكتيك سياسي يراعي به حزب العمال دمشق". لكن النتيجة أن نسبة غير قليلة من حاضنة "العمّال" في سوريا صارت تنظر إلى حزبها من منظار جديد، وبدا الأمر أشبه بتهيئة الظروف للمرحلة الثانية: مرحلة ما بعد اعتقال أوجلان. فمع توتر الأوضاع بين دمشق وأنقرة، إلى حد احتمال المواجهة العسكرية المباشرة، رضخت دمشق لطلبات أنقرة، ووقعتا اتفاقية أضنة 1998، ثم طلبت من أوجلان مغادرة الأراضي السورية، ولاحقًا اعتُقل في العاصمة الكينية نيروبي في شباط/فبراير 1999 وسُلّم إلى أنقرة.
ما بعد اعتقال أوجلان
بدت لغة أوجلان أثناء محاكمته غير مألوفة ولا مفهومة بالنسبة لقسم من مناصريه، وقسم من قادة "حزب العمال"، وتوقف كثر عند تفاصيل مثل اعتذاره من أمهات الضحايا الأتراك الذي سقطوا إثر حرب حزبه ضد أنقرة، وتأكيد حرصه على وحدة تركية وسيادتها وازدهارها ورفض أي مشاريع تمس بأمنها، ثم التأكيد على أنه الوحيد القادر على إيقاف هذه الحرب واستعداده لوضع كل إمكاناته في سبيل إحلال السلام وازدهار وقوة الوطن، وطلبه من "حزب العمال" إعلان هدنة يتبعها إلقاء للسلاح، ومن ثم الانخراط في عملية تفاوضية مع أنقرة.
أدت تلك التصريحات إلى تضارب في الآراء بين قادة "العمال"، فقسم أكد ضرورة التزام تعليمات القائد، وذهب البعض أبعد من ذلك فاقترح القيام بمبادرة تهدف لتحرير أوجلان مقابل تسليم عشرات من قادة الصف الأول والثاني أنفسهم لأنقرة افتداء لزعيمهم، فضلًا عن إلقاء السلاح ووقف العمليات العسكرية. فيما رأى آخرون ضرورة اختيار زعيم جديد، والالتزام بالنظام الداخلي للحزب والاكتفاء باعتبار أوجلان مجرد رمز تاريخي للحزب، وعدم الالتزام بكل ما يصدر عنه طالما أنه معتقل، ومنهم من وجد في اعتقال أوجلان فرصة لإزاحة كامل الحرس القديم من قادة "العمال".
كل هذا، علاوة على تدخلات مخابراتية إقليمية، وحملة عسكرية عنيفة شنها "حزب الاتحاد الوطني الكردستاني" من معقله في مدينة السليمانية ــــ إقليم كردستان العراق، ضد مواقع "حزب العمال" على الحدود العراقية الإيرانية، أدى إلى سلسلة انشقاقات بدأت فردية بهروب عناصر من "العمال" وتخليهم عن الحزب، ثم تطورت إلى انشقاقات جماعية كانشقاق جماعة القيادي كمال شاهين (من كرد سوريا واغتيل بعد فترة وجيزة من انشقاقه) وتأسيسه "حزب الوفاق" المعادي لـ"حزب العمال"، وأيضًا انشقاق الشقيق الأصغر لأوجلان القيادي عثمان أوجلان.
شبّاك على واشنطن
بينما كانت أوضاع "حزب العمال" تسوء رويدًا رويدًا، أسهم الموقف التركي الرافض للتعاون مع واشنطن في غزو العراق في فتح قنوات تواصل غير مباشرة بين واشنطن وقيادة "العمال"، ما انعكس انفراجة كبيرة في أوضاع الحزب، ناهيك عن قنوات الاتصال التي تعززت في الوقت ذاته بين قيادة "العمال" وطهران.
كان فتح القنوات بين واشنطن و"حزب العمال" أشبه ببدء الأخير تخليه عن أيديولوجيته التي قام عليها: الماركسية المعادية للرأسمالية والإمبريالية. في تلك المرحلة أعلن "العمال" عن "تأسيس أحزاب خاصة بكل جزء من كردستان"، أي أحزاب تلتزم بالحدود الوطنية، وكان من نتائج ذلك تأسيس "حزب الاتحاد الديمقراطي" في سوريا (PYD).
بوّابة "داعش"
بعد اندلاع الحراك الشعبي في سوريا، ثم تحوله إلى نزاع مسلّح وصعود نجم تنظيم "داعش"، تغيرت معطيات كثيرة على الأرض. في أيلول / سبتمبر 2014، انطلق تحرك تعجز نظريات الاستراتيجية العسكرية والسياسية عن تفسيره، فقرر "داعش" الذهاب شمالًا باتجاه كوباني (عين العرب)، بدل التوجه جنوبًا باتجاه دمشق.
عزّزت غرابة التحرك أن التنظيم لم يكن بحاجة إلى منفذ على الحدود السورية ـــ التركية، إذ كان وقتئذ مسيطرًا على مناطق حدودية عديدة مثل تل أبيض، ومنبج، وجرابلس. جاء ذلك عقب تحرك لا يقل غرابة في العراق، فبعد سيطرته على الموصل وعلى مناطق عديدة وسط وغرب العراق، باتت الطريق إلى بغداد سالكة أمام التنظيم المتطرف، لكنه فضّل التوجّه شمالًا نحو إقليم كردستان (معركة شمال العراق ـــ آب/أغسطس 2014).
كاد "داعش" يسيطر على مدينة كوباني في سوريا، وباتت أربيل عاصمة إقليم كردستان على مرمى حجر من عناصره، وهنا تدخلت واشنطن وأعلنت تشكيل تحالف لـ"محاربة إرهاب تنظيم الدولة"، وصار الكرد جزءًا أساسيًّا من هذا التحالف، وشارك "حزب العمال الكردستاني" بشكل مباشر في العراق، أما في سوريا فقدِم المئات من عناصر "حزب العمال" للقتال في كوباني تحت راية "وحدات حماية الشعب".
"وداعًا للسلاح"
كان التحالف بين جبال قنديل وواشنطن بمثابة إعلان "حزب العمال" عن تخليه بشكل علني ورسمي عن أيديولوجيته الماركسية. وفي تشرين الأول/أكتوبر، أُعلن تأسيس "قوات سوريا الديمقراطية" في سوريا، ويمكن الانتباه بسهولة إلى أن التسمية مهّدت لانتقال مناصري وأعضاء "حزب العمال الكردستاني" (من الكرد السوريين) من تنظيم أيديولوجي ــــ يساري ــــ قومي ــــ فوق دولتي ــــ عابر للحدود الوطنية، إلى تنظيم وطني سوري حليف للغرب الرأسمالي.
أخيرًا، وقبل يومين، أُعلن حل "حزب العمال الكردستاني" رسميًّا، في خطوة كانت متوقعة لا سيما بعد رسالة أوجلان التاريخية في شباط/فبراير الماضي. فهل "نهاية الحكاية"؟ أم مجرد مشهد أريد له أن يكون نهاية الفصل الثاني، على أن تكون نهايةً مفتوحة فاسحة المجال أمام قدرتنا على الاستقراء وشغفنا في توقع أحداث الفصل الثالث؟ الواضح أن ثمة حالة قلق وتوجس في الشارع الكردي، فالكرد يحفظون جيدًا مقولة "ما يكسبه الكردي في المعارك، يخسره على طاولة المفاوضات".