حدود الواقعية ومشاعات الوهم في لبنان بعد الحرب

يقف الخطاب السياسي اللبناني اليوم أمام حالة من الاستعصاء المتبادل. وما يجري في لبنان لا ينطوي على خطاب تسوية كاملة، فلحظة الخيارات القاسية مقبلة على الجميع.

من الجو، يعطي دمار القرى والضواحي والمدن بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان مؤشراتٍ بصريّةً عن ضخامتها، ومستوى الفتك في الأسلحة المستخدمة فيها. ومن الأرض يعطي الدمار الانطباع نفسه، لكن مع مؤشّرٍ إضافي. لا دولة في لبنان بين الركام، لأن هذه الدولة غابت عن عملية البناء السابقة.

أطنان ألواح الطاقة الشمسيّة المحطّمة تفضح الكهرباء المغيّبة. كثرة السيارات المدمّرة تفضح غياب النقل العام. وكثرة الخزانات على الأسطح تفضح شحّ المياه.

هذا الدمار كان من أبرز الأسباب التي أدّت إلى قبول لبنان شروطًا قاسيةً لوقف إطلاق النار. وسلسلة الأحداث الأخيرة بدأت تنتج خطابًا سياسيًا جديدًا، يعيش على إيقاعه البلد المتعب من حروبه، ومن تسوياته الناقصة. 

في محاولةٍ لغويّة متقنة، نجح خطاب القسم للرئيس اللبناني جوزاف عون في التخفيف، إعلاميًّا، من الاختلال في التوازنات الجديدة التي فتحت أبواب البرلمان لانتخابات رئاسيّة متأخرة. مثّل الخطاب بما تضمنّه من جملٍ مفتاحيّة، و”نصف مفتاحيّة"، مسعىً للقول بطريقة غير مباشرة، وملطّفةٍ إلى حدٍّ ما، إنّ هناك غالبًا ومغلوبًا بعد الحربِ الإسرائيلية الأخيرة على لبنان. وأشّرت الجمل الشاعريّة في الخطاب على أنّ "المغلوب" لن يُعامل، في الداخل اللبناني، كمغلوب بطريقة فجّة.

ويمكن الاستدلال على ذلك، ربّما، من خلال أحد مقاطع الخطاب، حيث قال عون: "عهدي أن أدعو إلى مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، بما يمكّن الدولة اللبنانية، أكرّر الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردِّ عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية".

وبمعزلٍ عن المقاربة الرئاسيّة لطريقة تنفيذ ذلك، فقد نال هذا القسم من الخطاب تصفيقًا مطوّلًا، شغوفًا، من كتل نيابيّة لا ينطوي خطابها على ما يشير إلى إنهاء الاحتلال كحاجةٍ سياديّة ثانويّة حتّى. ولم يكن التصفيق هنا للدولة اللبنانية الضعيفة أو المواجهة للاحتلال، بل للمسكوت عنه، ذاك المتمثّل بإنهاء وجود المقاومة كفكرةٍ وأسلوب عمل تحت غطاء الخطاب الرئاسي اللبناني. 

برغم ذلك، يدرك اللاعبون الأساسيون في لبنان، والهامشيون أيضًا، أنّ المسار الحالي ليس بهذا اليسر والاندفاع الذي بثّ الخطاب الرئاسي ذبذباته، لأسبابٍ عديدة. هذا ما يعرفه رئيس الجمهورية قبل غيره. ولا يعني ذلك، أيضًا، تشكيكًا سابقًا لأوانه في رغبة الرئيس الجديد، باستثمار ما يراها فرصة مكتملة الأركان لخلق توازن داخلي كان مفقودًا، انطلاقًا من توازنات اقليميّة معدّلة بقسوة عمّا كانت عليه قبل "طوفان الاقصى".

قدّم "حزب الله" لجمهوره خطابًا واقعيًا انطلاقًا من وزن القوة المتبقيّة، ولرئيس الجمهورية خطاب الفرصة المشروطة، وللخصوم خطاب رفض توصيفه بالـ"مغلوب"

لكنّ العُقدَ التي يقدّم العهد الجديد نفسه حلّالًا لها بطريقة "أبويّة"، هي أكثر صعوبةً وتشابكًا ممّا كانت عليه قبل الحرب المهولة، التي بدأت إسرائيل فصلها الأعنف بعملية تفجير أجهزة الاستدعاء (pagers). لم تكن العمليّة ممهّدةً للحرب الكبيرة فحسب، بل كانت أيضًا العنصر الأكثر تحفيزًا في تشكيل خطاب ما بعد الحرب في لبنان. فلحظة "البيجر" أثّرت في صورة قوة "حزب الله" على نحو شديد السلبيّة، وفي هيمنة هذه الصورة على حيّز واسع من الخطاب السياسي في لبنان، سواء انطوى الخطاب على دعم لهذه القوة أو العكس. 

في المقابل، وفي محاولةٍ "خطابيّة" متقنة أيضًا، ومن القصر الجمهوري، مهّد رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" محمّد رعد لجانب أساسيٍّ من سرديّة الحزب المقبلة. إذ قدّم تصريحه عقب الخسارة في الاستشارات الحكومية مشهدًا جديدًا، خاطب من خلاله فئات عدة.

فلجمهور الحزب، قدّم خطابًا واقعيًا انطلاقًا من وزن القوة المتبقيّة. ولرئيس الجمهورية قدّم خطاب الفرصة المشروطة. وللخصوم، ولعلّها النقطة الأهم، قدّم خطاب رفض توصيفه بالـ"مغلوب"، وبأنه يجب أن ينفّذ ما يُملى عليه.

هذا الأمر هو محلُّ قناعة لدى الحزب، وليس أداةً "إنكاريّة" للواقع المرير. فإذا كان دمار غزة الهائل لم ينتج مشهد هزيمة لحركة "حماس"، لماذا ينتج الدمار اللبناني، الأقل بكثير نسبيًّا، مشهد هزيمة ساحقة للحزب كما يصور خصومه؟ 

يحاول الحزب الاستناد إلى عناصر صلبة في المشهد الجديد، ليضفي تماسكًا على خطابه بعد الحرب. لا خيار له غير ذلك، بعدما تبيّن أن "خطاب النصر" لا ينطوي على ما يمكن أن يترجمه سياسيًّا، بل حتى شعبيًّا ضمن الجمهور الواسع للمقاومة في لبنان. 

كما أنّ تعزيز جرعة الواقعية يسهّل من امتصاص الخطاب المضاد، بما فيه من عدائيّة مكثّفة وممنهجة ضد الحزب. من هنا تحضر العناوين التي اختارها رعد في كلمته كمحدّدات يكرّسها الخطاب للتوافق أو التخاصم أو عقد التسويات، وهي: تحرير الأراضي المحتلّة، وتحرير الأسرى، وإعادة الإعمار، والتنفيذ "الصحيح" للقرار 1701 بما لا يهدّد "العيش المشترك". 

اليوم، باتت هذه العناوين تمثّل امتحانًا لخصوم الحزب، برغم أنّهم، بـ"فروعهم" المختلفة، لا يتعاملون مع الأمر على هذا النحو. ويمكن فهم ذلك من خلال خطابهم بـ"فروعه" المختلفة أيضًا، إعلاميًّا وسياسيًّا وعبر منصّات التواصل الاجتماعي. وهو خطاب يحتوي على كلّ ما يفيد استخدامه للإجهاز السياسي على المقاومة. هذه أولويّتهم، وهي تعكس مدًا إقليميًا يتركّز اليوم في العراق ولبنان والسلطة الفلسطينية، وهو امتدادٌ طبيعيٌّ لخطاب إقليميٍّ أسّست له "اتفاقات أبراهام" للتطبيع بين دول عربية وكيان الاحتلال. 

يتقن خصوم الحزب توظيف الثغرات التي يتجاهلها خطابه السياسي منذ عشرين عامًا، وينجحون في استحداث معادلاتٍ إعلاميّة تضعه وجمهوره في خانة ردّ الفعل

والحال أن وضع خصوم الحزب جميعًا في هذه الخانة أمر مجافٍ للدقّة. كما أنّ الخصومة مع الحزب لا يمكن اعتبارها معيارًا من معايير وطنيّة الخطاب أو عكس ذلك. غير أن الخطاب المهيمن في تيار الخصوم السياسي هو الأكثر تطرّفًا اليوم، والأكثر ترويجًا لتأويلات شديدة الحدّة لنتائج الحرب وأسبابها: من الشماتة السياسيّة التي تأخذ حيّزًا كبيرًا من الحديث المتداول بين الأفراد، وصولًا إلى زلّات التمنيّات بانتصار إسرائيليّ ساحق، والحنق الذي قفز من الوجوه عندما بات اتفاق وقف إطلاق النار أمرًا واقعًا. 

ففي إحدى إطلالاته، مثلًا، اعتبر السياسي اللبناني فارس سعيد أنّ بقاء عدد من جثامين شهداء المقاومة في العراء قبل العثور عليها، هو جزء من عملية محاسبة الحزب. ومن يرصد خطاب جهات أخرى كـ"القوات اللبنانيّة" وقسم من المؤثرين المحسوبين على "التغييريين"، لن يصعب عليه التقاط موجات عدائيّة ضد الحزب وجمهوره، ومستقوية بالنفوذ الأميركي المتنامي بعد الحرب، مهما قيل غير ذلك. 

 أمّا الخطاب الذي يتعامل مع مئات الخروقات الإسرائيلية بوصفها تطبيقًا إسرائيليًا للاتفاق، لا خرقًا له، فيتمحور حول فكرة أساسية مفادها أنّ الموقعين يجب أن يعرفوا علامَ تم التوقيع، علمًا أن اتفاق وقف إطلاق النار لا يتيح للاحتلال ارتكاب هذه الخروقات، ولا يسمح له بالتنفيذ عسكريًا. يتجاهل أصحاب خطاب "انظروا علامَ وقّعتم" هذه المعطيات الواضحة، ويستثمرون مشهد تدمير القرى الحدودية في سياق يتراوح بين التشفي وتبرير فظائع الاحتلال. 

يتقن خصوم الحزب اليوم توظيف الثغرات التي يتجاهلها خطابه السياسي منذ عشرين عامًا تقريبًا ـــ أي منذ بدء مشاركاته الحكومية وتحوّله من طرف معارض إلى شريك حاسم في السلطة ـــ وينجحون، كما هو الحال منذ 14 شباط/فبراير 2005، في استحداث معادلاتٍ إعلاميّة تضعه وجمهوره في خانة ردّ الفعل.

اليوم، يُقدَّم خطاب بناء الدولة بوصفه نقيضًا لخطاب المقاومة. وهذه مسألة لا بدّ من نقاشها لبنانيًّا، برغم أنّ تكريسها إقليميًّا وفق التأويل الأميركي يسير على قدمٍ وساق. لكن في أي سياق يمكن نقاش هذه المسألة في لبنان؟ 

أين الإبادة الإسرائيلية الممتدّة بآثارها لعقود مقبلة؟ هذه ليست حاضرة في مكوّنات هذا الخطاب. ما السبل الواقعيّة للتعامل مع العقلية المجتمعية الإسرائيلية التي دعمتها؟ ليست هذه حاضرة أيضًا. يذهب هذا الخطاب إلى شيطنة المقاومات الجريحة وتحميلها مسؤولية ما جرى. أما الفظائع الإسرائيلية، فغير موجودة سوى بشكل محدود بالمقارنة، مثلًا، مع ما يرد في خطاب مسؤولين أمميّين دفعوا أثمانًا باهظة لقاء قولهم شيئًا من الحقيقة التي يرادُ حجبها عن العالم. 

لم يؤدِّ هذا الخطاب في لبنان، تاريخيًّا، سوى إلى تعزيز التصوّرات المتطرفة لدى من يعتبر نفسه في دائرة من يُراد الإجهاز عليه. ولعلّ أصحاب خطاب الشماتة والابتزاز والتطبيع (المقنّع حتى اليوم) لا مانع لديهم في ذلك، طالما أنّ الأمر يستولد المزيد من العنف الذي يرتدُّ سلبًا على صاحبه، وربّما هذا واحد مما يُنصب للحزب من أفخاخ. 

يقف الخطاب السياسي اللبناني اليوم أمام حالة من الاستعصاء المتبادل. وهو يشبه في مبانيه المتضادّة ذاك السجال الذي دار حول التكنولوجيا مقابل الأيديولوجيا بوصفهما يرمزان لطبيعة الحرب الأخيرة، حيث تسوّق فكرة امتلاك التقنيات الحديثة والبطش بأدواتها كمحدّدٍ لأحقيّة فرض الشروط في الحروب. فإن لم تكن قادرًا على مجاراة عدوك في قوّته وذكائه الاصطناعي، فلماذا تواجه؟ ادفع الثمن فحسب.   

ما يجري في لبنان لا ينطوي على خطاب تسوية كاملة. ولا يكفي استناد التحليل إلى أحداث تنفّس الاحتقان السياسي مؤقتًّا. فلحظة الخيارات القاسية والصعبة مقبلة على الجميع. والخطاب المهيمن في لبنان اليوم بفعل نتائج الحرب الإسرائيلية، يؤسّس لدوامةٍ جديدةٍ من محاولات السيطرة والقمع وإنكار هواجس جماعة لبنانيّة كبيرة.

وبينما تنتظر لبنان في الصيف المقبل أزمة شحّ مياه بفعل ندرة المتساقطات، لا يحلّ نهر الليطاني في النقاش العام إلا بوصفه محددًا لواحد من المجالات التي تريد إسرائيل أن يكون لبنان فيها أعزلًا. 

وثمّة خطاب لبنانيٌّ يصفّق لذلك. يصفّق للعطش باسم السيادة، ويسرح في مشاعات الوهم الذي قد يفجّر مواجهات في الداخل.