
لكلّ مبدع سوري حصته من غنيمة الأعمال الممنوعة أو المحظورة أو الموءودة! فالخشية من مقص الرقيب والمخفر الذي يتجوّل في الرأس أحبطا مشاريع بالجملة، انتهت إلى الأدراج. كأن "المكتوبجي" العثماني لم يغادر أختامه وقائمة ممنوعاته، باختلافات طفيفة فرضتها اللغة المراوغة التي لجأ المبدعون إليها بتمرينات ودورات تدريبية شاقة.
نصف قرن من المعارك الضارية بالسلاح الأبيض واستخدام المجاز كجسر عبور نحو النصّ المشتهى. نحن، إذًا، حيال وليمة دسمة من الانتهاكات والحسرات والخوف.
إعادة عرض فيلم "نجوم النهار" للمخرج أسامة محمد في غاليري زوايا في دمشق بعد نحو ثلاثة عقود على منعه (1988) أحالنا إلى أغرب قضية منع رقابي شهدتها الساحة السينمائية السورية. فبحسب ما هو متداول، وجدت لجنة الرقابة في وزارة الثقافة نفسها في ورطة. ذلك أن الفيلم يفكك بعنف آلية عمل السلطة بأقصى درجات الطغيان: عنف بصري في مواجهة عنف ديكتاتوري، بالإضافة إلى استعمال لهجة الساحل في حوار الشخصيات، ما زاد في الطنبور نغمًا.
وكان الحلّ أن يشاهد الرئيس حافظ الأسد الفيلم بصحبة فيلم آخر هو "ليالي ابن آوى" للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد (1989)، الفيلم الذي يرصد البيئة نفسها ولكن بتحديقة مختلفة تنطوي على فكاهة ريفية محببة.
ضحك حافظ الأسد أثناء مشاهدة الفيلم الثاني، وتجهّم واكفهر بالنسبة للفيلم الأول، ففهم الرقيب أن "نجوم النهار" ممنوع من العرض الجماهيري، فيما أتيح له التجوال في أكثر من مهرجان عربي وعالمي!
ولكن، مهلًا، هناك آثام أخرى سبقت هذه الواقعة. إذ سبق أن مُنع أكثر من فيلم تسجيلي للمخرج الراحل عمر أميرلاي، كان أولها "الحياة اليومية في قرية سورية" (1974)، ثم "الدجاج"، ثم "طوفان في بلاد البعث"، وكان للمخرج محمد ملص حصته من الأفلام والسيناريوات الموءودة بدءًا من فيلم "فرات" (1978) مرورًا بسيناريو "سينما الدنيا" إثر تقرير كيدي من زميل قديم(!) وانتهاءً بفيلم "سلّم إلى دمشق"(2013).
سوف يصوّر زياد كلثوم كواليس فيلم محمد ملص الأخير ويمزجه بسيرة ذاتية تخصه، وذلك بتوثيق لحظة هروبه من ثكنته، إذ كان يؤدي الخدمة الإلزامية برتبة رقيب، ساخرًا من شعار "القائد الخالد" بتسمية فيلمه "الرقيب الخالد".
كنّا نمدّ أعناقنا يمينًا ويسارًا مثل زرافات بلهاء للاطمئنان بأن أحدًا لا يتجسس على أحاديثنا
على المقلب الآخر، سنقع على مفارقات لا يمكن أن تحدث إلا في ظل رقابة متشدّدة، ليس كفرمانات مكتوبة وإنما بقوة تعليمات شفوية تبعًا لجسارة الرقيب أو جبنه وذائقته الشخصية. فإما أن "يطج" ختم الموافقة أو الرفض. هكذا، وجد أحد محرري الأخبار المحلية نفسه في ورطة صياغة خبر عن هروب أسد من قفصه في حديقة الحيوانات قبل أن يجد حلًّا مثاليًا، إذ استبدل اسم الأسد باسم آخر، فخرج الخبر على النحو الآتي: هروب "سبع" من حديقة الحيوانات في دمشق!
وسيزداد الأمر سوءًا بما يخص مجلة "أسامة" المخصصة للأطفال. ففي القصص المنشورة في المجلة منذ تأسيسها عام 1969 إلى اليوم، لن نجد قصة واحدة عن "ملك الغابة". فقد اكتفى كتّاب القصص بذكر النمر أو الفهد أو الذئب كتعويض عن شخصية الأسد المغيّبة قسريًا!
كما ستُمنع عشرات الكتب لأسباب رقابية تبعًا لأهواء الرقيب، أبرزها كتب ابن تيمية التي عادت أخيرًا إلى واجهات المكتبات، وليس آخرها روايتي "القوقعة" لمصطفى خليفة، و"بيت خالتي" لأحمد خيري العمري، بالإضافة إلى كتب أخرى كانت تباع سرًا أو "تحت الطاولة".
هناك نصّ آخر عصي على التجنيس يخص الملاهي الليلية، إذ كان على مغنّي تلك الملاهي أن يبدأ أحدهم السهرة بموال يحيي القائد وشجاعته ثم ينخرط بأغاني الدبكة والعتابا المجروحة. وفي الفضاء نفسه سيمنع "الشوباش" أو "النقوط" بفئة الألف ليرة سورية التي تحمل صورة الرئيس والاكتفاء بفئة الخمسمئة ليرة. وسوف تتسع دائرة المنع إلى طباعة ورقة النعوة أو إقامة عرس، أو إطلاق معرض تشكيلي دون موافقة الجهات الأمنية.
"نعم هناك المزيد"، في حال اندلقت أحشاء الحقبة السوداء إلى آخرها. الحقبة التي علّمتنا الخوف والخشية والريبة (كان أحد الأصدقاء يروي النكات السياسية باللغة الإنكليزية خشية أن يفهمها من يجلس إلى الطاولة المجاورة، وكنّا نمدّ أعناقنا يمينًا ويسارًا مثل زرافات بلهاء للاطمئنان بأن أحدًا لا يتجسس على أحاديثنا).
يا لهلاكنا الطويل ويا لمرضنا المزمن في ظل قبضة فولاذية تركت وشمها على أجسادنا وأرواحنا مثل لعنة أبدية.
في كل الأحوال، نحن نلعب في الوقت المستقطع بين شوطين، فربما ينتظرنا هلاك آخر! ذلك أن الرقابة الجديدة لا تزال غامضة بتعطيل عمل وزارة الثقافة، وتاليًا هناك خشية من فرمانات صارمة تطيح ما كان متاحًا في الحقب السابقة لجهة الفنون مثل قسم الباليه في المعهد العالي للفنون المسرحية أو نوعية النصوص التي تقترحها خشبة المسرح، وما إذا كانت المؤسسة العامة للسينما ستستمر بإنتاج الأفلام.
أسئلة تستدعيها ممارسات مضادة بدأت تتسلل إلى الشارع العمومي على هيئة ملصقات تحتوي على تعليمات تتعلّق بلباس المرأة المسلمة، وفرمانات تدعو إلى عزل النساء عن الرجال في حافلات النقل.
وفي حال جرى تطبيق هذه الطبعة إلى الأعمال الإبداعية، فنحن مقبلون على معركة جديدة في رفع منسوب حرية التعبير المضمخة تاريخيًا بالطعنات والرضوض والخسارات.