لعنة المونتاج التي طاردت قيس الزبيدي (1939- 2024) طوال تجربته السينمائية المتعددة بوصفه مونتيرًا ومخرجًا، ومؤرخًا سينمائيًا، انعكست على جسده أيضًا، إذ انتهى بأطرافٍ مشلولة وكرسي بعجلات، ومنفى.
كأن الزمن "مافيولا" أخرى، تقتطع اللقطات الفائضة من الفيلم بمشرطٍ حاد، وتُلقي بها إلى العتمة. إلّا أن سيرة هذا السينمائي بهوياته المختلفة مشبعة بالضوء وإشراقات الصورة وجماليات الكادر، في رحلة امتدت من بغداد الخمسينيات كمسقط رأس، مرورًا بدمشق وبيروت السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، وانخراطه في هموم السينما الفلسطينية وتوثيقها، وانتهاء ببرلين التي انطفأ فيها ليل الأحد.
من حي "الحيدر خانة" في بغداد، حيث الهروب من المسجد إلى دور السينما، بدأ شغف قيس الزبيدي بالصور، وسيحالفه الحظ ببعثة دراسية إلى برلين الشرقية. هناك تعلّم مهنة "المونتاج"، وأنجز أطروحة نظرية عن طرق المونتاج في سينما أندريه تاركوفسكي.
في دمشق، أوائل السبعينيات، انخرط في ورشة "السينما البديلة" التي اشتملت على كوكبة من السينمائيين الطليعيين؛ فعمل أولًا على مونتاج فيلم "إكليل من شوك" لنبيل المالح، ثم في فيلم "رجال تحت الشمس ــــ 1970"، ككاتب سيناريو ومونتير مع محمد شاهين ونبيل المالح ومروان المؤذن، ثم في الفيلم التسجيلي "الحياة اليومية في قرية سورية" مع كل من الراحلين سعدالله ونوس وعمر أميرالاي، وفيلم "السكّين" مع خالد مادة، ومع المخرج العراقي قاسم حوَل فيلمه "اليد"، ومع الأردني عدنان مدانات في فيلميه "التكية السليمانية" و"لحن لعدة فصول"، ومع اللبناني كريستيان غازي في فيلمه التجريبي "مئة وجه ليوم واحد"، ومع محمد ملص في فيلم "المنام".
تجربة ثرية ستقوده إلى السينما الرواية كمخرج في فيلم "اليازرلي"(1974) عن قصة لحنا مينة، وقد عُدّ هذا الشريط أهم فيلم تجريبي في تاريخ السينما السورية البديلة، نظرًا لمقترحه البصري المختلف، وجرأته في اقتحام مناطق محرّمة، تتعلق بالطفولة المنتهكة، وأحوال العمل في الميناء، وسطوة "اليازرلي" أحد تجّار أكياس الحنطة، وشهوات الجسد المقموع، وبهجة طفل يهجر المدرسة وينطلق إلى العمل لمساعدة عائلته الفقيرة، عبر تشابكات سردية معقّدة، تنطوي على عناصر شعرية وملحمية تعتمد في بروزها على وسائل بصرية مونتاجية.
سوف يُمنع الفيلم رقابيًا، عدا عروضٍ خاصة، كما أنه لم يعجب حنا مينه الذي اعتبر أن الفيلم يمثّل طفولة المخرج أكثر مما يقارب طفولته هو.
الأدب ليس مطابقة للحياة، والسينما ليست مطابقة للأدب، يقول قيس الزبيدي
يقول قيس الزبيدي عن هذه التجربة: "فيلم استحق العقاب اللازم به، ليس فقط لأنه محاولة شكلية جديدة فحسب، بل لأنه احتوى على مشاهد إيروتيكية مستمدة من أدب حنا مينه". ويضيف: "المقارنة يجب أن تتم مع النص الأدبي السينمائي وليس مع القصة، لأن عناصر السرد الأدبية مغايرة لعناصر السرد السينمائية. يبقى الأهم: وضع إبداع سينمائي إزاء نوعية أدبية، مع المحافظة على روح الأفكار وتفسير جوهر الأحداث الأصلية. هنا يجب أن تجرى المقارنة. فالأدب ليس مطابقة للحياة، والسينما ليست مطابقة للأدب".
هكذا كان هذا الفيلم بمثابة بيان في اللغة البصرية للسينما العربية، وطموحًا تشكيليًا لوسيلة السرد السينمائي المختلف عن أفلام تلك الحقبة في السينما العربية.
يظن كثر بأن قيس الزبيدي مخرج فلسطيني في المقام الأول. إذ ارتبط اسمه بهذه السينما كمخرج ومؤرخ وسيناريست، بدءًا من فيلمه "بعيدًا عن الوطن ــــ 1969" وفيه يرصد أحوال أطفال فلسطينيين من لاجئي 48 ونازحي 67 في مخيم السبينة قرب دمشق، وذلك عبر لغة سينمائية "تعاملت مع مفهوم الزمن واللقطة والتتابع الزمني فيها بشكل جديد وغير مسبوق في تطوير النظرة للفيلم التسجيلي"، ولجهة استطاعة "هذا الفيلم تقديم قراءته للواقع بعيدًا من الأفلام الموصى عليها، أو تلك الأشرطة ذات النزعة الإعلامية المباشرة، مما جعل قيس الزبيدي يتصدر الأفلام التسجيلية التي حققها السينمائيون السوريون".
وسوف يتابع مشروعه كمخرج بأفلام "الزيارة- روائي ــــ 1970"، و"شهادة الأطفال في زمن الحرب ــــ تسجيلي ــــ 1972"، و"وطن الأسلاك الشائكة ــــ 1980" و"مواجهة ــــ 1983" و "ملف مجزرة ــــ 1984" و"فلسطين... سجل شعب ــــ 1985"، و"واهب الحرية" عن المقاومة اللبنانية، و"فلسطين عنوان مؤقت" حول تاريخ الاستيطان الإسرائيلي ماضيًا وحاضرًا.
تُرى هل كان العيش طويلًا داخل السينما، وفي فضاء المونتاج له دور في أن يتسرّب المونتاج إلى التكوين الذهني للإنسان؟
في كتابه "قيس الزبيدي ــــ الحياة قصاصات على الجدار"، يستعيد محمد ملص سيرة صداقة جمعته بهذا الفنان المرهف لنحو نصف قرن، على هيئة لقطات متجاورة تختزل همومهما المشتركة في السينما والحياة مثل بحّارين في سفينة واحدة".
رافقا كاميرا مشاغبة ومتمردة في أوطان تحكمها سلطة تبدأ بالرقيب وتنتهي به". ثم ستجمعهما الأقدار بمقولة للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي تمثّل حالهما معًا؛ "كيف كان في وسعي أن أتخيّل، حين كنت أحقق فيلم (نوستاجيا)، أن ذلك الشعور الخانق بالحنين، الذي يملأ فضاء الشاشة، سوف يصبح قدري بقية حياتي".
ويتساءل أخيرًا "تُرى هل كان العيش طويلًا داخل السينما، وفي فضاء المونتاج له دور في أن يتسرّب المونتاج إلى التكوين الذهني للإنسان، وإلى دهاليز روحه وعالمه الوجداني؟".
وفي شهادة للناقد فيصل درّاج، نتعرّف بعمق على جوهر تجربة الراحل بقوله "يعاند قيس الزبيدي في أفلامه الفلسطينية المادة الوثائقية، ويروّضها معًا: يعاند محدوديتها، وهو يرفض الخضوع إلى المادة التي وجدها، ويتمرّد على سلطتها، حين تملي عليه ما أملته على غيره. ففي المادة الوثائقية الفلسطينية، المصاغة من التهجير والسجون وبؤس المخيّمات، ما يقيّد حركة الفنان ويحاصر تصوّره، كما لو كان المأساوي الفلسطيني يسيطر على غيره، ولا يُسيْطر عليه. غير أن قيس الزبيدي، الذي يُعيد صياغة المأساوي، يُسيطر على المادة الضاغطة، الذاتية المستقلة والمنظور الفني. لذا فإنه يقدّم المادة الوثائقية، كما يراها، حيزًا للإيحاء والإيضاح والمساءلة، قبل أن تكون شريطًا من الصور المتواترة. هكذا يعلن، وهو يخلق فيلمًا متعدد العناصر، عن مرونة الحياة وقلق الفنان وتمرّد العمل الفني على الاختصار والأفكار القاطعة. تتضمن سينماه في موضوعها الفلسطيني ثلاثة أسئلة على الأقل: كيف تبني خطابًا سياسيًا متسقًا من مجموعة الصور المتعاقبة؟ وكيف تنشئ خطابًا لا يصادر فيه الانفعالي العقلاني، ولا تطغى فيه الصرخة على الصورة؟ وكيف تجعل من المتفرّج علاقة داخلية في الفيلم لا علاقة سلبية خارجية؟".
على المقلب الآخر، أنجز قيس الزبيدي مجموعة من الكتب والترجمات حول الفن السينمائي، أبرزها "فلسطين في السينما"، و"المرئي والمسموع في السينما"، وفي البدء كانت الكلمة ــــ السيناريو"."