في وداع ما نحبّ

بيتي في الضاحية الجنوبية لبيروت، وغرفتي التي جمعتُ فيها كل ما يعكس شخصيتي: كتبي، الورد المجفف، الزيوت المعطرة، ومقتنياتي الفنية، أصبحت الآن مائلة، معلقة في السماء، معرضة للانهيار في أي لحظة. 

في حرب تموز 2006، فقدتُ رغبتي في العزف على البيانو، ومعها ذاكرتي لمعزوفاتي الموسيقية. وبرغم قسوة المشهد، فقد كان لدينا يقين غريب بأننا لن نفقد "البيت". لا أعلم من أين جاء هذا اليقين. والحق أن البيت نجا بأعجوبة، ربما للمرة المليون. لكنه، للأسف، لم ينجُ هذه المرة، وحصل ما كنا نخشاه.

يقع "البيت"، منزل عائلتي، في الضاحية الجنوبية لبيروت. تلك المنطقة التي عانت من ويلات الحروب والمآسي مرارًا حتى يومنا هذا. تركَت كل الحروب تلك بَصمتَها على "البيت"، حتى جاءت الحرب الأخيرة لتضعه على "إجر ونص". 

ولم تترك الحروب بصمتها على البيت فحسب، بل طالتني أيضًا قبل أن أُولد. تأثر نطقي بسبب ارتجافة خوف أصابت أمي عندما سقطت قذيفة قرب منزلنا مطلع التسعينيات. الحروب لا ترحم. حتى الأجنة تتحمل أوزارها.

مع ذلك، ومن بين كل الآلام، كان علاج النطق الذي تلقيته كطفلة من أجمل الهدايا التي خرجت بها من تلك التجربة. كان أبي يأخذني أسبوعيًا إلى مركز العلاج في بيروت. تلك الرحلات أصبحت ذكرى دافئة؛ مكان أحاطني بالحب والأمان. بحثت لاحقًا عن ذلك المركز، ولو عثرتُ عليه لذهبتُ ألاقي المعالجين فيه، لأشكرهم جميعًا وأحتضنهم.

لا تزال التأتأة ترافقني حتى الآن، تظهر عندما أشعر بالتوتر أو ضيق في التنفس. لكنني لم أعد أخجل منها؛ أصبحت جزءًا من قصتي، تمامًا كما أن "البيت" جزءٌ من حياتي.

هذه الحرب الأخيرة، كانت الأشرس. شنّ العدوّ غاراتٍ مكثفةً على حيّنا. مع كل إنذار جديد عن غارة، كنت أشعر بضيق لا يُوصف. عايشنا الحرب "لايف"، عبر الشاشات والإنترنت، يا لها من معاناة مضاعفة. رأينا منازلنا وأحياءنا تُدمَّر أمام أعيننا، عاجزين عن فعل أي شيء. أدركتُ حينها أن هذه نهاية الحكاية: حكايتنا مع منزل الطفولة ومع الحيّ الذي احتوانا.

تسبب القصف العنيف في سقوط عدد كبير من المباني المحيطة بنا، بعضها ملاصق تمامًا لنا، ما زعزع البنية التحتية لعمارتنا المتصدعة.

كنت قد تخيّلت، منذ بدأت الحرب على غزة، أسوأ السيناريوهات لما قد يحدث لنا، لكنني لم أتوقع يومًا أن تتحول غرفتي الحبيبة، ملجئي الآمن، إلى معرض مفتوح في الهواء الطلق. غرفتي تلك التي جمعتُ فيها كل ما يعكس شخصيتي: كتبي، الورد المجفف، الزيوت المعطرة، ومقتنياتي الفنية، أصبحت الآن مائلة، معلقة في السماء، معرضة للانهيار في أي لحظة. 

أقف عاجزة أمامها، قريبة منها، لكن الوصول إليها مستحيل.

عند "انتهاء" الحرب، قيل لي: "منيح إنها انقضت بالبيت". ما زلت حتى الآن عاجزة عن فهم أين "المنيح" في هذا الكلام. هل يجب أن يموت الجسد لنحزن؟ أليس من حقنا أن نحزن على ذكرياتنا؟ على الأماكن والأشياء التي كانت جزءًا من أرواحنا؟ 

حيطان بيتنا شهدت أول ضحكاتنا، والكثير من أعياد الميلاد المشتركة، والحزن والفرح وما بينهما. كانت شاهدة على أحلامنا، تلك التي نجحت وتلك التي فشلت. هذه الحيطان تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

في عام 2013، كانت المرة الأولى التي نترك فيها البيت، أو بالأحرى "نهجره". حدث ذلك بعد التفجيرات الإرهابية التي استهدفت حيّنا. كان ذلك كابوسًا حقيقيًا؛ سواد خيّم علينا، ولم يكن أمامنا سوى الرحيل. تركنا البيت حينها، وظننا أن الحكاية انتهت.

أما هذه المرة، فقد كانت النهاية الحقيقية. ربما كان يمكن أن تكون النهاية أقل قسوة، لكننا مجرد جزء صغير من سيناريو أكبر. حكايتنا واحدة من بين مئات القصص التي تُروى، وأخرى تُخفى.

نجونا هذه المرة. نعم، نجت أرواحنا، لكن لا أعلم كم ستبقى ذكرياتنا صامدة. كنت أحلم بصنع المزيد من الذكريات لي ولطفلي في "البيت"، في غرفتي، في المطبخ، في زاوية الصالون، وحتى على البيانو. أما الآن، فلا شيء يُقال سوى كم أكره "الوداع".