
يوم أحد عادي في الضاحية الجنوبية لبيروت قُبيل اندلاع الحرب على إيران. ننصرف نحن "الآخرون" [1] إلى شؤوننا. جاثمين على صدر التنين. قد يبدو ذلك سورياليًا بحد ذاته. كمن باشر بترميم منزل ما زالت تأكله النيران، أو كمن يرتق قلبًا سينزف أبدًا. الزحمة أكبر هذه الأيام، عائلات كثيرة حرمها المحو من رحلة نهاية الأسبوع إلى قريتها الجنوبية، فتستعيض عنها بغداء على الشرفة.
في غضون دقائق، يتبدل المشهد. يقرر طارئ ما على هذه الأرض أن يعيد ترتيب النهار. خريطة "إخلاء" جديدة ينشرها جيش الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي. هي نفسها التي سنستخدمها بعد قليل للاطمئنان على من نجا. الهدف مبنى ملون بالأحمر. ابتعدوا عن الهدف 300 متر. المسافة بين النجاة والزوال. "دقيقة ومحددة بالأرقام". ثقوا بنا واختاروا سريعًا.
تبتعد مجموعة من الشبان عن المكان، يقفون عند نقطة كاشفة. ينتظرون الغارة. لا يرفعون هواتفهم للتصوير. ترتفع أصواتهم وقبضاتهم. "الموت لإسرائيل". مشهد تكرر كثيرًا مع استهداف الاحتلال مبان في الضاحية ومحيطها. حينذاك كان فعلهم بالنسبة لي ضربًا من الجنون. هل يثقون فعلًا بالمسافة التي حددها جيش الاحتلال؟
لكنه هذه المرة أعادني إلى اللحظة التي حلّقت فيها أربع طائرات حربية فوق رؤوسنا محاولةً اغتيال الفكرة خلال تشييع الأمينَين. خلال ثوان، اجتاحتني كل المشاعر ونقيضها. أحتضن شقيقتي، أطأطئ رأسي قبل أن أرفعه سريعًا لأصرخ: "ما تخافوا، بدهم يخوفونا بس".
هل أثق فعلًا بأننا لن نُقصف الآن؟ هل أثق بحسابات جيش الاحتلال؟ نصرخ: "هيهات منا الذلة". ما هي إلا ثوان حتى انفجر غضبي دموعًا. أهكذا أصبح شكل حياتنا؟ أي غد بعد المآتم؟ كيف صارت سماء الضاحية مرعبة إلى هذا الحد؟ أي خوف عظيم يستوطن الحب؟
أنتبه إلى أنني لم أعد أخجل من خوفي. لا أخجل من عدد المرات التي أتصل بها في اليوم الواحد للاطمئنان على الأهل جنوبًا، لا أخجل من قطع ثياب رثة أحبها هرّبتها معي دون أي شيء آخر لحظة النزوح من الضاحية. لا أخجل من كل مرة يرتجف فيها جسدي بانتظار وقوع غارة متخيلة. جسدي يرفض هذا. مشاعري ترفض التطبيع مع كل هذا. في سبيل المقاومة، الخوف على كل ما ومن بقي منا أساسي، كما الحب. أريد التمسك بهذا الخوف حتى لو كان على شاكلة سؤال ساذج داهمني مرةً في مكان النزوح: "هل أٌحرم للأبد من رائحة زهر الليمون التي تلف منزلنا في الجنوب كل ربيع؟".
كيف يُطلب منا أن نُطلق نحن الرصاصة الأخيرة على الذي صوّرته طائرات الاحتلال؟
يبدو فعل الشبان اليوم منطقيًا جدًا، إن لم يكن الأكثر منطقية. هم يرفضون أيضًا أن "تُزرع إسرائيل في رأسهم"[2]، ولو لدقائق. هم أدركوا أن الضاحية التي تؤرق الوحش تكاد تكون الأكثر أمانًا في عالم إبادي. قبضة في وجه طائرة حربية وصرخة تخترق سماء مُستعمرة. معادلات يمعن العاجزون عن الخيال في شيطنتها. لكنّ الشبان في الضاحية على الأقل، لن يتخلوا عن محاولة ارسائها.
"خلصت الضربة".
"قصفنا مصالح تابعة لحزب الله". حسنًا. لنسارع لإثبات مدنية المكان. لنُخرج أهلنا وبيوتنا وأماكننا وذاكرتنا من حدود المربع الأحمر. "لنؤنسنهم". لتؤرقني حكايات رعبهم، تهجيرهم، لحظات ترقبهم، ذكرياتهم المتبخرة التي لن تُروى. لبنان الرسمي يعتبر ما حصل "تقويضًا للاستقرار"[3]. إنذار بالقتل والمحو، ترويع آمنين في بيوتهم، تشريد، نزوح، فأربع غارات متتالية تهز المدينة الواقعة تحت الاحتلال. "تقويض للاستقرار".
دعوات للتسليم والاستسلام. الآن في الإبادة. مسيرة تلاحق شابًا داخل سيارته في الجنوب. ينجو من الصاروخ الأول. يهرب بعيدًا. يستهدفه صاروخ ثانٍ. الخبر في وسيلة إعلام محلية: "الجيش الإسرائيلي يعلن قتله عنصرًا في حزب الله". ثمانية كلمات كسولة وباردة تختزل الدم والقصة وترويها بلسان القاتل.
"كان يجمع الخردة لنعيش"، يقول والده ثم يجلس وعائلته على ركام منزله. يتابع: "منقعد عالردم وما مننذل لنعمر ونسلم". فيديو دعائي يدعونا للتحرك لطرد الاحتلال الإيراني. المقاومة تجلب الاحتلال. اسقطوا مع سقوط المحاور. نتنياهو يحدد توقيته المفضل لإنهاء الحرب على غزة.
ها أنا عالقة مرة جديدة بين المقتلة والملهاة. تتسابقان على نهش دماغي.
كيف أشرح أن كل نشاز الموهومين بالتعايش مع الوحش تعلوه أصوات انفجار 85 طنًا من الحديد التي تتكرر في رأسي وتتردد في جسدي منذ 27 أيلول/ سبتمبر الماضي؟ أن الأصوات الواقعية والعقلانية الداعية إلى محاباة الوحش يخترقها صوت الطيران الاستطلاعي الذي يجعل اقتلاع أذنيّ مثلًا فكرة معقولة؟ كيف أشرح أنني أود أن ألاحق أسماء الشهداء وقصصهم قصة قصة؟ أن أحفظها، أن أرددها حتى انقطاع النفس؟ أنني لا أرى أي معنى سوى في أن أفني عمرًا في سبيل ذلك؟
تتكثف المشاهد والاستعادات. مجموعة شبان أيضًا، في الجنوب هذه المرة، يواصلون الركض في ملعب كرة قدم فيما يتصاعد في الخلفية دخان من مواقع سلسلة غارات شنتها طائرات الاحتلال. ستنتشر الصورة كثيرًا. ستُرفق بعبارات تحكي عن حب الجنوبيين للحياة. وهكذا تتقلص حياة شعب كامل وتُحشر في كرة قدم، تمامًا كما تُختصر بمربع أحمر.
أجدني في المنتصف. معهم، هناك في الملعب. حيث تبدو لي الملهاة أكثر وحشية من المقتلة نفسها.
كأن نقتنع أن مجموعة اللاعبين أخطر على مستقبل البلاد من أطنان الحديد التي تُرمى لمحوهم. كأن نطلب مثلًا من الأيادي المبتورة أن تمتد لمصافحة الوحش، ومن العيون المطفأة أن تفتح على كابوس أبدي، أو أن نوبخ أبًا راح يبحث عن ابنه في قرية حدودية فعاد بجمجمة لأنه لا يحمل العلم اللبناني.
كأن تكون الدعوة إلى التسليم أمر إخلاء. لا يصدره مرتزق في هـذه الحالة، بل آخر يعيش هو أيضًا في عين الوحش. يلوّن غضبي وثأري وذاكرتي وجرحي ووصية أهلي بالأحمر ويأمرني بالانسلاخ عنهم كلهم لأنجو. اختاري سريعًا. أفكر. فلننتظر على الأقل ريثما تعتق صور الشهداء الجديدة في حيّنا. علّها تبهت تلك النظرات الثاقبة الهانئة التي تحدق في اليقين. علها تغيب بعد أن "وجدت أجوبتها"[4] فتكف عن مطاردتي.
كيف يُطلب منا أن نُطلق نحن الرصاصة الأخيرة على الذي صوّرته طائرات الاحتلال، هناك، في جبل عامل، المقاوم، المشتبك، المرابط على الثغور، وحيدًا، ثابتًا، عنيدًا قبل أن يصير أثرًا؟
قد تكون الرصاصة الأخيرة حلًا كما يقولون. فكرة تراودني في الآونة الأخيرة، لكن الرصاصة من نوع آخر. رصاصة خليل حاوي [5] التي تضعني أمام أسئلة المعنى والعبرة والحكمة من وراء دمنا المسفوك والراقصين فوقه. ثمّ، أمام يأسي الذي أغرق فيه كاستراحة لا تدوم طويلًا، أعزي نفسي مرددةً أن الجدوى كلها في أننا ما زلنا هنا، نقاوم المقتلة والملهاة.
[1] الرئيس اللبناني جوزاف عون في شباط/ فبراير الماضي: "لبنان تعب من حروب الآخرين على أرضه".
[2] الرئيس اللبناني تعليقًا على قصف الاحتلال للضاحية في 27 نيسان/ ابريل الماضي: "استمرار إسرائيل في تقويض الاستقرار سيفاقم التوتر ويضع المنطقة أمام مخاطر حقيقية".
[3] من قصيدة "الحزن جميل جدًا" للشاعر العراقي مظفر النواب.
[4] من وصية الشهيد المثقف المشتبك الفلسطيني باسل الأعرج.
[5] شاعر لبناني أطلق النار على نفسه مع اجتياح الدبابات الإسرائيلية لبيروت في 6 حزيران/ يونيو 1982.