خلّف العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 أضرارًا جسيمة في الأرواح والممتلكات. خلال سنة ونيّف، وبحسب التقديرات الأولية، قتلت إسرائيل أكثر من 3500 شخصًا وجرحت ما يزيد عن 13 ألفًا، يعاني المئات منهم من تشوهات وإعاقات مستدامة، بما فيها فقدان البصر والأطراف نتيجة هجوم "البايجرات".
وشرّد الكيان ما يزيد عن مليون إنسان. منهم من نزح داخليّا ومنهم من لجأ إلى الخارج على عجل. عاد غالبية هؤلاء إلى قراهم ومدنهم بعد إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، ليجد العديد منهم بيوتهم ومحالهم مهدّمة أو متضرّرة. وما زال عشرات الآلاف إمّا عالقين في الخارج أوغير قادرين على العودة الى القرى الحدودية بسبب رفض إسرائيل وتقاعس الجيش اللبناني و"يونيفيل" عن تأمين الحماية الكافية لهم.
على صعيد الممتلكات، وبحسب البنك الدولي، بلغت كلفة الأضرار الإجمالية 3,5 مليار دولار، أكثر من 80% منها في قطاع السكن. امتدّت هذه الأضرار على مساحة لبنان، لكنها تركّزت في محافظتي النبطية والجنوب (83%) يليها البقاع (12%).
ووفقًا للمسح الأولي لبيروت، الذي رعته منظّمة "جهاد البناء" التابعة لـ"حزب الله"، تبيّن تدمير 300 مبنى وتضرُّر 300. استنادًا الى هذه الأرقام، خلُص المشرفون على المسح إلى نتيجة مفادها أن حجم الدمار الكلّي في هذه الحرب بلغ ضعفي حرب تموز 2006.
علاوة على الدمار العيني، وبحسب البنك الدولي، بلغت كلفة الخسارة الاقتصادية، على مدى 12 شهرًا، نحو 5 مليارات دولار، نالت منها قطاعات الزراعة والتجارة والسياحة حصّة الأسد (77%).
بالرغم من هول الكارثة، ما زالت جهود إعادة الإعمار بطيئة ومتواضعة. خصّص "حزب الله" مبلغًا تراوح بين 8,000 و16,000 دولار كبدل إيجار وأثاث لكل عائلة تهدّم كليًا مكان سكنها الأساس. من ناحيتها، رصدت الحكومة اللبنانية سلفة زهيدة (44 مليون دولار) لرفع الركام، وأقرّت مشروع قانون إعادة إعمار يكاد يتطابق مع قانون عام 2006. وسارع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى تبنّي السياسة المتّبعة في لبنان لعقود: التسوّل من الخارج. لكن لم يرشح حتى اللحظة أي بوادر جدية لتدفّق الدعم على عكس حرب 2006 عندما تهافت المانحون، خصوصًا دول الخليج، لتقديم الدعم المالي المطلوب.
تعكس الظروف الصعبة التي تواجه إعادة الإعمار اليوم البُعدين السياسي والاقتصادي لهذه العملية. يتخطّى هذا البُعد قضية منح الأموال من عدمها. إذ إنه يشمل السياق الجيوسياسي وما ينطوي عليه من عدائية متنامية لقوى المقاومة المسلحة من جهة، ورؤية وأهداف وآليّات التنفيذ من جهة ثانية، وهي المحكومة بتعقيدات بنية إعادة الإعمار وإشكالياتها، والتي تكوّنت في لبنان عبر نصف قرن من الزمن.
الاقتصاد السياسي لإعادة الإعمار في لبنان
على صعيد الرؤية والأهداف والآليات، يزخر لبنان بتجارب سابقة لإعادة الإعمار نظرًا لكثرة الحروب التي عاشها. البداية كانت من الجنوب عام 1970، عندما وقع عدوان إسرائيلي عنيف على القرى الحدودية أدّى الى أضرار جسيمة وتسبّب في نزوح 50 ألف مواطن من نحو 30 قرية.
بادرت بعض المرجعيات الدينية المختلطة حينذاك برعاية الإمام موسى الصدر الى الضغط على المعنيين حتى تمّ إنشاء "مجلس الجنوب" بقرار من مجلس النواب. خصّص المجلس حينها 30 مليون ليرة كحدّ أقصى للدعم. وبحسب مجلس الجنوب نفسه، بلغ مجموع ما صُرف منذ التأسيس حتى منتصف عام 1980 أكثر من 200 مليون ليرة. توزّعت هذه الأموال على تعويضات عن أضرار العدوان وتمويل مشاريع تنموية وخدمات عامة.
إنّ تجديد المقاومة في لبنان رهانها على مشروع استخراج الغاز أو مصادر ريعية أخرى بدلًا من دعم إصلاح الاقتصاد اللبناني، سيكرّس معادلة تقويض الحصانة الاقتصادية والاجتماعية
بعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، اتسعت دائرة إعادة الإعمار المتصلة بالحروب لتشمل كل لبنان، خصوصًا بيروت. لعب "مجلس الإنماء والإعمار" ــــ الذي أنشئ عام 1977 في عهد الرئيس الياس سركيس ــــ دورًا محوريًا في هذا الخصوص. بلغ هذا الدّور ذروته بعد انتهاء الحرب الأهلية عندما قاد رئيس الحكومة رفيق الحريري ورشة إعادة إعمار بيروت. وارتبط الإعمار حينها بمقاربة نيوليبرالية تبنّت مبدأ الخصخصة المفرطة (شركة "سوليدير") والاعتماد على المديونية العامة لتمويلها.
ترافقت هذ الرؤية التمويلية والتنفيذية مع تصوّر "عصري" إقصائي لكل ما هو تراثي ولا يتماشى مع فلسفة معمارية مدينية استهلاكية. مع مرور الزمن، تشعّبت مهام مجلس الإنماء والإعمار لتشمل مشاريع تنموية أو بيئية في قطاعات الري والكهرباء والبنى التحتية. وقد اكتسب كل من "مجلس الجنوب" و"مجلس الإنماء والإعمار" سمعة سيئة كجزء من مغارة "علي بابا" للإثراء غير المشروع، نظرًا لكون المجلسين مؤسستين مستقلتين مرتبطتين مباشرة بمجلس الوزراء، ولا تخضعان لديوان المحاسبة أو غيره من آليات المراقبة المالية.
إلى جانب هذه الهيكلية المؤسساتية للإعمار، شهد لبنان تغلغلًا عميقًا للمنظمات التنموية الدولية كـ"الإسكوا" والبنك الدولي وتلك الحكومية (وعلى رأسها "وكالة الغوث والتنمية الأميركية") والاتحاد الأوروبي وصناديق التنمية الخليجية. تفرّعت هذه الشبكة لتشمل منظمات غير حكومية ومبادرات تعاونية على نطاق ضيّق كبديل ــــ وليس رديف ــــ لدور الدولة والتخطيط المركزي. زادت هذه الهيكلية من تبعية الاقتصاد اللبناني للسوق العالمية ولجمت التنمية الوطنية ووفّرت بيئة تكنوقراطية موازية لآليات وشبكات المقاومة التابعة لـ"حزب الله". والأخيرة، كما هو معلوم، المرتبطة بدعم إيراني أو أهلي من أبناء المجتمع المناصر لها.
لم تقتصر المنظومة الموازية لمنظومة المقاومة على التمويل، بل شملت صياغة خطاب التنمية وإعادة الإعمار. اللافت أن هذا الخطاب، الذي تبنّته معظم قوى اليسار أو التغيير في لبنان، تبنّى مشروع بناء الدولة ومتفرّعاته (كالتشاركية والحوكمة وتخطّي الأحزاب) من دون توضيح أثر هذه المقاربات على مشروع المقاومة أو وضعه في السياق الجيوسياسي الراهن للصراع مع الكيان. فالدولة، تحديدًا في لبنان، ليست كيانًا بيروقراطيًا محايدًا، بل هي انعكاس لتوجّهات القوى الحاكمة والنفوذ الأجنبي التي تعبّر عنه. وسياسات إعادة الإعمار تدخل في صلب صراع النفوذ هذا.
على سبيل المثال لا الحصر، ليس سرًا أن العقوبات الأميركية المفروضة على التحويلات المالية الى لبنان والحصار على سوريا وتمنّع دول الخليج عن الاستثمار في لبنان هي جزء من الحرب على المقاومة، من خلال خلق بيئة معادية لها والتضييق على القدرة الفردية والجماعية للصمود. يغيب هذا البُعد عن أدبيات خطاب إعادة الإعمار بما في ذلك خطاب بعض المجتمع المدني المعادي ظاهريًا لإسرائيل.
تتراوح رؤية إعادة الإعمار المعادية لمشروع المقاومة بين من يريد أن يعاقب أهل البقاع والجنوب على خياراتهم السياسية من خلال حجب الدعم وتجاهل حاجات الناس، وبين من يريد أن يستغل عملية إعادة الإعمار لفك الارتباط بين الناس ومشروع المقاومة وضمّهم الى "كنف الدولة". والأخير هو الأكثر رواجًا وخطورة، نظرًا لظاهره المتعاطف مع معاناة الناس وحاجاتهم. بلغ هذا التعاطف أحيانًا لدى بعض وسائل الإعلام حدّ التهويل والتضخيم لمشهد الدمار بشكل محبط، من دون إدانة المرتكب، وهو ما يخدم عن قصد أو غير قصد أهداف الكيان.
يتمثّل واحد من أصعب التحدّيات بتفادي سياسة الإقراض والاستعانة بالمنظمات الدولية والغربية في تنفيذ هذه المشاريع
على هذا الأساس، يجب طرح سؤال حول شكل الدولة وموقفها من المقاومة، قبل تبنّي الدولة كإطار مؤسساتي لإعادة الإعمار. بعض من يناشد الدولة يطالب صراحة بوضع إطار للتعويضات يمرّ من خلال الدولة "كي لا يسلّم المواطنون أنفسهم لحزب الله".
وفي ظلّ السعي الحثيث لفكّ الارتباط بين الناس والمقاومة وتطويق المقاومة في الجنوب من خلال تفعيل آليات جديدة لتطبيق القرار 1701 وفرض رقابة على الحدود البرية والبحرية وتحجيم الدعم الإيراني، وفي ظلّ العداء المستشري للمقاومة كفكرة وممارسة بين فئة كبيرة من القوى السياسة، تصبح البداهة كرعاية الدولة لإعادة الإعمار موضع شكّ وريبة. لا يعني ذلك تخلّي الدولة عن دورها. بل يعني أن دور الدولة يجب أن يكون خاضعًا لمنطق المقاومة (بالمعنى الواسع، لا الحزبي) وليس العكس.
المقاومة كمدخل لإعادة الإعمار
إنّ سياسة الإعمار المقاوم هي نقيض سياسة دمار المحتلّ. لطالما شملت الحروب الإسرائيلية أهدافًا مدنية وبنى تحتية وحرقت الأخضر واليابس. لكن هذه الحرب أدخلت أبعادًا جديدة لآلة الدمار تلك. أبرزها نسف شامل لعدد كبير من القرى الحدودية، ومحو أكبر عدد من المواقع الأثرية والصروح الدينية والأسواق القديمة كسوق النبطية وكل ما يعكس الجذور الحضرية والتاريخية للناس وتعلّقهم بأرضهم. وقد تعمّد الاحتلال كذلك على حرق مساحات كبيرة من الأحراش والأراضي الزراعية وأمعن في إتلاف المحاصيل وقطع الأشجار، واستهدف النازحين أينما كانوا كجزء من حربه على الحاضنة الشعبية للمقاومة.
تقتضي إعادة الإعمار عكس مفاعيل هذه السياسات. الشقّ البديهي، على جسامته، هو إعادة إعمار ما تهدّم من مبان سكنية. يقتصر مشروع قانون إعادة الإعمار المُقتضب على هذا البُعد. لكن الإعمار السكني يجب أن يكون جزءًا من خطّة متكاملة تُعطي أولوية قصوى لإعمار القرى الحدودية لما تُمثّل من خط مواجهة أمامي يعاند المنطق التوسّعي للكيان، ويُبرز صورة مناقضة لمشاهد النسف التام التي تعرضت له هذه القُرى.
يكمّل هذا الشق إعادة ترميم وتأهيل العمران ذي البعد التاريخي والديني، من خلال الحفاظ على خصائص العمارة العاملية أو البقاعية ووظيفتها الاجتماعية الحيّة بدلًا من تحويلها الى أطلال أو معلم أثري كما قد يحلو لجهات دولية كـ"اليونيسكو". ويتعيّن كذلك إعادة تأهيل وتنشيط القطاع الزراعي والعمل على زيادة الإنتاج وتحسين شروط البيع والتصدير، وهي جميعها تصبّ في زيادة الاكتفاء الذاتي ومداخيل الأسر المقيمة.
يتمثّل واحد من أصعب التحدّيات بتفادي سياسة الإقراض والاستعانة بالمنظمات الدولية والغربية في تنفيذ هذه المشاريع. على عكس حرب 2006، تأتي هذه الحرب بعد انهيار سياسي ومالي ونقدي في لبنان من جهة وأزمات اقتصادية عالمية من جهة ثانية، ناهيك عن الحصار المالي المذكور. لكن التحدي يتخطى هذه الظروف الموضوعية ويشمل مفهوم المقاومة خارج إطار بُعدها المسلّح. لطالما تمّ فصل العمل المقاوم عن البْعد الاقتصادي من قبل قوى المقاومة نفسها. وصل هذا الفصل حدّ التذاكي عبر الظنّ أنه يمكن قبول هذه المساعدات وتشغيل المشاريع المموّلة من الغرب من دون أن تؤثّر على أمن المقاومة وحركيّتها. كشفت هذه الحرب الهشاشة الأمنية لمجتمع الجنوب. لا يمكن إغفال دور هذه المشاريع في مساعدة الكيان وحلفائه على فهم بنية المجتمع الجنوبي والبقاعي، وربما الولوج الى داتا محلية قد تكون عصيّة على هذا الاختراق عن بُعد. إلى حين القيام بمراجعة شاملة لدور هذه المشاريع، يبقى الاحتياط واجب.
إلى جانب المقاربة المحلّية، تتّبع القوى المعادية للمقاومة استراتيجية طويلة الأمد تسعى الى مقايضة مشروع المقاومة بما في ذلك فكّ ارتباط الجنوب بفلسطين، من خلال الضغط باتجاه ترسيم الحدود البرية ونزع سلاح المقاومة كثمن لذلك. إنّ ربط الدعم المالي بتطبيق القرار 1701، كما يردّد العديد من الساسة في لبنان وعلى رأسهم رئيس الحكومة الحالي، هو مثال على هذه الاستراتيجية.
هذا لا يُعفي قوى المقاومة من مسؤولياتها. إنّ تجديد رهانها على إحياء مشروع استخراج الغاز أو مصادر ريعية أخرى بدلًا من دعم إصلاح الاقتصاد اللبناني وإنهاء نظام المحاصصة والاحتكار، خصوصًا لدى حلفائها، سيكرّس معادلة تقويض الحصانة الاقتصادية والاجتماعية في مرحلة سياسة قد تكون الأصعب في تاريخ المقاومة منذ التحرير عام 2000. وحينها ستلدغ المقاومة من عدوها مرتين.