اللاذقية: البحث عن السلام والدولة المدنية

مع كل انتهاك تضجّ به "السوشال ميديا"، تتجدد مخاوف بعض أهل اللاذقية. لكنّ "هيئة تحرير الشام" تتعامل حتى اللحظة بشكل فوري مع الانتهاكات، وتُبدي استجابة سريعة حيالها.

بينما كان معظم السوريين ساهرين بانتظار مستجدات الأخبار فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر، قام رجل في إحدى قرى ريف اللاذقية (نتحفظ عن ذكر اسم القرية بناء على طلب الشاهد) بتلقّف بندقية صيد يمتلكها والتوجه إلى غرفة طفليه يريد قتلهما وزوجته قبل وصول عناصر فصائل المعارضة، فوقفت والدته أمامه محاولة منعه.

بدا الرجل كما لو أنه فقد عقله تمامًا. أطلق النار على والدته وكل فرد آخر تقريبًا تواجد في غرفة المعيشة حيث كانت العائلة مجتمعة، لتكون الحصيلة وفاة الأم وشقيقه وإصابة الأب وشقيق آخر وزوجته، وكذلك أحد الجيران الذي فقد حياته متأثرًا بإصابته بعد ثلاثة أيام.

يقول المصدر الذي روى لنا الحكاية إن القاتل ذو سمعة طيبة في محيطه، ولا سوابق جنائية له، وما حدث أنه، تحت وطأة الصدمة، تذكّر المجازر التي وقعت عام 2013 في ريف اللاذقية، فخاف على عائلته إلى حدّ أنه قرّر قتل أفرادها.

غير أننا حصلنا على شهادات من 14 قرية في ريف جبلة واللاذقية، أجمع فيها 22 شخصًا أن مخاوفهم تبدّدت نتيجة التعامل الجيد لعناصر "هيئة تحرير الشام" على الحواجز. لكنّ 16 من هؤلاء أبدوا تخوفًا من تواجد عناصر ملثمين، متسائلين عن السبب وراء ذلك، ومضيفين أن الأمر يثير ريبة يصعب القول إنها اختفت تمامًا.

تتجدد تلك المخاوف مع كل خبر تضج به "السوشال ميديا". برز ذلك، مثلًا، إثر انتشار مقطع فيديو يظهر فيه أحد عناصر الفصائل على حاجز رأس العين بريف جبلة، متناولًا العلويين في الساحل بعبارات طائفية. الأمر نفسه حصل بعد نشر مقطع آخر يظهر حرق مزار للعلويين بريف حماة.

لكن يبدو أن "هيئة تحرير الشام" حسمت أمرها لجهة التعامل الفوري مع تلك الانتهاكات، التي توصف بالفردية، وأبدت استجابة سريعة حيالها. فعن حادثة رأس العين، قال الناشط إبراهيم الجردي الذي نشر الفيديو عبر صفحته على "فيسبوك" إن إدارة العمليات العسكرية تواصلت معه للتأكد من صحة المنشور، ووعدت بمحاسبة العنصر الذي تفوّه بألفاظ طائفية.

وفي حالة أخرى، بعد انتشار فيديو يُظهر إساءة أحد عناصر الفصائل لشخص من أهالي القرداحة مسقط رأس آل الأسد في ريف اللاذقية، يقوله "سبحان من أعزنا وأذلكم"، راح ناشطون يتداولون فيديو جديد يُظهر شخصًا يرمي التحية من سيارته على سيدة تقصدّ أن يسألها عن مكان تواجدهما، لتجيبه القرداحة، ويتابع حديثه قائلًا: "سبحان من أعزنا وأعزكم".

أحلام جديدة

تحرّر قصي خرطبيل (38 عامًا) من حبس منزله بقريته، الحرف، في ريف اللاذقية، لحظة سقوط نظام بشار الأسد، فالشاب لم يعد مضطرًا للاختباء من حواجز الجيش السوري، بل استراح من كابوس "التفييش" الذي لازمه طيلة سنوات.

يقول قصي إنه شعر بحرية لم يعرف طعمها قبلًا، وبات قادرًا أخيرًا على الخروج من قريته والبحث عن عملٍ بدخل معقول يساعده على تأمين متطلبات عائلة مؤلفة من زوجة وطفلة لم تتجاوز الخامسة بعد.

حال قصي كحال شباب كثر في الساحل السوري، رفضوا الاستجابة لطلب الخدمة العسكرية الاحتياطية، وفضّلوا العيش تحت مسمى "فرارية".

ومثل قصي، يشعر حسام رستم ــــ الصحفي العشريني المنحدر من حي الجركس بمدينة جبلة ــــ بالحرية الكبيرة: "لقد بتُّ قادرًا على التعبير عن رأيي من دون أن يتهمني أحد بالخيانة"، يقول.

برغم المرونة التي أبداها معظم عناصر "الهيئة" في التعامل مع المدنيين، إلا أن الأمر لم يخلُ من بعض التدخلات التمييزية بحق النساء

سبق لحسام أن تلقّى اقتراحات من المحيطين به تشجعه على العمل خارج نطاق اختصاصه. قيل له "اعمل في بناء أو في غسيل السيارات في إحدى الدول العربية لتهرب من الخدمة الإلزامية ولا يضيع مستقبلك". يقول إنه بعد سقوط النظام بات قادرًا على التفكير بصوت عالٍ، وهو أصبح، علاوةً على ذلك، يخطّط لمستقبله بمعزل عن الحاجة إلى الجري خلف إجراءات تأجيل الخدمة الإلزامية، والبحث عن دائن أو قرض يغطي قيمة البدل النقدي.

يبحث حسام اليوم عن أحلام جديدة لتعويض ما فاته، وليُتقن مهارات لم يعرفها ويصقل خبراته، ويكمل مشوار الصحافة كمحترف لا كهاوٍ ينتظر فرصة سفر تتيح له أن يترك كل شيء خلفه ويمضي.

 مستقبل مجهول

ديمة ولما محمد شقيقتان في العقد الثالث من العمر. تنحدران من ريف جبلة وتعيشان منذ عام 2021 وحدهما في منزل مستأجر بمدينة اللاذقية بهدف العمل. ليلة سقوط النظام، غادرت الشابتان منزلهما المستأجر على عجل خوفًا مما قد يحدث، ومنذ ذلك الحين لا تستطيعان العودة بسبب رفض والديهما فكرة السكن وحدهما في مدينة أخرى في الظروف الحالية.

تقول لما إنها وشقيقتها مهددتان بخسارة عملهما في أحد المنشآت الخاصة بمدينة اللاذقية. ولا تخفي الشابة مخاوفها من الواقع الجديد. لكن هذه المخاوف ما زالت "تحت السيطرة"، تقول.

أما ديمة فتخبرنا أنها أبلغت المدير باستقالتها، فمنحها إجازة وطلب منها التفكير مجددًا ومن ثم اتخاذ قرارها وإطلاعه عليه مع بداية العام القادم. تقول ديمة إنها لا تستطيع تخيّل شكل حياتها حبيسة في منزل مستأجر، فيما تنتشر في الخارج مظاهر مسلحة وملثمون غرباء لا يمكن رؤية وجوههم حتى.

وبرغم المرونة التي أبداها معظم عناصر "الهيئة" في التعامل مع المدنيين، إلا أن الأمر لم يخل من بعض التدخلات التمييزية بحق النساء. فقد تعرّضت، على سبيل المثال، سارة (فضلت عدم الكشف عن اسمها الكامل) لـ"موقف" حين كانت ترفع شارة النصر أمام عناصر الفصائل على حاجز حي الزراعة، إذ طالبها أحدهم بتغطية رأسها.

غير أن المحامية الثلاثينية تضيف أن أحد زملائه ــــ وكان يبدو أعلى منه رتبة ــــ اعتذر منها وطلب إليها أن تكمل طريقها، موجهًا اللوم لزميلها ومبلغًا إياه بأنه "لا يحق له التحدّث معها بتلك الطريقة".

تصف سارة الموقف بالإيجابي والمشجع. ومع ذلك، فهي، كأي امرأة أخرى، تشعر بمخاوف مما يحمله المستقبل. 

الزلزال الكبير

يقول الناشط والصحفي كمال شاهين، وهو من سكان اللاذقية، إن سوريا استيقظت فجأة على غياب نظام حكمٍ أبسط ما يقال فيه أنه كان قمعيًا، غير مرغوب به من الغالبية العظمى في البلاد، بعد سنوات طويلة من الفشل في إدارتها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

يرى شاهين أن النظام السابق خرّب كثيرًا في النسيج الوطني السوري، وهو إذ يعرب عن توقه إلى دولة مدنية ديمقراطية، يؤكد أن نشطاء المجتمع المدني السوري يحشدون طاقاتهم بهدف تحقيق هذا الهدف، معتبرًا أن سلطة الأمر الواقع خالفت قرار مجلس الأمن رقم 2245 بقرارها إدارة البلاد بشكل مباشر مؤقتًا.

وخلافًا لشاهين، يولي بعض أهل منطقة اللاذقية أولوية لعودة الأمن، خصوصًا بعد الفوضى الناجمة عن غياب الشرطة وإخلاء السجون حتى من المحكومين بجرائم جنائية.

كما تنتشر مظاهر "التشليح" على أوتستراد جبلة ــــ اللاذقية، حيث بات كثير من السائقين يتحاشون الخروج إليه بعد المغيب، فيما تغلق الكثير من المحال التجارية في المدينة أبوابها بمجرد حلول المساء خوفًا من السرقات.

ومع استمرار مخاوف الانفلات الأمني، تبرز هواجس معيشية لا تقلّ حدة، خصوصًا لدى سكان القرى الذين باتوا يحتاجون لما يعادل نحو ثلاثة رواتب لتغطية نفقات النقل. فعلى سبيل المثال، يبلغ الحد الأدنى للرواتب 286 ألف ليرة، بينما ارتفعت أجرة النقل لخطوط معظم القرى من 2,000 إلى 15,000 ليرة، أي أن الموظف يحتاج إلى 30,000 ليرة يوميًا لتغطية رحلة ذهابه إلى العمل وعودته منه فقط.

بقدر ما يبدو سقوط النظام نهاية للحرب السورية، إلا أنه يفتح الباب لشتّى الاحتمالات أمام من يتطلّع من السوريين للعيش بحرية في دولة مدنية ديموقراطية بديلة عن النظام القمعي الذي ظلّ سائدًا لأكثر من 50 عامًا، على أمل ألا يستمر انتظارهم أعوامًا مديدة أخرى.

صناديق ليمونٍ فوق رأس مليء بالأحلام

يعيش حيدرة، الطالب في جامعة اللاذقية، بشخصيتي الطالب الطموح المثقف، والعامل الذي لا يتوقف عن نقل صناديق ا...

داليا عبد الكريم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة