صناديق ليمونٍ فوق رأس مليء بالأحلام

يعيش حيدرة، الطالب في جامعة اللاذقية، بشخصيتي الطالب الطموح المثقف، والعامل الذي لا يتوقف عن نقل صناديق الليمون فوق رأس مليء بالأحلام، بانتظار غدٍ من نوع آخر.

ينظر حيدرة إلى صندوق الليمون الأخير، راجيًا ظهره أن يسعفه لنقل آخر صناديق ذاك اليوم. فعشر ساعات من العمل المجهد كادت أن تقطع نفس طالب السنة الثالثة في كلية الهندسة المعمارية بجامعة اللاذقية (تشرين سابقًا) وتقصم ظهره. وها هو، بعد انتهاء ورديته، يمشي بتثاقل إلى منزله، حيث يرمي جسده المنهك على الأريكة بعدما رمى على الطاولة بضع ورقات نقدية من فئة 5,000 ليرة سورية، لن تكفيه أكثر من أجرة الطريق إلى جامعته ليومين فقط، في ظل الأجور الجديدة.

يعمل حيدرة في فرز الحمضيات وتوضيبها كوسيلة لتأمين أجور المواصلات التي ارتفعت خمسة أضعاف منذ تحرير سعر المحروقات إبان سقوط النظام السوري فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024. وقبل تحرير سعر المحروقات، كان الشاب يعمل يومي عطلته الأسبوعية فقط، يحصل فيهما على 100 ألف ليرة تكفيه أجور مواصلات الأسبوع كلّه.

كغالبية العوائل السورية التي نهشها الفقر بسبب الفساد وتداعيات الحرب، فإن عائلة حيدرة لا تستطيع كفاية أبنائها. فوالده متقاعد براتب رمزي ووالدته موظفة براتب لا يتجاوز 400 ألف ليرة. ولحيدرة شقيقة تدرس في الجامعة أيضًا، ما يشكل عبئًا ثقيلًا على العائلة الريفية التي تحلم بمستقبل جيد لأبنائها.

طبيعة حياة حيدرة في بيئة ريفية، قلّصت من خياراته في العمل بدوام جزئي. في الأرياف، تغيب الفرص إلا تلك المتعلقة بالزراعة وأعمال الأرض، كما أن العمل في شماعات الحمضيات يوفر على العمال والعاملات أجور المواصلات بسبب توفير المنشآت لوسائل النقل الخاص بها. يقول لي الشاب إن زملاء كثر يعملون معه في نقل صناديق الليمون وتوضيبها.

أما طلاب المدن، فلديهم مروحة أوسع من خيارات العمل كباعة في المحال التجارية أو محاسبين في مطاعم الوجبات السريعة. لكن تدني الأجور يبقى العامل المشترك بين طلاب الريف والمدينة، إذ لا تزيد – في أحسن حالاتها – عن 800 ألف ليرة شهريًا (نحو 60 دولار أميركي).

تنقسم امتحانات حيدرة إلى عملية ونظرية. ثمانية أيام لامتحانات المواد العملية ومثلها للامتحان النظري. ستكلفه هذه الأيام 384 ألف ليرة لتغطية أجور المواصلات، أي العمل لثمانية أيام متواصلة. كما أنه سيحتاج للعمل لأربعة أيام أخرى ليدّخر بعض المال اللازم لمستلزمات الامتحان من أقلام وألواح كرتون خاصة بالتصاميم الهندسية.

يدخر حيدرة جواز سفره لما بعد التخرج، فبالنسبة له، ستبقى سوريا تذكره بهزائمه اليومية كما يصفها

ما بين العمل والدراسة والقليل جدًا من الراحة وقضاء الحاجات، ليس لدى الشاب النحيل أي وقت فراغ. ولذلك يحدثني عن همومه أثناء تناوله الطعام. "أنا اليوم مضطر للعمل بهذه الطريقة لأدخر المال اللازم للمواصلات، إذ بت أحتاج يوميًا إلى 24 ألف ليرة للوصول إلى جامعتي والعودة منها عوضًا عن 6 آلاف كما السابق"، يقول حيدرة الذي تراوده أحلام لحياة فيها ما هو أكثر من مجرد العمل المجهد لتأمين تكاليف التنقّل.

الأحلام في حياة الشباب السوري عمومًا تأخذ طابعًا يختلف نوعًا ما عمّا قد نراه في مجتمعات أخرى، فتكون أقرب لأساسيات الحياة من طعام صحي ولباس أنيق ومواصلات جيدة. بالأمس القريب كان حيدرة، الشغوف بالعمارة، يحلم علاوة على هذا كله بحرية التعبير، وبجهاز لابتوب جيد يفي بمتطلبات دراسته، وبالقدرة على التركيز على دراسته من غير اضطرار للجوء لأعمال مجهدة لا تتعلق بمجاله الدراسي.

تغيّر الحال اليوم، إذ صار بإمكان حيدرة مناقشة شتى الأفكار مع زملائه وزميلاته بحرية، لكن بقية أحلامه ما زالت معلّقة. الحصول على المال الكافي للمواصلات بات الحلم الجديد على رأس قائمته.

ينهي حيدرة وجبته بسرعة ليبدأ الدراسة. لطالما برمج نفسه على خلع شخصية العامل وارتداء شخصية الطالب، حيث لا سبيل للتذرع بألم الظهر ولا بتعب الجسد، ولا سبيل للاستجابة لنداء السرير.

تقترب الساعة من السابعة والنصف مساء، فيفتح الشاب كتبه وكراساته بجانب مدفئة الحطب تحت ضوء شاحب قادم من LED صغير موصول على بطارية انتهى عمرها الافتراضي قبل أشهر عدة. بالكاد يرى أمامه. مرّة أخرى، لا سبيل للتوقف، فالنهار للعمل والليل للدراسة.

أما التعب الذي ينال منه فحلّه فنجان كبير من القهوة الرديئة رخيصة الثمن التي لا يشبه طعمها طعم القهوة، لكنها تعينه على متابعة السهر حتى الثالثة فجرًا عندما يحاول القبض على بضع ساعات من النوم قبل الاستيقاظ لاستقبال صناديق الليمون مجددًا.

في ظروف أخرى، كان الشاب العشريني يتمنى لو يستطيع تخصيص وقت لقراءة الروايات التي يحب. عائلته التي كانت تنتمي للطبقة المتوسطة قبل عام 2011، كانت ككثير من العوائل السورية الأخرى، حريصة على تمكين الأطفال لغويًا وثقافيًا لمواجهة الحياة بكرامة وشخصية مستنيرة. لكن ظروف اليوم تفرض مواجهة الحياة بطرق مختلفة.

"أريد أن أصبح مهندس عمارة مشهور، لديّ شغف بالتصاميم منذ كنت طفلًا". ليس هذا الحلم الوحيد لحيدرة، الذي يدخر جواز سفره لما بعد التخرج. بالنسبة له، لن تعود سوريا صالحة للحياة مهما تبدلّت للأفضل، وستبقى تذكره بهزائمه اليومية كما يصفها.

هزيمة عدم امتلاك لابتوب مناسب للدراسة والتصاميم لأن سعره يفوق قدرته وقدرة أهله المادية؛ هزيمة العمل المضني لتغطية مصاريف المواصلات؛ هزيمة افتقاده الحياة الاجتماعية في ظل واقع فرض عليه العمل والدراسة فقط؛ هزيمة الكرامة المسفوكة على باب الفقر والحاجة.

حيدرة الذي يخشى الحرج الاجتماعي، يحرص على إبعاد هذا الجانب بشكل كامل عن زملاء الدراسة، ويعيش بشخصيتي الطالب الطموح المثقف، والعامل الذي لا يتوقف عن نقل صناديق الليمون فوق رأس مليء بالأحلام، بانتظار غدٍ من نوع آخر.

اللاذقية: البحث عن السلام والدولة المدنية

مع كل انتهاك تضجّ به "السوشال ميديا"، تتجدد مخاوف بعض أهل اللاذقية. لكنّ "هيئة تحرير الشام" تتعامل حتى ال...

داليا عبد الكريم

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة