الإبادة البيئية: من فييتنام إلى غزة
ظهر مصطلح الإبادة البيئية خلال تظاهرات المحتجّين الأميركيين على حرب الولايات المتحدة في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي. اليوم ينطبق على آثار الحرب الإسرائيلية على غزة.
ظهر مصطلح الإبادة البيئية خلال تظاهرات المحتجّين الأميركيين على حرب الولايات المتحدة في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي. اليوم ينطبق على آثار الحرب الإسرائيلية على غزة.
"يُذكّرني هذا بأحداث قرأتُ عنها من الحرب العالمية الثانية".
على هذا النحو علّق الأستاذ في جامعة ولاية كينت الأميركية، هيي يين، على ما عاينه خلال دراسته آثار الحرب الإسرائيلية على الأراضي الزراعية في غزة. لم يكن قد مرّ وقتذاك أكثر من شهر على بداية الحرب.
بعد أشهر قليلة، أخذ مصطلح الإبادة البيئية Ecocide يظهر على ألسنة خبراء لوصف أثر الأفعال الإسرائيلية على الحياة البيئية في غزة.
والمصطلح هذا يحيل إلى واحد من أشكال الإبادة المختلفة التي تستمرّ إسرائيل في ارتكابها منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، برغم تفاوت نظرة القانون الدولي إليها كجرائم حرب. فـ"الإبادة البيئية" ما زالت غير محدّدة كجريمة حرب بحد ذاتها، يُحاسبُ مرتكبوها أمام القانون الدولي.
غير أن المادة 8 من نظام روما الأساسي (الذي انبثقت منه المحكمة الجنائية الدولية) تعتبرُ جريمة حرب كل "تعمّد شنّ هجوم، مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن […] إحداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل وشديد للبيئة الطبيعية"، وهو ما تحظر اتفاقيات جنيف حدوثه أيضًا في النزاعات المسلحة.
و"تدمير البيئة وتخريبها بأي ثمن" هو أحد تعريفات المصطلح من قبل "معهد القانون الأوروبي"، وهو ما يتمشى مع تعريف أكثر من دولة أدرجت هذا المصطلح ضمن قوانينها الجنائية.
شاع المصطلح خلال تظاهرات المحتجّين الأميركيين على استمرار حرب الولايات المتحدة في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي، وكان يحيل إلى استخدام الجيش الأميركي مبيدات الأعشاب (أشهرها "العامل البرتقالي" agent orange) لتدمير النباتات والمحاصيل، بحجة القضاء على المقاتلين الفيتناميين في الغابات. وأوّل من استخدم المصطلح كان عالم النبات الأميركي، آرثر غالستون، في سياق تحليله آثار المبيدات على البيئة في فيتنام، التي تسبّبت بأمراض وتشوّهات لأعداد كبيرة من سكان البلاد.
خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، كانت 48% من المساحات الزراعية قد تضرّرت، أي ما يعادل نصف الغطاء الشجري في غزة
منذ ذلك الوقت، بدأت المطالبة بالاعتراف بـ"الإبادة البيئية" كجريمة حرب، بوصفها تنطوي على ضرر جسيم أو تدمير للنظام الإيكولوجي في منطقة محددة، يسبّبها نشاط بشري، بما يجعل تمتّع السكان في المنطقة ضئيلًا إلى حد كبير.
غير أن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه لم تتمّ سوى في أيلول/سبتمبر الماضي، إثر تقديم جزر المحيط الهادئ (فانواتو وفيجي وساموا) بمقترح إلى المحكمة الجنائية الدولية، يطالب بالاعتراف بالإبادة البيئية كجريمة تستوجب تحقيقًا وعقابًا منفردين.
أصاب الحياةَ البيئيةَ والنظامَ الإيكولوجي في غزة ضررٌ هائل خلال الأشهر الأربعة عشر الماضية، وانسحب الأمر على الأمن الغذائي والصحي لسكّان القطاع. تفيد أعمال الحرب التي ترتكبها إسرائيل بحقّ أهل غزة بتوفّر العناصر المكونّة لجريمة الإبادة البيئية. وهي تتزامن مع التهجير والحصارَين البري والبحري والعمليات العسكرية في معظم مناطق القطاع، الأمر الذي يصعّب التحليل الدقيق لكافة الأضرار البيئية وحجمها، باستثناء ما يتيحه تحليل صور الأقمار الصناعية.
وتترافق الإبادة البيئية في غزة مع مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، الذي كان يعاني منه 96% من سكان القطاع (22% من السكان يعانون من مستويات كارثية)، بحسب تقرير للأمم المتحدة في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2024. ويمكن أن نفهم حجم هذا الضرر إذا ما أخذنا في الاعتبار دور القطاع الزراعي في غزة قبل الحرب:
المصدر: تقرير نشره معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث في حزيران/يونيو 2024
أكثر من سنة من القصف والتدمير والعمليات العسكرية تكاد تقضي كليًا على الزراعة، خصوصًا مع استخدام أسلحة محرّمة دوليا كالفوسفور الأبيض الذي يلوّث الهواء والتربة على حد سواء.
ومنذ أن وطأت الدبابات الإسرائيلية أراضي القطاع وباشرت بتدمير المساحات الزراعية، تزامنًا مع القصف الجوي، "طهّرت" إسرائيل خلال الأشهر السبعة الأولى من بدء العملية البرية معظم الأراضي الزراعية ضمن مساحة كيلومتر من السياج الشرقي لقطاع غزة، بحسب "العمارة الجنائية"، وهي مجموعة بحثية متعددة التخصصات في بريطانيا.
وفي أوّل معاينة له، أشار الأستاذ الجامعي "يين" إلى أنّ إسرائيل كانت، قبل تشرين الأول/أكتوبر (أي قبيل بدء العملية البرية في غزة)، قد تسبّبت في تضرّر 7% من المساحات الزراعية. وخلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، كانت 48% من المساحات الزراعية قد تضرّرت، أي ما يعادل نصف الغطاء الشجري في غزة، بحسب صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وبالمجمل، بلغت المساحة الزراعية المدمرة في غزة نحو 102 كلم مربع، أي نحو ثلث مساحة القطاع ككل وثلثي المساحة الزراعية، بحسب تحليل لمركز الأقمار الصناعية التابع للأمم المتحدة "يونوسات" في شهر آب/أغسطس 2024. ومع استمرار العملية البرية وتكثيفها في شمال القطاع وجرف الأراضي في سياق فصل الشمال عن الجنوب، تستمرّ النسب بالارتفاع.
استهدفت إسرائيل ـــ من جملة ما استهدفته ـــ الزيتون، الذي يسمّى "الذهب الأخضر" في غزة نظرًا إلى أنه، إلى جانب رمزيته التاريخية، محصول أساس لسكان القطاع. مليونا شجرة زيتون كانت تملأ 50 ألف دونم في غزة قبل الحرب، بحسب وزارة الزراعة الفلسطينية. كان ذلك قبل أن تختفي 68% من الحقول الزراعية والبساتين، بما فيها من أشجار ومحاصيل حقلية وخضراوات، بحلول أيلول/سبتمبر، بحسب "يونوسات".
أما "الذهب الأحمر"، الذي يُطلقُ على فاكهة الفراولة في غزة، فكان ضحية أخرى من ضحايا حرب الإبادة البيئية. والفراولة هي إحدى الدفيئات الزراعية الأكثر انتشارًا في مناطق عديدة في القطاع، وقد شكّلت مصدر رزق أساسي لعائلات كثيرة.
ففي السنة السابقة للحرب، مثلًا، وصل إنتاج الفراولة التي زرعت على مساحة 3600 دونم إلى 11 ألف طن، وهو ما يُعدّ أعلى كمية إنتاج في تاريخ غزة، بحسب وزارة الزراعة. لكن، خلال عشرة أشهر من الحرب، دمّرت إسرائيل ثلث الدفيئات الزراعية ( 90% من تلك الموجودة شمال غزة و40% في محيط مدينة خان يونس)، بحسب تحليل "يونوسات".
ليسَ ممكنًا إصلاح بعض الأضرار البيئية التي سبّبتها الحرب على غزة، ومن بينها الأضرار التي طالت خزّانات المياه الجوفية التي تُستخدم بشكل أساسي للمزروعات زودًا عن الاستخدام المنزلي، بحسب ما يقول رئيس مركز التنوع الحيوي والاستدامة في جامعة بيت لحم، مازن قمصية، في مقابلة مع وكالة "الأناضول". وإن تعافت غزة من هذه الأضرار، يضيف، فلن يكون ذلك قبل عقودٍ من الزمن.
لو اعتبرنا الجيوش دولةً، سيعني ذلك أن بصمتها الكربونية هي رابع أكبر بصمة عالميًا، وستكون إسرائيل صاحبة الدور الأكبر في "دولة الجيوش" هذه
طال الاستهداف الإسرائيلي، بالتزامن مع تدمير مساحات الزراعة ومحاصيلها، الآبار الزراعية. تضرّرت، حتّى الأول من أيلول/سبتمبر الماضي، 1188 بئرًا زراعيًا، أي ما يوازي 52.5% من إجمالي الآبار الزراعية، بحسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.
وتنافسُ إسرائيل التغيّر المناخي العالمي في التأثير على موارد المياه في غزة وتزيد من حدّته أيضًا. إذ لن يكون لمياه الأمطار دور في تعويض الخسائر المائية. ويتوقع تقرير للصليب الأحمر الدولي صادر في آذار/مارس 2024 أن تشهد غزة مزيدًا من عدم انتظام هطول الأمطار، وانخفاضًا بنسبة 20% بحلول عام 2050، فضلًا عن توقّع بزيادة درجات الحرارة بمقدار 2.5 درجات بحلول 2055. وللحرب المستمرة أثرٌ سيظهر على تغير مناخ غزة والمنطقة.
في الأيام الستين الأولى من الحرب التي بدأتها إسرائيل منذ أكثر من 400 يوم، ترك الجيش الإسرائيلي بصمةً سلبية على التغير المناخي العالمي (والمنطقة تحديدًا) تفوقُ بصمات دولٍ مجتمعة. إذ نتجت من الأيام الستين تلك انبعاثات غازات دفيئة هي أكبر من البصمة الكربونية السنوية لـ 20 دولة من الأكثر عرضة للتغيرات المناخية في العالم، بحسب دراسة لصحيفة "الغارديان" البريطانية. والبصمة الكربونية للدولة هي إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة التي تنتجها والتي تلعبُ الدور الأساس في الاحتباس الحراري.
وبحسب "مرصد النزاع والبيئة"، لو اعتبرنا الجيوش وأعمالها دولةً منفردة، سيعني ذلك أن بصمتها الكربونية ستكون رابع أكبر بصمة عالميًا، حيث تساهم بـ 5.5% من انبعاثات الغازات الدفيئة. أما إسرائيل، فهي صاحبة الدور الأكبر في "دولة الجيوش" هذه.
وتتوافر عناصر أخرى من "الإبادة البيئية" في حرب غزة، إذ تهدّد هذه الحرب التنوّع البيولوجي والإيكولوجي في القطاع، وتعرّض ما بين 150 و200 نوع من الطيور لمخاطر كبيرة، ونحو 20 نوعًا من الثدييات و20 من الزواحف النادرة والمهددة بالانقراض الموجودة في غزة، وفقًا لتقارير "سلطة جودة البيئة" التابعة للسلطة الفلسطينية.
الأرقام المذكورة هنا قاصرة عن تحديد حجم الإبادة البيئية التي تسببت بها إسرائيل بدقْة كاملة، بسبب الحصار الخانق والانتشار العسكري في أرجاء القطاع كافة.
أمّا خارج حدود الإبادة، قفد صرّح المبعوث الإسرائيلي جدعون بحار في مؤتمر الأمم المتحدة لتغيّر المناخ الذي عُقدَ في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، قائلًا إنّه برغم المشاركة في "حرب صعبة منذ أكثر من عام"، تبقى إسرائيل ملتزمة بالقتال "من أجل مستقبل هذا الكوكب […] ولإدارة العالم من خلال حلول وابتكارات في قضايا حماية البيئة".