مخاض الحرب: بأيّ يدٍ نمسك هذا العبث؟

أؤمن بأننا نكتب لأننا لا نتقن فعل شيء آخر، وأنّ قلق الحروب هو موروثٌ حتميّ يخرج من الجسد على هيئة مولود، أو يتسلّل عبر الكلمات ويستقرّ في الذاكرة.

في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، وبينما كان الفجر يشقّ نور العالم، استجابت سوزان (اسم مستعار ـــ 31 عامًا) لنداء جنينها. في تلك الساعة، خرجت آلاف السيارات لتحتشد فرحًا بإعلان وقف إطلاق النار، متوجّهةً إلى مصيرها المجهول في القرى الجنوبية. كانت تلك اللحظة الأنسب لتشعر فيها سوزان بأنها جاهزة لوضع مولودها في المستشفى، إذ لم يكن ألم المخاض يُذكَر أمام نشوة انتهاء مشهد الموت.

قررت سوزان أنّها لن تلد ابنتها قبل أن تُجلى آخر طائرة إسرائيلية من آخر غيمة. "لا أريد أن أورّث ابنتي القلق الحتميّ نفسه الذي ورثتُه عن أمي"، تقول سوزان. في ذلك الوقت، كانت الحرب في أوجها، وكانت حركات قدميها في رحم أمها أشبه بمحاولة يائسة للفرار. 

قد لا يعرف الجنين شيئًا مما يحدث في الخارج، لكنه بالتأكيد يحمل في ذاكرته صوت قلب والدته المرتجف، وسينتقل إليه شيء من الخوف عبر الدماء التي تجري في جسدها. 

"في اللحظة التي تنفست فيها ابنتي هواء الحياة، كانت هي أيضًا لحظة مفصلية من وعينا الجماعي، ولم يكن لذلك الأمر أيّ علاقة بالأمل الخالص، بل بولادة سردية جديدة، امتداد لذاكرة مثقلة بالخوف".

السماء التي لم نعد نعرفها

هناك استحالة وجودية للتوفيق بين الولادة والموت، بين ولادة الذاكرة وموتها في آنٍ واحد. لا أعرف ما الذي يطرق أبواب الذاكرة بتلك القسوة، أو ما الذي يؤسس حاجتنا إلى أن نخلّد شيئًا من المآسي الكبرى التي تلحق بنا مثل خطيّ قدرٍ في راحة أيدينا. يعرف التاريخ أن شيئًا لن يتغيّر، وأن الأحلام مهما صغرت أو كبرت سيتدخّل هو ليحيلها إلى رماد.

"كانت أحلامًا سهلة وبسيطة". يقول علي (33 عامًا)، الذي قضى أكثر من نصف حياته في أفريقيا، إنه حين يجمع المال الكافي لن يتقاعد في بلد أوروبي ولا في مدينة ساهرة لا تنام في أقاصي غرب العالم، بل يعود إلى جنوب لبنان، وتحديدًا إلى قريته شقراء، يومًا ما، ليعيش ما تبقى من حياته مع عائلته. لكن في ذلك الصيف أدرك أنّ شيئًا ما قد تغيّر إلى الأبد. صار خائفًا، لم يشأ أن تتبخّر أحلامه وتتحوّل إلى غيومٍ في سماءٍ لم يعد يعرفها. لم يشأ أن تُستشهَد مخيّلته أيضًا، وأن تتحوّل هي الأخرى إلى صورة بين صور مئات الشهداء الذين يصطفّون في طابور على مدخل القرية كأنهم في يوم القيامة.

"كل شيء تغيّر. حدث ذلك بسرعة مهولة. كان سكّان الجنوب يستريحون في قراهم في نهاية كل أسبوع. قيادة ساعة ونصف أو ساعتين لم تكن شيئًا يُذكَر أمام حتمية الوصول والمكوث هناك يومين وأحيانًا ثلاثة، إذ كان ثمة من يحب أن يستيقظ فجر الاثنين ليشرب قهوته ويتوجّه بعدها إلى بيروت"، يقول علي.

أرادت سوزان أن تسمي القلق باسمه، وأن تشكّل من خلال الكتابة معرفة تسمح لابنتها لاحقًا أن تتذكّر خوفًا مجهولًا نقلته لها بغير إرادتها

كفّ التاريخ التي لا ترحم

أتذكّر أغنية كان عمي يغنّيها لنا في طريق العودة منذ عقدين على الأقل: "توت توت عبيروت... يا بيّي خدني مشوار" على ألحان عود مارسيل خليفة التي تخرج من الراديو. لا يمكنني أن أنسى تلك اللحظة التي يقول فيها مارسيل: "إجى التاريخ وطعمانا كفّ"، ثم يهمّ عمي بضرب أحدنا كفًّا ممازحًا.

كنا عائلتين محشورتين في سيارة غولف صغيرة، لكن العالم يومها كان أوسع وأكثر عدلًا مما هو عليه الآن. السماء كانت زرقاء، ونحن كنا أطفالًا ننتظر يد التاريخ الكبيرة أن تنزل على رقابنا الصغيرة. لم نكن نعرف أن التاريخ جادٌّ إلى تلك الدرجة، إذ صفعتُه تلك صادرت إمكانية العيش التي حلمنا بها. التاريخ هو من وزّع الموت على الناس، بيده الثقيلة التي هوت علينا مثل مطرقة حكم ينفَّذ بلا عدالة. لم يكن الموت إذًا حدثًا طبيعيًا، بل مؤسسة تاريخية. ما كان مزحة آنذاك أصبح اليوم صورة نبوئية عن "كفّ التاريخ" الحتميّ، وكأن ما حسبناه لعبًا في طفولتنا لم يكن سوى تدريبًا على العنف الحقيقي لاحقًا.

البيت فعل رعاية مستمر

يسقي أبو أنس (60 عامًا) نباتاته كأنه لم يعد يهمه شيء. يرشّ المياه على الزهور والنباتات لعلّه يكون خيرًا، ويسقي العبث على أطراف القرية، بعد أن دمّرت قذيفة إسرائيلية بيته في الشارع العام في شقراء. لم يتبقَّ من البيت سوى نبتتين وبضع شتلات استطاع أن ينقذها لاحقًا. 

اليوم، في أيلول جديد وبعد مضيّ عام على نشوب الحرب، تحوّلت الشتلات القليلة إلى جنينة خضراء تلفّ بيت أخيه المهمل بسبب الغربة. لم يكن البيت بالنسبة إلى أبو أنس جدرانًا أو سقفًا، بل هو خيال الأرض وحديقة صغيرة من نبتتين نجتا من الموت: صار البيت بالنسبة إليه فعل رعاية مستمر.

"عندما تجتاحنا الذكريات، خصوصًا تلك التي تفيض بالأسى، نعود لفكرتنا الأولى عن البيت"، يقول أبو أنس. قدر النازحين واللاجئين إذًا أن تعلق صورة بيوتهم في رؤوسهم، حتى لو علموا لاحقًا أنّ بيوتهم قد سويت في الأرض، وأحيلت إلى فراغٍ كبير مثل سردية مبتورة. إذا ما كانت الذكرى هي البيت الأول للإنسان، فالحلم والرحم والخيال هم التربة الخصبة للذاكرة. 

الكتابة كمخاض ثانٍ للحياة

على مدى شهرين، قامت سوزان بشكل شبه يوميّ بتدوين مخاض تلك الحرب اللعينة. أرادت أن تسمي القلق باسمه، وأن تشكّل من خلال الكتابة معرفة تسمح لابنتها لاحقًا أن تتذكّر خوفًا مجهولًا نقلته لها بغير إرادتها. 

أؤمن مثل سوزان بأننا نكتب لأننا لا نتقن فعل شيء آخر، وأنّ قلق الحروب هو موروثٌ حتميّ يخرج من الجسد على هيئة مولود، أو يتسلّل عبر الكلمات ويستقرّ في الذاكرة.

ألتمس في الكتابة شيئًا من الحقيقة التي أخشى أن أفقدها. وجدت نفسي أيضًا أثناء ذلك العدوان الهمجيّ، في أيلول/سبتمبر المنصرم، أكتب كل يوم بيومه راغبًا في أن أحرّف الرزنامة، وأن أمسك بيد التاريخ الذي يخجل ــــ إن كان له وجه ــــ أن ينظر إلينا بعينيه القذرتين. 

أردت أن أشطب أيامًا وأزمنة من التاريخ، ولم أملك سوى القلق الذي يدفعني إلى الكتابة. لكن الكتابة لم توف حق أحد، ولا حق نفسي، لأنها تصنع للتاريخ ذيلًا يمرح فيه قليلًا، ويدور في حلقة مفرغة مثل كلب يحاول أن يعضّ نفسه. أيقنت أن التاريخ لا يُروى، بل يصفع الذاكرة من الداخل كقدر جماعيّ، وأن ما كان لعبة طفولية (كالكتابة والأغاني والحدائق) صار استباقًا رمزيًا لمأساتنا الجماعية.