
أردتُ عن أغفو عن أمومةٍ شعرت بها منذ اللحظة التي وُلد فيها. نظرتُ إليه وهو مغمضٌ عينيه على تلك الأريكة البنّيّة. بدا جميلًا أكثر من العادة. أرعبتني تلك المشاعر... أن أرى جمالًا في روحٍ جديدة أملكها، أو أنّ روحينا تتكاملان في خطٍ مستقيم. أخافتني الأسئلة الكثيرة التي راحت تلفّ رأسي وتُحاصره مثل جوقة من الذباب. ما هو ذاك الحب الذي يلتصق في كلّ ناحية من الجسد؟ ما هو ذاك الخوف الذي يتحوّل إلى وخزٍ مستمر؟
أجمعُ ما تيسّر من التعاويذ والتمائم والرقى وأضعها في صحنٍ زجاجي على الطاولة. أقول لنفسي إنّي سأختار منها وأقرأها له حين أتمدّد إلى جانبه ليغفو. أنظر إلى ذاك الصحن المكوّن من زجاج متناثر جراء انفجار مرفأ بيروت، كما لو كان تعاويذ قابلة للانفجار. ثم أترك التعاويذ في الزجاج المتناثر الذي جُمِع ليشكّل كذبة جديدة من الأمل.
تمرّ الأعوام المليئة بالأزمات والانفجارات إلى أن يأتي ذلك اليوم؛ 27 أيلول/سبتمبر 2024. أجلسُ على السرير في تلك المنطقة المصنّفة آمنة من حربٍ بموازاة إبادة في قطاع غزة. أصواتُ القصف المتسارعة تتهافتُ على أذنيّ مثل أغنيات الراب حين تكاد تُقطع الأنفاس. أردتُ أن أعتبرها مجرّد مفرقعات. مفرقعات في حربٍ تبتلع الحجارة والبشر مثل ذئب ليلى. لم يكن طفلي إلى جانبي. كان قريبًا من الخطر أكثر من اللازم. عرفتُ أنه كان يقف على سطحٍ في منطقة بدارو المحاذية للضاحية الجنوبية لبيروت، حيث اغتالت إسرائيل حسن نصر الله.
كان الاتصال الهاتفي بيننا متماسكًا، وكأنّ مفعول التعاويذ بدأ للتوّ. يغضبني ذلك التماسك الذي لا يجب أن يرافق الأمهات. كان يتوجب عليّ الصراخ لمجرّد سماع طفلي صدى انفجارات قد تنجم عنها كوابيس ليلًا. هذه المشاعر تعود بي إلى الوراء، حين أخذتُ حديثًا صحافيًا من معالجة نفسيّة عن أمهات غزة بعد أشهر قليلة على بداية العدوان الإسرائيلي. كيف يتحمّلن خسارة أولادهن؟ ما هي كميّة الصبر التي يحتجن إليها للعيش؟ أراهنّ أمامي جميعًا. أحفظ وجه كلّ أمّ. أسمع صراخهن يوميًا، ثم أنظر إلى ولدي وأعانقه سرًا كأنّي أُبعده عن صراخهن. لن أتحمل مثلما يتحملن. أخبرتني المعالجة النفسية أنهنّ مختلفات. حكت لي عن صدماتٍ موروثة وأرض مغتصبة؛ كأنّ الولد يصير فداء الأرض المغتصبة، ويصبح الحزن عليه مثل الحزن على الأرض.
جعلتني الحرب أقف وجهًا لوجه مع أمهات غزة ولبنان، أرى ملامحهن جميعًا
أراه أمامي اليوم يفكّر في الوقت الذي سيشغّل خلاله "البلاي ستايشن" ويُمارس مراهقةً تُزامن حربًا انتهت في نشرات الأخبار وبقيت تستهدف جنوبيين. أجتاز الحدود إلى غزة لأرى الأمهات أمامي يحملن الأكفان. أعدّها وأخاف من الأرقام. هل عثر سيغموند فرويد، مؤسِّس مدرسة التحليل النفسي، من بين الاضطرابات النفسية الكثيرة على فوبيا الأرقام يومًا؟
يقول المحلل النفسي البريطاني وطبيب الأطفال دونالد وينيكوت إنه "لا وجود لشيء اسمه طفل منفصل؛ هناك دائمًا طفل وأم". ثمّ تخبرنا آنّا فرويد، ابنة سيغموند فرويد، التي عملت مع الأطفال خلال الحرب العالمية الثانية: "لم يكن الأطفال يخافون من القنابل بقدر ما كانوا يخافون من فقدان أمهاتهم". ونحن نخاف فقدانهم. أمانُه المفترض لكونه محظوظًا بالسكن في منطقة آمنة يُفاقم شعورًا بالذنب. هل أحميه من حربٍ أم سأُصنّف أنانية حينذاك؟ كيف سأنظر في عيون أمهات تسقط الصواريخ فوق رؤوسهن ورؤوس أطفالهن؟ ماذا عن أولئك الذين بقين ساعات طويلة في سياراتهن بعدما باغتهن قصف عنيف في جنوب لبنان؟
في اليوم الذي أُعلن فيه عن تصعيد العدوان على لبنان في 23 أيلول/سبتمبر 2024، اكتشفنا، نحن فئة الأمهات، أن الخطر يطال المزيد منّا. كأننا نتبادل تلك النظرات الخائفة والمرتبكة. ثمّ ننظر إلى أبنائنا ونُخفيهم داخل أجسادنا، علّنا نحميهم.
الأذرع والأجساد نفسها التي أحاطت بالأطفال في غزة مثل القطط، وجدت نفسها تجمع الأكفان لتلفّها حولهم. تصبح الأرضُ نفسها التي يغادر الأطفال من أجلها، حاجزًا بين الأمهات وأطفالهن الموتى. نحيبُهن لا يُسمع. ويبقى الوجع مثل مرضٍ خبيثٍ لا علاج له. كأنه الوجع الوحيد الذي لا يمكن للوقت أن يداويه.
أعود إلى آنّا فرويد: "لا حزن أعظم من حزن أم على طفلها؛ إنه يعيد تعريف معنى الحياة والموت معًا". وأقتبس من المحلّلة النفسية ملاني كلاين: "حين تفقد الأم طفلها، تفقد معه قطعة من عالمها الداخلي؛ فراغ لا يُملأ".
عرّفتني الأمومة على عالمٍ داخلي لم أعرفه يومًا. كأنّ وجوده أدخلني في ذاك النفق الذي لا ينتهي، حيث أبدية الحب. ليتني أضعه في رحمي طويلًا وأُخبره أن الحياة باتت أقسى مما توقعت: "ابقَ هنا ولنأكلْ معًا ونغنّي ونشاهد الأفلام. لن تسمع أصوات القصف، ولن تركض بين احتمالات النجاة. أريدك أن تنجو من حرب مضت وحرب ستأتي".
جعلتني الحرب أقف وجهًا لوجه مع أمهات غزة ولبنان، أرى ملامحهن جميعًا، وأرى الذل الذي يفرضه حبّ لم يُعرَّف بعد، وأبكي.
إلى أمهات غزة ولبنان… سأرشّ جميع التعاويذ فوق رؤوسكن بدلًا من الصواريخ. تعالوا نمشي معًا. نغني للأطفال علّهم يستفيقون من باطن الأرض، ثم نحملهم في أرحامنا ونعاود الغناء. لا أريد أن نبحث عن أكفان بمقاسات صغيرة بعد اليوم!