الكورنيش... آخر مرايا بيروت
قد ينعكس فينا سِحرُ الذاكرة وعزاءاتِها حين نلحظُ بحرَ الكورنيش وبيروت يشيخ أمامنا. فلا علاقة بينه وبين ذلك الذي ماجَ مع صعود المدينة.
قد ينعكس فينا سِحرُ الذاكرة وعزاءاتِها حين نلحظُ بحرَ الكورنيش وبيروت يشيخ أمامنا. فلا علاقة بينه وبين ذلك الذي ماجَ مع صعود المدينة.
إنَّها ما تُكنَّى بعِشرةِ العُمْرِ. فأنا أعرف الكورنيش منذ أمضيتُ عامَين دراسيَّين في بيروت في مستهلِّ التسعينيات؛ منذ البائعين ذوي الباصات الصغيرة من طِراز Volkswagen. هو آخر صِلةٍ حيَّةٍ بالهويّة المتوسِّطية لبيروت. يَكتَظُّ بالناس جميعًا خصوصًا من أهل شطرها الغربيّ، ليتحوَّل في ساعات الذروة إلى الفضاء المديني الأبرز للتفاعل الاجتماعي. كلامٌ، إيماءات، نظرات، كودات؛ جميعها تتلاقى رمزيًا، أو تتواجه. فكأنّ المكان يصير مَطَلًّا لرؤية ما لا يُرى من الأحوال. بل إنّه قياسًا بمرايا أديبٍ إيطاليٍّ: مرآةٌ تعكس الموجودَ، والمقصيَّ، والغائبَ.
عشتُ في مدنٍ متوسِّطيةٍ عدّةٍ، من دون أن أصادِف شيئًا مُشابِهًا له؛ ولمدياته؛ ولأجوائه؛ ولمنظر الجبل في آخره شمالًا؛ ولمشهد المنارة جنوبًا ومن خلفها دولاب الهواء على مسافة نحو مئتَي مترٍ. صادف تدشين هذه المنارة عامَ انتقالي نهائيًا إلى العاصمة في 2003. لكنَّهم غيَّروا الدولاب بواحدٍ آخر قبل نحو أسبوعَين فقط، ليَرمز بدوره إلى دوران الرَّغبات والمخاوف بلا نهايةٍ.
أما في الطرف الثاني للكورنيش في "عين المْرَيسة"، فقد اختفَت منذ عقودٍ عين الماء العذب التي منحت الاسم للمنطقة. أعنف تغيُّرٍ شهدَته وقَع في مستهلِّ السبعينيات مع المباشرة في أعمال وصلِ المكان بجادةٍ تُطوِّق العاصمة. انقلَبَ وجهُ عَين المْرَيسِة تحت الردم إلى الأبد. أودَعَت فيه خليجَها الصغير، بعدما ضمَّ، وفق الكاتب زياد سامي عيتاني: "ثلاثة موانئ طبيعية، خُصِّص ميناءان منها لقوارب الصيادين".
غير أنَّ صِلَتي بهذا الكورنيش لم تأخذ شكلَها وترسخ سوى في ربيع عام 2001، في مسبح "لونغ بيتش". يُحاذي دولاب الهواء، ويكاد يلتصِق بـ "الحمَّام العسكري" حيث ينقطع بعد المنارة بقليلٍ رصيف نزهتنا البحرية بعد طول امتدادٍ. رحتُ أرتادُ "اللونغ" رفقةَ صديقٍ يعيش في العاصمة. أهرب من يوميَّات الثانوية في مدينة صور، لأقفز في البحر ذي الصُّخور لمنطقة "رأس بيروت" هذه. قفزٌ شائكٌ قد يُصوِّر سنواتٍ قليلةٍ مُضنيةٍ مهنيًا كابدتُها أخيرًا.
أجمل ليالٍ عشتُها في المكان دامَت لنحو عامَين فحسب. فلن يَطول الوقت بعد مجيئي بيروت حتى يقع حدثٌ مباغِتٌ، جلَلٌ، فاصِلٌ في تاريخ لبنان المعاصر. قلَبَ المدينةَ برُمَّتِها، وانعكس بوضوحٍ في يوميّات هذا المكان، وفي الوجوه القلقة لناسِه. لكنْ سرعان ما سنعلم أنّنا في الليلة السابقة سهرنا "عَ الكورنيش" لنُودِّع مرحلةَ سِلمِ ما بعد الحرب. فبعد ساعاتٍ، في ظهيرة 14 شباط 2005، اغتيل رئيس الوزراء رفيق الحريري.
تضاءل الرُّوَّاد بشكلٍ كبيرٍ في الأيام الأولى التالية. ظلَّ الحال كذلك في الليل، بل بصورةٍ أشدّ بكثيرٍ ولمدّة أطول. صار الليل خوفًا ووحشةً. لا أحد على ما أظن ركب دولاب الهواء وقتها، فالرغبات والمخاوف والجميع في الأرض يَترقَّبون لا يَتزَحزَحون. وفي الخضم، انقسمنا وانفضَّت لقاءات مجموعتنا الكبيرة "عَ الكورنيش"، بعدما واءَمَت التحالفات السياسية الطارِئة بين التناقضات وخطوط التوتُّر القديمة لبيروت.
شكَّل "جورج وسّوف ـــ الـ Rock Star" نافذةَ اغترابٍ لأصدقاء و"لسهّيرة الكورنيش" عن واقعٍ يشعرون بأنّهم مُقصون عنه
كنّا قد اعتَدْنا السَّهر قبالة فندق "الريفييرا". ينتَهي المطاف بنا هناك. لا رسائل واتساب بعد فتساعد في التواصل. مجرَّد "تَعليمَة" بالهاتف لكي يفهم الآخر أنّني وصلت؛ "تعليمةٌ" من هاتفي الأحب حتى الآن Nokia 6310i. نسهَر قبالة الريفييرا لأنّ لا أحد يرغب في مشهد انفصال الكورنيش عن بحره بسبب سياج مسبح الفندق.
لا ريب في أنّ الأمر يُعدُّ تعدِّيًا على الأملاك العامة البحرية، إذ إنّها تشتمل على: "شاطئ البحر حتى أبعد مسافة يصل إليها الموج في الشتاء وشطوط الرمل والحصى"، وفق ما نصَّه قانون صدر في حزيران 1925 عن المفوَّض السامي"للجمهورية الفرنسية لدى سوريا ولبنان الكبير وبلاد العلويين وجبل الدروز". قد يشير التوصيف الممنوح للمُفوَّض السامي في ضوء واقعنا الحالي إلى نهاياتٍ تُقَدَّرُ منذ البداية أحيانًا.
ولكنْ أيًا كان، مرَّت ليالٍ تكاد تُعدُّ فيها السيارات المصطفّة بجنب الرصيف بعد اغتيال رفيق الحريري. ومذّاك انطفأت، أو خفتت، صوتيَّات السيارات السَّاهرة كأنّها حفلات متنقِّلة. سيارة صديقي من بينها. تُرَكَّب الصوتيَّات في غالبيَّتها لدى مختصٍّ حَرِّيفٍ في منطقة الأوزاعي. وهي لم تُعطِ مجدَها لأحدٍ مثلما أعطَته لجورج وسوف. إنَّه حلقةٌ وُثقى في ليالي بيروت السَّاهرة ما قبل الاغتيال الحريري، ولا كورنيش من دونِه.
يُشَكِّل في نظر معجبيه "الذكور خصوصًا، صورةَ الرجل المكسور الذي وجدوا في كبريائه الجريح ما يُشبِههم"، اقتباسًا من الأستاذة في الأدب العربي في الجامعة الأميركية زينة الحلبي. لكنَّه أيضًا شخصية خارجة على المألوف، وعلى الكودات الاجتماعية، بل إنّه Rock Star وفق صديقٍ. لا بالمعنى الموسيقي، وإنّما بمعنى يُحيل إلى مارادونا الذي يُعَدُّ الـ Rock Star بامتيازٍ. يرمز هؤلاء النجوم إلى مراحل بعينِها. يُثيرون الحنين مثل المغارب البرتقالية للكورنيش؛ فـ"السُّحُب البرتقالية للغروب تُلقي بسحرِ الحنين على كلِّ شيءٍ؛ حتى على المِقصلة".
(الصورة للكاتب)
شكَّل "جورج وسّوف ــــ الـ Rock Star" نافذةَ اغترابٍ لأصدقاء و"لسهّيرة الكورنيش" عن واقعٍ يشعرون بأنّهم مقصَون عنه، أو غير مرئيين. تَمثَّلوا به لِباسًا وسُلوكًا. القميص، واللحية الخفيفة المُخطَّطة. حتى أحيانًا كيفية الجلوس خلف المقوَد، والنزول بكوع الذِّراع ببطء على الزَّمور. وليس صعبًا الوقوع على مرويات ومآثر هكذا نجوم. طالما أخبِرتُ على الكورنيش وفي محيطه بحكايات عن كرَمِ "الوسّوف". من بين الرواة (لو أذكر الاسم جيدًا) أبو عماد؛ "حارس" مخبز"الأفران الوطنية" في شارع "بْلِسْ" حيث الجامعة الأميركية الممتدّة على طول التلّة المشرفة على نزهتنا البحرية. كان "الوسّوف" زبون ذلك الفرن.
غير أنّ حين يسهر المُغرقون في "الحالة الوسّوفية"، وأنا معهم، على حواف الكورنيش قد يُترجِمون وجهًا من وجوه المكان باعتباره "مساحةً مُوَلِّدةً للمواجهة"؛ اقتباسًا من مقالة للرسّام والباحث في علم الاجتماع رائد شَرَف،. يُتابِع شَرَف في سياقٍ أوسع أنّ "على حافةِ" هذه المساحة "يَتجمَّع الشبابُ والفئات الدنيا يَتفرَّجون على الفئات العليا تَتَنزَّه (...) فتختَلط لغات الأجساد ولغات اللباس بالمعتقدات والتصوُّرات المُكتسبة على وقع التصادم، وذلك على حساب مزايا الكورنيش، من حيث هو مكان يسمح للتنزُّه البطيء والمُتأمِّل، ولتَنَشُّق هواء مختلف".
تِباعًا ستعود المشاهد نفسها لتتكرَّر في مسرح الكورنيش بعد اغتيال رفيق الحريري. إنّما كلّ شيءٍ راح يأخذ أشكالًا جديدةً وسط تحوّلات البلد وأفقه. هذا ما تحكيه بوجهٍ خاصٍّ مدرَّجات النادي الرياضي لكرة السلّة، والواقع قبالة "الحمّام العسكريّ" الحائل بينه وبين البحر. إنّها حكاية حرب كرة السلة التي أشعلها صعود الحريري وأخمدها اغتياله؛ الدربي النَّاريّ بين ناديَي الرياضي والحكمة.
وُلِد الدّربي في النصف الثاني للتسعينيات. تحوَّل سريعًا إلى معارك فُرجةٍ تُسلِّع الاختلالات السياسية والطائفية في زمن السّلم، فلبس لبوس حربٍ أهلية. الجمهوران والناديان المتواجهان جسَّدا طرفًا انتصر في الحرب فحكَمَ، وآخر هو "اليمين المسيحي" انهزم فطُرِد من الحُكم. لكنَّ الحال انقلَبَ فور اغتيال زعيم بيروت ومموِّل النادي الأبرز.
ترجع ولادة الكورنيش بكونِه مسارًا بحريًا للتنزُّه إلى زمن الانتداب، وسيُطلَق عليه لاحقًا اسم الكورنيش، على غرار ذلك الذي دفع نابليون نحو إنشائه في مدينة طولون
سينزع النادي الرياضي "الحِدادَ من حيث الشَّكْل"، مثلما وَرَدَ في جريدة السفير في 3 آذار 2005، ويستأنف منافسات البطولة. إلّا أنّ حشود الشطر الغربيّ للعاصمة انفلَقَت بين قطبَي السياسة الناشئَين 8 و14 آذار. فقَدَ الدّربي توصيف: بيروت غربية ضدّ بيروت شرقية. ولِد آخر يعكس السِّلم المستجدّ بين ورثة الزَّعيم الراحل وفئة كبيرة من "الشرقيّة".
عهدتُ مدرَّجات صالة الرياضي تهتف لـ "غربيةٍ" مختلفة عن الحالية. ترفع الصوت، لو بتفرُّقٍ، للحريري وللسيِّد حسن نصر الله. زعامتان خبرتا، في سياقات وأطرٍ مغايِرة، كيف أنّ حُكمَ لبنان "دارٌ لا تُبْقي على أحدٍ". ولكنْ بما يليق بحبكات دائرية لمعالم في هذا الكورنيش، كانت نهاية القصة قد دُوِّنَت منذ البداية. فجمهور هاتَين الزعامَتَين الاستثنائيَّتَين واجه آخر لم يُكمِل عزاءه بعد على أوَّل من ذاق مرارة حُكمِ لبنان في تاريخنا القريب، بشير الجميِّل.
لمّا وقع الفراق البيروتيّ في سنة 1975 بين شرقيّة ــــ بشير الجميّل، وبين بيروت الغربية، كان هذا الكورنيش "قريبًا وبعيدًا في آنٍ عن ساحات القتال، (بما أعاد) تعريفه بكونه مجالًا أساسيًا للتنزّه والخروج لسكان بيروت الغربية"، وفق مقالةٍ للأنثروبولوجية كريستين ديلبال. فقبل الاشتعال، لم تكن هذه المنطقة "سوى منفذ إلى البحر، من دون ارتباط وظيفي حقيقي بالمدينة"، بخلاف منطقة الرَّوشة.
تُلقي كريستين ديلبال الضوءَ على التغيُّر الذي وقعَ خلال الحرب، وذلك من خلال نقل شهادة أحد سكّان الأحياء المحيطة بالمكان. فيقول: "قبل الحرب، كان كل واحد منا يتجوَّل على الكورنيش كأنَّه في بيته، وإذا رأى أحدًا على بُعد مئتَي مترٍ يعرفه فورًا... يعرف من هو ولماذا هو هناك". ولكنّ الرجل يلفت إلى مخاطر طرَأت، إذ "يُمكِن لأيّ أحدٍ المجيء الآن [خلال الحرب]، لقاء امرأة، تعاطي المخدَّرات... يمكن أن تجد كلَّ شيء هنا، وكذلك أناسًا لم ترَهُم من قبل في المنطقة".
كما توضح الباحثة الفرنسية أنّ مع بداية الحرب صار الكورنيش يحتضن نشاطاتٍ متعدِّدة. فقد راح "باعةٌ طُرِدوا من وسط المدينة المجاوِر ينصبون متاجرهم العشوائية على الرصيف، وشاطئ البحر، وفوق أغطية السيارات (...) سجائر، عطور، كحول، ملابس، أواني منزلية، أجهزة كهربائية".
أيضًا في تلك المرحلة بدأت تظهر فكرة "قهاوي الإكسبرس". أقصد تلك الباصات الصغيرة من طِراز Volkswagen المصطفّة بجنب الرصيف. تروي كريستين ديلبال أنّ هذه المقاهي "تفرش الكراسي والمظلات في العراء، على عرض الرصيف بالكامل، ومجهَّزة بثلاجات وآلات لصنع "قهوة الإكسبرس"، وغالباً تُقدِّم الشاي، والبيرة، والمشروبات الباردة، والبوظة، والنرجيلة". أما أسماؤها "فإما حالمة أو هي أسماء أصحابها: إكسبرس النجوم، أبو حسين، عباس...". "كان أصحاب "الإكسبرس" مطَّلعين، فيروون قِصصًا عن زبائنهم، ويعرفون ألقاب المارّة، ويحمي بعضهم بعضًا".
عرفتُ "الإكسبرس" بالمباشَر لمّا عشتُ طفلًا لعامَين دراسيَّين في بيروت. لم تختفِ نهائيًا سوى في سنة 1994 بقرارٍ صدر عن الحكومة الأولى للرئيس رفيق الحريري. ولكنَّه قرارٌ أضيف إلى سلسلةٍ طويلةٍ وقديمةٍ شكَّلت الكورنيش مثلما نعرفه اليوم خصوصًا بعد عمليات الرَّدم الكثيرة. فيُمكن توصيفه بـ "كورنيش الجمهورية"، إذ اندرَج تطوُّره في إطار مشاريع حضرية ومدينية قابلتها الكثير من الانتقادات خصوصًا في الخمسينيات والستينيات.
اتُّهِمَت السلطات بعدم الفاعلية، فيما عُدَّت ورشة الكورنيش "من بين أبرز الأمثلة، إذ لا تنتهي (...) في حين أنّ كورنيش القاهرة، وهو أكبر، أنجِز في عامَين فقط"، على ما يورِد إيريك فيردييل في رسالته بعنوان "مدينة ومخططوها الحضريون: بيروت في طور إعادة الإعمار". يتناول فيردييل النقدَ الذي وجَّهه المخطّط الفلسطيني اللامع، سابا جورج شِبِر، إلى السلطات اللبنانية بعدما عمل مستشاراً لديها. فيَعتبر أنّ كلام سابا "تجاوَزَ انتقاد عجز السلطات ليتَّخِذ نبرةً واعظة، إذ كان يدين مجتمعًا غارقًا بأكمله في نزعة الربح والمال السهل. إذ في هذه المدينة، تسود ذهنية "من بعدي الطوفان".
(الصورة للكاتب)
قد يُقال أكثر من ذلك اليوم، انطلاقًا من هذا الكورنيش نفسه. إذ فوقه وفي محيطه حامت بعد نهاية الحرب الأهلية بوجهٍ خاصٍّ أحلامُ وأوهامُ قدرة الفرد على تَمَلُّك رفاهية العالم بأكملها وسط انفجار النمط الاستهلاكي. كاد الأفق ينتقل من البحر ليسكن في العمارات الشاهقة الباذخة المُتكاثِرة.
ترجع ولادة الكورنيش بكونِه مسارًا بحريًا للتنزُّه إلى زمن الانتداب، وسيُطلَق عليه لاحقًا اسم الكورنيش، على غرار ذلك الذي دفع نابليون نحو إنشائه في مدينة طولون
تأخَّرَت ولادته مقارنةً بمرحلة التوسُّع السكاني في القرن 19؛ من المدينة القديمة نحو "رأس بيروت" حيث تقع غالبيته. أولًا لأنّ النُّزهة لم تكن بعد سلوكًا اجتماعيًا. وثانيًا، لأنّ هذه المنطقة كانت في النصف الأول لذلك القرن "طارِدةً للسكن بفعل الجروف الصخرية (عند البحر) والتعرُّضِ للرياح"، توضِح كريستين ديلبال.
لم تبدأ الحركة السكانية باتّجاه رأس بيروت سوى مع توسُّع المدينة القديمة وتشكُّل وظيفتها الإقليمية بكونها مدينة ــــ ميناء. تعزَّز هذا المنحى الوظيفي مع افتتاح قناة السويس عام 1869، وإحيائها طرق التجارة البحرية شرقيّ المتوسط. سبق ذلك بسنوات قليلة تدشين طريق دمشق – بيروت، والذي فتح المرفأ على العمقَين البقاعيّ والشَّامي. بعدها، ستزداد أهمية المدينة وتتَّسع نطاقًا مع تحوُّلها إلى ولاية عثمانية عام 1888. وكذلك الأمر مع إنشاء سكّة حديد بين بيروت ودمشق، وتحديث المرفأ من جديدٍ.
ابنُ رأس بيروت المولود في عام 1900، مصطفى محي الدين القوَّتلي، يقول ضمن مداخلته في كتاب "رزق الله عهيديك الأيام يا راس بيروت"، إنّ هذه المنطقة «كانت كلها صبّير وفجل وأشجار توت وجميز ومقسيس. وكان أهلها مزارعين يُرَبون الأبقار ويتاجِرون بها. (...) آثار حوافر الدواب بادية في ممرَّاتها. كنَّا نمرُّ (...) حذِرين من خطر الأفاعي، نَستَقِلُّ الطنابر أحيانًا وأحيانًا نركب الحمير".
غير أنّ مع انطلاق التوسُّع في القرن التاسع عشر "استقرَّت بيوت التجارة الأجنبية، والقنصليات، والبعثات في بساتين رأس بيروت"، وفق كريستين ديلبال. من بين الذين استقرّوا في تلال المنطقة هي الكلية البروتستانتية السورية في 1866، والتي ستتحوَّل في مستهل العشرينيات إلى الجامعة الأميركية. واحد من طلابها هو المفكِّر قسطنطين زريق، ويروي: "كنّا نمشي حتى المنارة [القديمة، والواقعة على بعد نحو 400 متر من الجديدة]، فنصل إلى الصخور، ولم يكن هناك أثر لأي بناء، فكنّا نستريح على الصخرة ونأكل الحمص الأخضر".
يضيف زريق ضمن مداخلته في "رزق الله عهيديك الأيام يا راس بيروت": "كانت هذه الشطوط خاصة بالجامعة، فالحمّام العسكري حاليًا كان خاصًا بالاستعدادية (الثانوية)، وحمّام اللونغ بيتش حاليًا كان خاصًا بطلبة الدوائر العليا، وحمّام السبورتنغ كان خاصاً بالمعلمين، وهكذا حتى سنة 1935". لاحقًا مع انتصاف القرن، سيولد "اللونغ بيتش" و"السبورتينغ"، وسيُسهِمان، وفق ديلبال، في إشاعة "علاقة جديدة بالجسد، وبوقت الفراغ، وبالاحتشام، غيَّرت السلوك البحري".
إنّها أشياء تبدو شبهَ منسيَّةٍ، أو مُهمَلةً في سيرةِ الكورنيش. وأنا لستُ أبحثُ عن ماضيه على الإطلاق، وإنّما "أودّ أن أتحدَّث عن ذاكراتنا، وعن ذاكرتي في علاقتها بالماضي، وعن تشوّهاتها، وانكساراتها عبر الزمن"، على غرار ما يفعله المؤرِّخ الفرنسي إيمانويل دو ــــ فاسكيال في سياقٍ آخر. الذاكرة في نظره "بابٌ مفتوحٌ أمام أشكال الهرب كافة"، وهي "ذات طابع روائي؛ منحازة، مجتزأة، ذاتية، حسّاسة، مليئة بالمرايا والمصادفات". إنّها "نوعٌ من العزاء. نختلق فيها حياةً أوسع، وأكثر سحرًا".
قد ينعكس فينا سِحرُ الذاكرة وعزاءاتِها حين نلحظُ بحرَ الكورنيش وبيروت يشيخ أمامنا. فلا علاقة بينه وبين ذلك الذي ماجَ مع صعود المدينة في القرن التاسع عشر. "لا قاسم مشتركًا بينهما غير المياه. حتى اللون لم يعد هو نفسه. أين تجد مرجانًا قرب شطآن بيروت اليوم؟"، يتساءل الروائي ربيع جابر في "بيروت مدينة العالم".
في الخيالِ قد أجِدُ مُرجان بيروت. في الإيمان بالدوران الذي بلا نهايةٍ لدواليب الهواء. في الهرب الجحود المُتكرِّر نحو هذا "الأفق المائي حيث تَضيع العين حتى يتعذَّر دمجه في مشهد الفردوس المُحاط بأسوارٍ"، اقتباسًا من "أرض الفراغ" للمؤرِّخ آلان كوربان. فهذا النصُّ فراقٌ مُعلنٌ مع الفراديس المُحاطة بأسوارٍ لمدينتي، لأنَّ "لا بحر [حتى] في جَنَّة عَدْن". بل إنّه نصٌّ يودُّ عبورَ مرآةَ المدينة، الكورنيش، نحو ما هو بمثابةِ جزيرةٍ أنشِئُها من الجهة الثانية ــــ لي.