صوْر بمنظار عجائبي: لأن المستقبل قد لا يدوم طويلًا

لا أسعى في هذه المقالة إلى رميِ "حزب الله" والمقاومة، والتشجيع على الذهاب بعيدًا في جلد الذات، إنَّما إلى قلب الأسئلة. فخلف سؤال "كيف وصلنا إلى هنا؟" يختبئ سؤال معرفة: "كيف كان ممكِنًا في الأصل الوصول إلى هنا؟".

لستُ أتطلَّع إلى وصلِ تاريخَين، بل من أجلِ القطع مع الحاضِر وضعتُ منظارًا عَجائبيًا، فرأيتُ مدينةَ صور تَحترِق سنة 332 قبل الميلاد. وفيما الإسكندر يستعِدُّ لكي يطأها بعد حصارٍ وحشيٍّ دامَ سبعة أشهر، بدَت لي وجوهُ القلَّة الناجية سوداء مُنهَكةً، وأيضًا كأنَّها لم تُصدِّق بعد كيف دُكَّت الحصون المنيعة، وأهلِكَت القوَّة البحرية، بل كيف برغم مقاومتها ومقاومة من ارتَقوا، نجح الغازي في ربط جزيرتها باليابسة. آمن هؤلاء بأنَّ صور لن تُهزَم، وعاشوا في زمنٍ ظنُّوه خاليًا من المفاجآت حتى حلَّت عليهم بضربةٍ واحدة. 

أُمعِن النظرَ بهذا القائد الذي "سَيَدنو من الشمس  في حياته أكثرمما ينبغي لمَّا أراد بلوغ أقصى حدود العالم الذي يَعرفه". كان الاستيلاء على الجزيرة حيَويًّا ضمن حربه على الإمبراطورية الأخمينية، وفي سياق مسعاه من أجل السيطرة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وشبكات التجارة فيه. لكنْ بعد خضوع مدينتَي جبيل وصيدا، رفضت صور الاستسلام، وعوَّلت على أنَّها منيعة أمام أي هجوم برّي تقليدي، فسورها يصل ارتفاعه إلى ستين مترًا، وتقع على مسافة نحو 700 مترٍ من اليابسة وسط مياه عميقة بقَدْر. غير أنَّ الإسكندر فاجأ الجميع وأعلن أمام قادة جيشه بدء الحصار، في خطاب نسبَه إليه لاحقًا المؤرِّخ أريان، وقال: "إذا سقطَتْ صور في أيدينا، فإنَّ فينيقيا بأكملها ستغدو تحت سيطرتنا". 

يُخبرنا بلوتارك، في القرن الميلادي الأوَّل، أنَّ في ليلةٍ من ليالي الحصار رأى الإسكندر في منامِه البطلَ الإغريقي الأسطوري هرقل "يمدُّ يدَه إليه من فوق السور ويناديه". وفي الوقت نفسه، يُتابع بلوتارك، حلم عدد من أهل صور بأنّ الإله أبولو "أخبرهم بأنّه سيغادر إلى جانب الإسكندر، لاستيائه ممَّا يجري في المدينة". أحِب سِيَر الأحلام، ولكنَّ اللحظة التي وطأ الغازي فيها أرضَ ما كانت جزيرةً تعتَدُّ بذاتها، شكَّلَت نقطةَ تحوُّلٍ يتَّضح معها مسار الأحداث اللاحقة، وبصورةٍ تجعلها تبدو كأنَّها محكومةٌ بقدَرٍ لا مفرَّ منه.

بالفعل، مع نجاح الإسكندر، "استمرَّت التجارة في البحر الأبيض المتوسط، ولكنَّ الفينيقيين خرجوا من التاريخ"، على ما تجزم افتتاحية مجلة L’Histoire الفرنسية لعددٍ مخصَّصٍ عنهم في حزيران/يونيو 2023. نقاط التحوُّل مثل انتصار الإسكندر وما أعقبه من تداعيات، هي في الواقع تعريف المؤرِّخ الألماني رينهارت كوسلِك لما يسمِّيه "مواقف فريدة"، ويَعُدّ استكشافَها ونقلَها من التحديات الكبرى التي تُواجِه أيّ محاولةٍ "من أجل فهم الذات والعالم".

لستُ أماثِل بين زمَنَين، ولكنَّ ما أعرفه الآن أنَّني حين أصوِّب منظاري العجائبي نحو الناجين وما يظهر من وجوه القتلى الكثر، أشعر بأنَّ ما يجمعني بهم هو أنَّني "وُلدتُ [في هذه المنطقة]، وشرِبتُ من ينابيع ثقافتها، وجعلتُ تاريخَها تاريخي، ولا أتنفَّس بارتياحٍ إلا تحت سمائها، وسعَيتُ بدوري إلى الدفاع عنها بأفضل ما أستطيع". أقتبِس من كتاب المؤرِّخ الفرنسي مارك بلوك "الهزيمة الغريبة"، الذي يتناول الخسارة المدوِيّة والسريعة التي تعرَّضت لها بلاده في وجه هتلر، بعد نحو عقدَين فقط من خروجها منتصرةً من الحرب العالمية الأولى.

يؤكِّد بلوك: "أنا لا أدَّعي بأيِّ شكل من الأشكال بأنَّني أكتب هنا تاريخًا نقديًا للحرب (...) فالمصادر التي تتيح ذلك تنقصني، وكذلك الكفاءة التقنية اللازمة. لكن هناك، منذ الآن، ملاحظات شديدة الوضوح إذ لا مجال للتردّد في صياغتها، دون إبطاء".

****

 لمَّا عدتُ ووضعتُ المنظار، تقصَّدتُ الإطالةَ. فقد رحتُ أراقب في هذه المرّة الطريق التي تقود إلى صوُر. كنّا نسلكها في الصباح ذاهبين إلى المدرسة في المدينة، ثم تعود بنا بعد الظهر. في 25 أيار/مايو 2000، كنَّا نهمُّ مغادرين القرية لمَّا سمعنا عبر الراديو أجمل خبرٍ، يؤكد انسحاب إسرائيل وعملائها. تغيَّر الجنوب، وحلَّت أيام عزٍّ وفرحٍ وهناء. صارت للأكثرية المؤيِّدة لما يُسمّى "الثنائي الشيعي"، مقاومة تحمي من إسرائيل، وزعيم في بيروت، رئيس مجلس النواب نبيه برّي، يوسِّع "الحضور الشيعي في الدولة"، كما كنتُ أسمع.

من هنا ستبدأ سهرة جنوبية طويلة، لتنتهي في 27 أيلول/سبتمبر الماضي مع استشهاد السيِّد حسن نصر الله، أو الرجل الذي تماهَت تحت عباءته الحدودُ بين الانتماء إلى "حزب الله" نفسه وبين الهويَّة الجنوبية، وكذلك بين التأييد وبين المُبايعة.

 كانت توقّعات المقاومة الإسلامية وآمالها قد تغيَّرت بين حرب تموز/يوليو 2006 وأكتوبر 2023 

يُحكى كثير عن أيامه الأخيرة، ولا معطيات جديدة عندي. ممَّا جرى تداوله هو أنَّ القرار بعدم استباق إسرائيل نحو توسيع نطاق الحرب في وقتٍ أبكر من الصيف، كان بيد طهران. لا أعرف إلى أي مدى يُفسِّر هذا المعطى القرار بضبط ردود فعل المقاومة الإسلامية على الجبهة. لكن هناك عامل إضافي ربما أسهَمَ في خيار السيِّد نصر الله عدم الذهاب بعيدًا في الحرب، وهو موقف يشبِه تمامًا موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حيال خيار بلاده التدرُّج في دخول الحرب على أوكرانيا.

فقد كان هدف الكرملين "تقليل الخسائر البشرية، والحفاظ على المكسب الأساسي لحقبة بوتين، أي العودة إلى استقرارٍ يضمن وجوداً لائقاً للجميع". هذا ما يقوله الأنثروبولوجي والمؤرِّخ الفرنسي إيمانويل تود عن حالة روسيا في كتابه الصادر حديثًا "هزيمة الغرب"، وهو قد ينطبق على حالتنا، ويُقدَّر بأوجهٍ كثيرةٍ. فيبدو أنَّ نصر الله أراد حتى النهاية تَجنُّب المراهنة بكل ما تَحقَّق تحت زعامته "الأخوية" مع نبيه برّي.

لا ريب في أنَّ ما أخوض فيه حذِرًا هو نِقاشٌ أكبر مني. لكن يُغريني التفكير في الأيام الأخيرة لمثل هذا الزعيم، وفي مثل هذه الوضعية الشديدة الخطورة بعدما بدا أنَّ هناك خطأ ما في الحسابات جرى ارتكابه. كانت علاقتي بزعامة ابن القرية غير البعيدة عن قريتي، إشكالية ونزاعية أيديولوجيًا، لكنْ لمَّا رحلَ أبكى. فهو في جبلته الأولى قائد مقاوم من هذا الجنوب، ذهب مُوجَعًا مُثقَلًا ليسكُن بيتَه الأبديّ، في قصيدةٍ لمَن وصفه البعض بالأب الروحي لـ"حزب الله"، السيِّد محمد حسين فضل الله:

أنا يا ربِّي في طريقي أَحثُّ الخطوَ نحو العُلا ومِنكَ العلاءُ

فاهدِني الدَّربْ، إنَّ خَطوِيَ حيرانْ ودنيايَ حيرةٌ وشقاءُ

(...)

فقد يَجمحُ الخطوُ، وقد يَحجبُ الضياءَ بلاءُ

(...)

واضطرابٌ في فكرةٍ لستُ أدري كيف غشَّى نجوى هُداها الغِشاءُ

(...)

هَل لي إليكَ دربٌ مُضاءُ(؟)

أنتَ يا ربِّي عالمٌ بجِراحاتي، خبيرٌ بما يَجِنُّ الخَفاءُ

وأنا راجِعٌ إليكَ بقلبي، إنَّ قلبي صَحيفةٌ بَيضاءُ

 

كانت توقّعات المقاومة الإسلامية وآمالها قد تغيَّرت طوال المدة الممتدَّة من حرب تموز/يوليو 2006 وحتى السابع من أكتوبر 2023. إذا أردنا التحديد، فما تغيَّر هو ما يسمِّيه رينهارت كوسلِك "الأفق التوقُّعي"، أي الإسقاطات والتوقُّعات المتعلِّقة بالمستقبل، والتي تتشكَّل استنادًا إلى التجارب المكتسبة في الماضي، أي إلى "فضاء التجربة". يشمل هذا الفضاء المعرفة المتراكمة، والذكريات، والممارسات المُستَمدَّة من أحداث الماضي، فيما يُعدّ المفهومان حيويَّين في سبيل فهم كيفية إدراك الأفراد والمجتمعات لذواتهم ضمن الزمن.

يرى صديق أنَّ "حزب الله" والمقاومة الإسلامية انتقلا بعد حرب تموز "من منطق حروب العصابات إلى منطق قوَّة عسكرية أشبه بالجيوش الكلاسيكية". بلغةِ نظرية العلاقات الدولية، كان "حزب الله" والمقاومة يتحوَّلان إلى فاعلٍ يُقارِب موازين القوى وفقًا لـ"المدرسة الواقعية"، مع العلم أنَّ القصد بذلك ليس البراغماتية. ووفقًا لهذه المدرسة، تتَّبع الدول، في ضوء تعاملها مع التهديدات، إستراتيجيات على غرار بناء القوّة ومراكمتها، وتحقيق التوازن والرَّدع.

ربما ما عزَّز هذه النزعة لدى "حزب الله" هو ما حُقِّق في الميدان السوري. لكنَّني كنتُ أماثِل بين المدرسة الواقعية وبين لعبة الشطرنج حين يبدي أصدقاء اعتقادَهم في نهايات الحرب وبداية وقف إطلاق النار، بأنَّ "خطأنا أنَّنا نلعب طاولة الزَّهر، بينما إسرائيل الشطرنج". أرى العكس، إذ تتشابَه اللعبة و"الواقعية"، ولا سيَّما لجهة تشاركهما في نقطة جوهرية إلى جانب مراكمة القوَّة، هي القدرة على التنبُّؤ بتحرُّكات الطرف الثاني وصدِّها. وهذا ربما ما فقدناه في لحظةٍ ما في الحرب، حتى بدأت البيادق تتدحرَج، ويُغيِّر الجميع مواقعهم لأنَّ الرَّدع اهتزَّ بشدَّةٍ.

بلى، لقد لعِبنا الشطرنج بالفعل في وجه إسرائيل. لكنَّها، مستفيدةً من حضن حلفائها وجرائمها، أوصلَتنا في غضون أيامٍ إلى مُعادَلة "كِشْ مَلَكْ". فلعلَّ الأخطر في الشطرنج هو أنَّها لعبةٌ صِفريةٌ، إذ تعدُّ مكاسب طرفٍ في القوَّة أو النفوذ خسارة للطرف الآخر، وبالتالي قد لا يدوم المستقبل طويلًا في رقعتها (قياسًا بعنوان كتاب للويس ألتوسير). وهذا في الوجه الآخر ما يجعل الأحلام والتوقعات بلا حدودٍ في حدودِها.

لستُ أقول ذلك من أجل رميِ "حزب الله" والمقاومة، والتشجيع على الذهاب بعيدًا في جلد الذات، إنَّما بهدف قلب الأسئلة. فخلف سؤال "كيف وصلنا إلى هنا؟" يختبئ سؤال معرفة: "كيف كان ممكِنًا في الأصل الوصول إلى هنا؟"، اقتباسًا من رينهارت كوسلِك.

في مثل هذا العالم، لا يمكن أن تستسلم المقاومة إلى أنَّها محشورة في الزاوية؛ لا شيء في السياسة اسمه الحشر في الزاوية 

لا بدَّ من مغادرة طاولة الشطرنج، مازحتُ صديقي مع دخول المفاوضات حول اتفاقٍ لوقف إطلاق النار مرحلة جديَّةً. لا أقصد بالضرورة الدَّعوةَ إلى ما يُشبِه طاولة الزَّهر والنَّرد، لكنَّنا في عالمٍ جاهزٍ للحروب بما يوجب الحذَر. عالمٌ تحكمه دولٌ سطحيّة لا عميقة، تكوِّنها "عصابات" تبحث عن المصالح الذاتية، وفقًا لإيمانويل تود في كتابه "هزيمة الغرب". لكن في هذا العالم، "الأزمة الغربية هي محرِّك التاريخ"، على ما يشير تود، وبالتالي لا أحد يقول إنَّ هذه المنظومة الغربية التي تُحاصِر المقاومة وتركَت إسرائيل تقتل عشرات الآلاف من البشر، مستقرَّة. إسرائيل نفسها واقعها الاقتصادي صعب، وسكّان الشمال لم يعودوا بصفتهم كتلةً بعد.

في مثل هذا العالم، لا يمكن أن تستسلم المقاومة و"حزب الله" إلى أنَّهما محشوران في الزاوية. لا شيء في السياسة اسمه الحشر في الزاوية، خصوصًا في بلدٍ صار مفتوحًا على مخاطر كبيرة، لكنَّها قد تحمل كثيرًا من الفرص. لكنَّني أذكُر في ليلة من آخر ليالي الحرب أنَّني جزَمتُ في وجه صديقي القريب من "حزب الله" بأنَّه "يكفي شيعة لبنان التعاطي مع الواقع منذ سنة 2005 عبر رفضِه... حتى لو كان مُتآمِرًا". يتطلَّب الأمر قدرةً على التكيُّف في السياسة، لا أعرف كيف لها أن تكون. لكنَّني أظنّ أنّها صارت مندرِجةً في إطار أعم هو ما يُسمّى الأسئلة الأولى التي تعيدُ هذه الحرب طرحَها على هذه المنطقة وسكّانها.

****

جغرافيًا، تقع هذه المنطقة كلّها، وبما يشمل الداخل الجنوبي لا ريب، ضمن ما كان يُسمَّى جبل عامل. من أجل تقديم ملامح هوية تاريخية لسكَّان هذه المنطقة، وهم في غالبيتهم من الشيعة، يستعيد عالم الاجتماع وضَّاح شَرارة في كتابه "الأمَّة القلقة؛ العامليون والعصبية العاملية على عتبة الدولة اللبنانية"، مقالة لأحمد رضا صدرت في مجلة العرفان سنة 1910، وتحمل عنوان "ما هي الأمة؟". فيقول شرارة إنَّ الكاتب "مواطن على نحوٍ خاصٍّ"، مضيفًا:

"فهو عربي في دولة يغلب عليها الأتراك؛ وهو شيعي في خلافة تتوارث شرعية سنية، وهو مسلم في سلطنة تجمع تحت عباءتها كل الجماعات التي تأتَّت من الفرق والملل والنحل، وهو عامليّ تتنازعه أرض تشدُّه إلى محيط مسيحي وسنّي بين ساحل فلسطين وجبل لبنان ويتنازعه زمن وثقافة يشدَّانه إلى العراق وإيران، وهو مثقف يرنو إلى استانبول وضباطها ورجاء مدنيَّتِها بعينٍ بينما يملأ التشيُّع وجبل عامل والنبطية العين الأخرى".

كانت العاملية، وفقًا لشرارة، "مزيجًا من موطنٍ وقومٍ ومذهبٍ ومن تاريخٍ وثقافةٍ، لا تصلُح تمامًا لتكون عصبية منغلقة أو مجتمعًا خاصًا منطفئًا". ويلفت شرارة إلى أنَّ في بدايات القرن الماضي، مع "فشل التجربة السياسية العثمانية" وانسحاب بعض الكتّاب العامليين من جمعية الاتحاد والترقي، أفضى ذلك إلى "تعليق الفعل السياسي العاملي في فراغ، أو ما يشبه الفراغ. فالعاملية ليست مرجعًا وركنًا وركيزة إلا إذا اتصلت بما يتعداها ويتخطاها ويضمّها إليه ويستوعبها".

أما المؤرِّخ منذر محمود جابر، فيشير في كتاب "مسائل في أحوال الجنوب اللبناني ــــ جبل عامل"، إلى أنَّ "الحدث التاريخي بالنسبة إلى العامليين محدَّد سلفًا سلمًا أم حربًا، فالفرقاء أطراف الحدث محدَّدون، وميدان الحدث وجغرافيته محدَّدان: جبل عامل بطائفته واقتصاده، وجواره بطوائفهم وسياساتهم وحاجاتهم، وكأنّ الواحد منهما لا وجود له ولا استقامة إلا بوجود الآخر (...) وهذا ما يوصلنا إلى القول إنّ التاريخ العاملي جغرافيةً وطموحات (جبل عامل وعلاقات الجوار) يَصغُر كثيرًا عن جغرافيّة وطموحات الحدث الشيعي (أرض الإسلام والطموح إلى العدل المطلق)".

وعلى أعتاب نشوء لبنان الكبير سنة 1920، يفيد جابر بأنَّ "القيادات العاملية (...) ظهرَت غداة الحرب الكونية حائرة ضائعة، لا تحملها أرض ثابتة تستقيم عليها". ويشير في موضعٍ آخر إلى أنَّه إبّان الحرب وغداتها "تَحتَّم على الشيعية السياسية الجنوبية أن تصير أكثر واقعية. (...) وقد أقرَّ الشيعة، وبدرجات متفاوتة في التوقيت، بأنَّ لبنان الكبير بات حالة سياسية لا فكاك منها، ولا إمكانية لردّها أو الانحراف عنها".

يتابع جابر أنَّ في لبنان الكبير شعر الشيعة بأنّهم "يؤلِّفون نسبةً وازنةً من السكان تمكِّنهم من رعاية مصالحهم والمحافظة عليها، أكثر مما لو كانوا في سوريا أقلية بين جموع السنة الغفيرة المعقود لهم لواء القيادة والزعامة". ويخلص: "لذا لم يستتبع الانضمام إلى لبنان، أي صراع سياسي بين المراكز والفعاليات العاملية الزمنية منها أو الدينية. (...) ودخول الجماعة الشيعية في الكيان اللبناني يعني، ومنذ اللحظة التأسيسية، عيشًا مديدًا مع أحوال فيها مِنَ الصعوبات والتعقيدات العسيرة، ليس أقلها ضبط هذه الجماعة مكانتها وحراكها ضمن حدود إقامتها في عزلة طرفية من الكيان الجديد المبارك الولادة في مصلحة الجماعة المسيحية في لبنان الصغير".

 كان الحديث على مدار السنوات الماضية بشأن استعدادات لتنفيذ اقتحامات في الجليل واحدًا من تجسيدات الشطرنج و"الواقعية"، ولكنَّه حلمٌ فيه شيء من المشروعية ربما

لستُ أقفز بنحو قرنٍ إلى الأمام، ولكن لا أعرف أين صار سكَّان الجنوب اليوم وشيعة لبنان بالعموم. فهذه المنطقة قبالتي، سواء أنظرتُ إليها عبر منظاري العجائبي أم من دونه، هي بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل ووسط وقف إطلاق نارٍ هشٍّ، تواجِه "موقفًا فريدًا"، بتعبير رينهارت كوسلِك. فمسار الأحداث فيه من الوضوح ما يكفي لإثارة القلق، وأخشى على مستوى فرديٍّ من أن تكون محكومةً بقدَرٍ لا مفرَّ منه. وفي الأثناء، أنا لا أرى "حزب الله"، برغم تضحياته الجَّلل، سوى في وضعية مشابهة لتلك التي يصف فيها ونستون تشرشل إحدى آخر المعارك التي خاضها بنفسه على ظهر الخيل، وكان ذلك في السودان. فيقول: 

"من وجهة نظر معيَّنة، تشبه هجمة الفرسان الحياة العادية. عندما تكون في صحَّة جيِّدة، وتجلس بثبات على السّرج، وتتحكَّم في جوادك بإحكام، وتستطيع استخدام أسلحتك، فإنَّ خصومك غالبًا ما يفسحون لك المجال بأناقة. ولكن، منذ اللحظة التي تفقد فيها رِكابًا، أو تكسر لجامًا، أو تسقط سلاحًا، أو تُصاب أنت أو جوادك بجروح، سينقضّ عليك أعداؤك من كل جانب".

****

في المرَّة الأخيرة التي رفعتُ فيها منظاري، جعلتُه باتجاه فلسطين، الجليل. كان الحديث على مدار السنوات الماضية بشأن استعدادات لتنفيذ اقتحامات في الجليل واحدًا من تجسيدات الشطرنج و"الواقعية"، ولكنَّه حلمٌ فيه شيء من المشروعية ربما. فقبل أن تنشأ الدولة اللبنانية، وقبل زمن إسرائيل، كانت العلاقات بين سكان القرى الجنوبية خصوصًا الحدودية منها، وبين سكان الجليل، تندرج في خانة اليوميات.

"كان لسكان لبنان الجنوبي، المسيحيين منهم والمسلمين، علاقات تقليدية وثيقة في مجالات العمل والتجارة والصداقة، وحتى التصاهر، بسكان فلسطين الشمالية. بل إنَّ معرفتهم بمدينتَي حيفا وعكا كانت لا تزال أوثق من معرفتهم ببيروت"، على ما يقول عالم الاجتماع اللبناني أحمد بيضون في مقالة بحثية بعنوان "الشريط الحدودي في لبنان الجنوبي؛ نظرة محلية"، ونشِرت في مجلة الدراسات الفلسطينية عام 1992. ويشرح الكاتب أنَّ "إحدى النتائج غير المتوقعة لقيام إسرائيل كانت تشجيع المزيد من التكامل الوطني في لبنان، عبر إعادة توجيه النشاط الاقتصادي في الجنوب نحو الشمال".

وفي سياق عرضه المُحدَّد بواقع "ذاك الجزء من لبنان الجنوبي الذي أصبح الحزام الأمني" في أعقاب اجتياح 1978، وكيف تفاقمت الخلافات مع القوى الفلسطينية المقاوِمة، وكذلك دور "جيش لبنان الجنوبي" إلى جانب إسرائيل، يلفت بيضون إلى أنَّه "عانى الشيعة [في ذاك الجزء] ما لم تعانِه أي جماعة أخرى، عدا الفلسطينيين، على يد إسرائيل". ويوضح: "عانوا الوطأة الكاملة للاحتلال الإسرائيلي. ومشاعر الكراهية تجاه إسرائيل ليست أمرًا نظريًا أو أيديولوجيًا ينبع من أفكار العروبة أو من صورة الخير والشر، بل من حياة وتجارب مستمرة قوامها القصف والقهر والموت".

وكان بيضون قد ذكَرَ: "قد يصحّ القول إنَّ كثيرين من الشيعة في الجنوب تنفَّسوا الصعداء في الأيام الأولى من الاجتياح [الإسرائيلي سنة 1982]. فقد ملَّ الناس الحرب، وملُّوا حكم الميليشيات من فلسطينية ولبنانية، وملّوا الانقسامات داخل البلد. وقد خُدِع الناس لمدة من الزمن بتصريحات الإسرائيليين عن حلٍّ لبنانيٍّ مرتقبٍ (...) وكان هناك أيضًا شعور متناقض بأنّ الاحتلال الإسرائيلي قد ينهي القصف الإسرائيلي: أي إنّ إسرائيل قد تريح اللبنانيين من إسرائيل".

لكنَّه يشير لاحقًا إلى أنَّه "لا بدَّ من القول أيضًا إنَّ الشيعة [في ذاك الجزء من لبنان الجنوبي]، برغم كل خيبتهم وغيظهم من الفلسطينيين، هم أوَّل من يدرك السبب الأصلي لمحنة هؤلاء. فقد لازموا القضية الفلسطينية ملازمة وثيقة منذ بروزها، ولا يمكن لهم أن ينسوا ما شاهدوه".

كانت هذه الوضعية المضطربة بصورةٍ متصاعدةٍ منذ الستينيات في تلك المنطقة، وكذلك موقعها الطرفي في لبنان، تثير شيئًا من القلق على صعيد الانتماء على ما أظنّ. وربما هذا ما جعل أحمد بيضون في كتابه المرجعي "الصراع على تاريخ لبنان" والصادر في الثمانينيات، يكتب في الإهداء: "إلى بنت جبيل، بلدَتي، التي ما زالت تسأل بقلق، منذ ثلاثة أجيالٍ، في أي بلاد تراها تكون".

لا أعرف إنْ كان قدَرًا أن تظلَّ تلك الحدود مُتَحرِّكةً، ولكن قبل أن تولد بيننا، فلسطين ونحن، كان هناك شاعر عامي اسمه شناعة الرماحي، على ما يروي منذر محمود جابر، يرتحل ما بين الجهتَين. وبرغم أنّ "أول منقولات الزجل العاملية" يعود إليه، فإنَّ نسبه يترجَّح بالفعل "ما بين عامليٍّ وفلسطيني من الجليل". ويوضح جابر كيف كان الشعر الشعبي العاملي "الأسبق في تحديد هيئة المجتمع العاملي المستجدة (...) وعلاقاته الجديدة مع الجوار، والتي صارت تتحدَّد عبر الخصومة والتحالف، والجاه والخضوع والانتصار والهزيمة، والخيل والسيف والترس".

وأنا في الواقع، عند التلَّة حيث أقف قبالة صوُر، غيرُ بعيدٍ من المكان حيث يرقد آخر شعراء العامية الجنوبيين، أبو علي زين شعيب. موقفي غير مستقرٍّ تجاه الزَّجل عامةً، إذ قد تسقط معانيه فجأةً، سواء لأسبابٍ ذات علاقة بالعمق، أو حتى لانزلاق الصور الشعرية في أحيانٍ كثيرةٍ. لكنْ لشعيب موَّال "شحَّاد"، من أجمل ما أدَّى. تذكَّرته حين أسكرَني المؤرِّخ منذر محمود جابر بجملةٍ من عيون القول: "التاريخ في عين الشيعي ذكريات وعِبَر، ذكريات آلامه وعِبَر أئمَّته".

ضحكتُ في ذاك الفجر، وأكملتُ كما لو في ردِّيةٍ زجليةٍ: "والجِفِنْ أكحَلْ والدَّمع غالي". ترِد هذه الجملة في موَّال ثانٍ لشعيب هو "يا بدَر" العائد إلى السبعينيات ربما. يدعو زجَّالنا البدرَ إلى أن يتوقَّف عن التنقّل جيئةً وذهابًا أمامه، ويشكو: "مبارح لمَّا كنت مِتلَك ابن عشرين/ عَ الدَّرب كِنت بخانق خيالي/ وكانِتْ حياتي عَجقِة حْساسين/ ولولا شْرِبت الكاس يِحلالي". قصيدة غزَلية، إنَّما بإلقاءٍ وجوٍّ ولهجةٍ ومخارج حروف جنوبية لدى أبو علي، تأخذني ومعها موَّال "شحَّاد" حتمًا، لأسكن، أنا الجنوبي الشيعي، في جملةِ منذر محمود جابر، وأضحك من قلبي.