يوم عشوائي من حرب لبنان الأهلية

ما يرد أدناه هو ثرثرة صحافية سريعة عن حال لبنان في يومٍ واحدٍ، واستنادًا إلى عدد صحيفة لها توجّه وتحالفات واضحة. لكنّه يقول الكثير عن جانب من النقاش الذي ما زال ممتدًا إلى اليوم.

اخترتُ يومًا عشوائيًا من الحرب الأهلية، ورحتُ أقلِّب العدد الذي صدر خلاله عن صحيفة "السفير". يتألف هذا العدد من 12 صفحة، وكان يباع بمئة قرشٍ.

*    *    *    * 

في الصورة التي تتصدّر الصفحة الأولى للعدد رقم 2657، والصادر في صبيحة يوم الإثنين 21/09/1981، رأيتُ "مكانَ وضعِ العبوة وقد تحطَّمت مقاعد الروّاد". فما تنقله المانشيت هي وقائع انفجار استهدف "سينما سلوى في محلّة الحِرج" في بيروت، وأدى إلى مقتل أربعة أشخاص بينهم طفل في الثانية عشرة من العمر، وإصابة 23 آخرين. وهو الانفجار الرابع في غضون ثلاثة أيام، ضمن سلسلةٍ تبنّت غالبيتها لاحقًا مجموعة تديرها الاستخبارات الإسرائيلية تُدعى "جبهة تحرير لبنان من الغرباء".

وقد استهدفت التفجيرات في البداية مدينة صيدا، ثم شِكّا، فحي السلّم، وأخيرًا "سينما سلوى". وهي سلسلة غير مسبوقة، وستمتد حتى منتصف تشرين الأول/أكتوبر، وتحصد أكثر من خمسمئة قتيل. وقد طالت جميعها مقرّات عسكرية ومدنيين في نطاق ما وصفه عدد صحيفة "السفير" بـ "مناطق تواجد الحركة الوطنية، والمقاومة الفلسطينية، وقوات الردع العربية". وهذه الأطراف الثلاثة تكاد تختصر لائحة أبرز القوى الموجودة في الشطر الغربي لبيروت حيث تقع السينما.

يرأس وليد جنبلاط المجلس السياسي المركزي لـ"الحركة الوطنية"، فيما يرأس ياسر عرفات اللجنة التنفيذية لـ"منظمة التحرير". أما قوات الردع التي نشأت بقرار من الجامعة العربية سنة 1976 بهدف وقف الاقتتال في لبنان، فتهمين سوريا عليها.

وقد شهدت سنة 1981 معركة قاسية دامت نحو ثلاثة شهور بين الجيش السوري و"القوات اللبنانية" بقيادة بشير الجميّل. كما أنّها السنة نفسها التي اشتدّت خلالها المواجهة بين سوريا وبين إسرائيل في لبنان، خصوصًا بعد نشر الأولى صواريخ أرض ـــ جو سوفياتية في سهل البقاع. وقد دار ذلك في وقتٍ كان الرئيس حافظ الأسد يُعَدّ أحد أقطاب "جبهة الصمود والتصدّي" التي تأسست برعاية العقيد الليبي معمّر القذافي فور إعراب الرئيس المصري أنور السادات عن نيته توقيع اتفاق السلام.

 Image

عدد "السفير" 21 أيلول/سبتمر 1981

وقد سارع وزير الخارجية الأميركي ألكسندر هيغ، إلى اتهام سوريا، و"منظمة التحرير"، والاتحاد السوفياتي، والجماهيرية الليبية، بالوقوف وراء عمليات التفجير. وقال هيغ في خبر منشور في الصفحة الأولى: "هناك جماعات منشقة عن منظمة التحرير. كما أن هناك جماعات ترعاها ليبيا، وأخرى ترعاها سوريا، وثالثة يرعاها الاتحاد السوفياتي". وتابع: "على العموم فإن الدور الليبي يعتمد على تخريب جميع مشاريع السلام في المنطقة، وهذا ما يجب أن نأخذه بعين الاعتبار". ولفت هيغ إلى أنّ "هناك من ناحية ثانية، عناصر مسيحية تشعر مثلًا بالقلق من هذا الوضع".

وليلًا، بعد تعرّض السينما للتفجير، زار ياسر عرفات وليد جنبلاط في قصر المختارة، وفق خبرٍ نُشِر في الصفحة الأخيرة لعدد "السفير". ووصف عرفات سلسلة التفجيرات بـ "التصعيد الجبان المجنون ضد المدنيين"، ودعا إلى "تدعيم التحالف الثلاثي السوري اللبناني الفلسطيني".

بدوره، قال جنبلاط: "ستبقى المختارة الدار الصغيرة لقضية الفلسطينية ولأبي عمار، إلى أن نحتفل معًا في الدار الكبيرة في فلسطين". وحول التفجيرات من صيدا إلى بيروت، قال جنبلاط: "بعض الجهات المدسوسة تحاول أن تزرع الرعب والحذر بين المواطنين". وتابع: "وإذ يفكر البعض خاصة العدو بأن المناطق الوطنية مستباحة، فإننا نقول بأنّ اليوم الذي ستتخذ فيه إجراءات حاسمة ورادعة لدرء اختراقات العدو قريب وقريب جدًا".

شارون أدار التفجيرات

وكانت "السفير" قد أفادت في تغطيتها أنّ الحركة عادت إلى مدينة صيدا قبل يومٍ من تفجير بيروت، "فيما استمرت مكبّرات الصوت تبث آيات من الذكر الحكيم طوال النهار". واستهلّت الصحيفة تغطيتها الإخبارية للانفجار بالتأسُّف على أنّه "ما كادت صيدا تودع الحداد على ضحاياها، حتى وقعت بيروت الغربية تحت رعب التفجير مجددًا". وأوضحت أنّ الانفجار زرع "موجة من الذعر في أوساط المواطنين، استدعت تحركًا سريعًا من الهيئات الأمنية... وإجراءات سريعة تكفل وضع اليد على خيوط المؤامرة التي تستهدف كل تواجد لبناني أو عربي أو فلسطيني".

ووقع الانفجار في "سينما سلوى" في ختام صيف لاهب عرفته بيروت الغربية، على وقع غارات إسرائيلية لم تنقطع منذ منتصف حزيران/يونيو وراحت تستهدف قواعد ومكاتب لـ"منظمة التحرير" ومدنيين. ففي شهر تموز/يوليو، شنّت المقاتلات الإسرائيلية غارات وحشية على منطقة الفاكهاني بهدف استهداف منظمة التحرير "في الرأس"، وذهب ضحيتها أكثر من ألف مدني بين قتيل وجريح. ونقلت مانشيت "السفير" عن "مصادر قيادية وطنية" أنّ التفجيرات التي تعرّضت لها صيدا، وشِكّا، وحي السلّم، وأخيرًا بيروت، "لا يمكن عزلها عن المخطط الإسرائيلي للتفجير في لبنان".

 حين وقع الانفجار كان الجوّ العام يميل إلى الاعتقاد بقرب قيام إسرائيل باجتياح الجنوب، بل إنّ الأمر غدا، وفق خبرٍ في العدد، "مسألة وقت"

وفي عام 2018، سيؤكد الصحافي الاستقصائي الإسرائيلي رونين بيرغمان في كتابه "انهض واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية" أنّ وزير الدفاع الجديد وقتها ارييل شارون هو من قاد سلسلة التفجيرات. ويوضح بيرغمان: "كان شارون يأمل أن تدفع هذه العمليات عرفات إلى مهاجمة إسرائيل، لتقوم حينها بالرد من خلال غزو لبنان، أو على الأقل لدفع منظمة التحرير إلى الانتقام من الكتائب، ما يتيح لها أن تتدخل بقوة تحت ذريعة الدفاع عن المسيحيين". ويتابع أنّ "الهدف كان إثارة الفوضى بين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، من دون أن تترك العملية أي بصمة إسرائيلية، وذلك كي يشعروا بأنهم دائمًا تحت الهجوم، ولغرس شعور دائم بانعدام الأمان في نفوسهم".

ولم يكن شارون ورئيس الحكومة مناحيم بيغن يحظيان بموافقة أميركية على خططهما. إذ ينقل خبر، في الصفحة الأولى، عن الإذاعة الإسرائيلية أن بيغن "والرئيس الأميركي رونالد ريغان اختلفا خلال لقائهما مؤخرًا حول تدخل إسرائيل في لبنان"، لأنّ الخطة الأميركية "تدعو إلى تقليص المساعدات الإسرائيلية للجماعات المسيحية". وأضاف الخبر أنّ إسرائيل ستقدِّم "خطة بديلة للخطة الأميركية أثناء اجتماع وزيري دفاع البلدين"، وهي في الواقع خطة شارون لاجتياح لبنان وبلوغ بيروت.

ومع وقوع انفجار "سينما سلوى"، كان الجوّ العام يميل إلى الاعتقاد بقرب قيام إسرائيل باجتياح الجنوب. بل إنّ الأمر غدا، وفق خبرٍ في العدد، "مسألة وقت". وإزاء ذلك، يبرز في الصفحة الرابعة إعلانُ ياسر عرفات في اليوم السابق: "نقول أهلًا وسهلًا ويا جبل ما يهزّك ريح.. وإذا كان التحالف الاستراتيجي سيجلِب قوات أميركية، فنحن مشتاقون لنقاتل المارينز. وأقول هذا الكلام لكي يسمعني بيغن وريغان والعميل السادات وليعلموا أنه مش كل طير بيتاكل لحمه". وتابع عرفات: "يجب أن يفهموا أننا الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط". كما أبدى "استعداد الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية للمعركة".

وليس خافيًا أنّ أكثر ما أفاد إسرائيل وأراح حركتها في لبنان هو خروج مصر من الصراع بعد اتفاق السلام. كما أنّ القاهرة في عهد سلفه حسني مبارك متّهمة بأنّها لم تضغط لا من أجل وقف الأعمال العدوانية الإسرائيلية، ولا حتى لاحقاً مع بدء الاجتياح في حزيران 1982 تزامنًا مع الذكرى الـ 15 للنكسة. فقد فضّل مبارك الحفاظ على مصالح دولته "الواقعية"، وعلى تحقيق انسحاب إسرائيل من سيناء.

وللمصادفة، يذكر خبر، في الصفحة الأخيرة لعدد "السفير"، أنّ "وفدًا تجاريًا إسرائيليًا (توجّه) إلى مصر لإجراء مباحثات تهدف إلى تحسين العلاقات التجارية بين الطرفين". وصرّح المدير العام لوزارة التجارة يورام ريف بأنّ الوفد "سيقدّم أفكارًا للمساعدة في مكافحة مقاطعة اقتصادية عربية ممكنة للشركات المصرية التي تتعامل مع إسرائيل".

المرثاة 

في الواقع، كلّ ما ورد هو ثرثرة صحافية سريعة عن حال لبنان في يومٍ واحدٍ، واستنادًا إلى عدد صحيفة لها توجّه وتحالفات واضحة. لا أعرف ما ستثيره هذه الاستعادة للوقائع والتغطيات في كلّ منّا، وبوجهٍ خاصٍّ من عايشوا الأحداث.

لكن، ربما قادني إلى عبرة ما خبرٌ صغيرٌ قرأته في صفحة "عربيات ودوليات"، ويفيد بأنّ المؤلف الموسيقي اليوناني ميكيس ثيودوراكيس، والشاعر يانيس ريتسوس، هما المرشحان الرئيسيان من بين 365 مرشحًا عن الحزب الشيوعي اليوناني في الانتخابات العامة التي ستجري في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر المقبل". فالأول يعدّ من بين أبرز الموسيقيين اليونانيين المعاصرين، فيما الثاني من بين أبرز الشعراء اليونانيين المعاصرين.

وفي الستينيات أدى ثيودوراكيس أجزاء من قصيدة "المرثاة" التي كتبها ريتسوس عام 1936 تحت وطأة إضرابات عمّالية واسعة واحتجاجات شعبية. وهي تدور حول امرأة رآها في صورة صحيفة فيما هي تنوح قرب جثمان ولدها الذي قضى بالرصاص. تقول المرأة لابنها مودّعةً، كما لو في قصص حرب لبنان الأهلية، أو أي حرب أخرى:

"يا بني، قلتَ لي إنّ هذا الجمال كلّه سيكون لنا،
وها هو نورك يخبو، وأنوارُنا تلاشت ولهيبُ قلوبنا"

فبصورةٍ كهذه انتهى يوم الإثنين 21/09/1981، بعد انفجار ذهب بضحايا كثر، وحطّم مقاعد الروّاد في "سينما سلوى" قرب منطقة البربير.

صوْر بمنظار عجائبي: لأن المستقبل قد لا يدوم طويلًا

لا أسعى في هذه المقالة إلى رميِ "حزب الله" والمقاومة، والتشجيع على الذهاب بعيدًا في جلد الذات، إنَّما إلى...

محمود مروّة

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة