
قبل ثلاثة أشهر، أجرى الإعلامي الأميركي تاكر كارلسون مقابلة مع رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. سأله عما سيحصل إن فُجّر مفاعل "بوشهر" النووي الإيراني على الضفة المقابلة لقطر من الخليج، ووقع تسرّب إشعاعي.
أجابه بن عبد الرحمن أن بلاده أجرت تمرينًا للمخاطر قبل سنوات، وكانت خلاصاته قاطعة: ستنفذ المياه من البلاد في غضون ثلاثة أيام بسبب التلوّث الإشعاعي. وهذا السيناريو لا ينطبق على قطر فحسب، بل على الكويت والإمارات أيضًا.
شرح بن عبد الرحمن، في مقطع آخر من المقابلة، كيف أنه خلال زيارة سابقة إلى الكونغرس ولقائه بأحد أعضاء مجلس الشيوخ، طمأنه الأخير بالقول "لن يتوجّب عليكم أنتم التعامل مع إيران". فما كان من الضيف القطري إلا أن رسم خريطة تُظهر له ضيق الفاصل الجغرافي بين قطر (ومعها الإمارات) والمنشأة النووية، ليُبرز التشابك بين المصيرين. أما المفاجأة فكانت أن عضو مجلس الشيوخ... "فوجئ" بالخريطة.
لم يتعرّض مفاعل "بوشهر" إلى قصف إسرائيلي حتى الآن ولا حصل تسرّب إشعاعي منه. غير أن أخذ المثال المذكور كمعيار للقياس يبقى مفيدًا. ثمّة ضيق أفق وضعف إدراك لمدى تشابك المصالح بين إيران والدول العربية، سواء تلك المحيطة بإيران أو تلك المحيطة بإسرائيل. ولا ينطبق التشابك على سيناريو التسرّب الإشعاعي فحسب، بل على سيناريو "القضاء على إيران"، بشكلها الحالي، وعلى تبعات ذلك على المنطقة وفي قلبها إسرائيل.
ويبدو ضعف الإدراك هذا مذهلًا إذا ما قورن بديناميات التعامل مع الحرب داخل إيران نفسها. ففي إيران، حتى اللحظة (وهذا قد يتغيّر ربطًا بمسارات الحرب وصعوبة الظروف)، طيف واسع من المعارضة الإيرانية المتمسّك بحقوق دولته، بل بوجودها نفسه، لإدراكه أن الحرب هي على إيران الكيان ومصالح الشعب العليا (لا يخلو الأمر طبعًا من كتل معارضة ترى في الحرب على البلد فرصة ينبغي اقتناصها).
"العروبة" إما أن تُقارب القضية الفلسطينية بوصفها مركزية ومصيرية، والعلاقة مع إيران وتركيا بوصفها تكاملية وندّية، أو تكون مجرد أداة خطابية لحرف الأنظار
في المقابل، هناك عرب يرغبون بـ"تحرير" إيران أكثر من هذا الطيف الواسع من الإيرانيين المعارضين أنفسهم. وعلى يد من؟ على يد ممارس أكثر الإبادات توثيقًا في التاريخ، بحق واحد من الشعوب العربية، ومحتلٍّ لأكثر من بقعة في عالمنا العربي، ومعتدٍ خارجي لا هم له إن اندثرت إيران أصلًا أو لوّثت إشعاعات مفاعلاتها مياه الخليج.
ثمّة تشوّه إدراكي واسع النطاق ينبغي الوقوف عنده، أزعم أنه رافق، بشكل خاص، التحوّلات التي شهدها "الربيع العربي" في مراحله الأولى، خصوصًا لدى القوى والبيئات التي كان همّها الأوحد قلب أنظمة دمويّة من دون رسم خرائط طرق لما بعد هذا السقوط، أو فهم أن قدرتها على رسم هذه الخرائط باتت محدودة.
هذا التشوّه ترافق مع نمو جماعات سياسية وفضاءات معرفية أدّت أدوارًا وظيفية في سياقات إقليمية بالغة التعقيد، حتى أُعيد إنتاج انفصالات ثنائية بين قضايا "قومية" وأخرى "وطنية"، وحقوق فردية وأخرى جماعية. ومع ثنائيات كهذه برزت جماعات سلفية وأخرى حداثية تكاد تستنسخ ثنائيات الأنظمة والمعارضات في التسعينيات، أحيانًا بالمقلوب (كما هو الحال في سوريا، مع فارق أن أقطاب هذه الثنائية، ذوي الصوت العالي، لا يُعيرون اهتمامًا جديًا بالمجريات المصيرية في المحيط السوري).
على الأغلب أن هذا التشوّه الإدراكي يستدعي العودة إلى الأساسيات، بحيث يُعاد تعريف الأشياء، ويُقدّم إطار تفسيري لها متجاوز للثنائيات، ويبني فهمه لهذا الواقع ومآلاته المحتملة لا على تخيّلات أنتجها ضخ إعلامي (وبحثي) مهول، بالغ التحيّز، وسرديات مثقوبة أو أحادية البعد، من قبل أكثر من طرف. بل على الأغلب أنه يستدعي إعادة قراءة للتاريخ القريب الذي بالكاد أُغلقت إحدى مراحله (مع سقوط النظام السوري بعد 14 عامًا من أولى الاحتجاجات ضدّه) لتُفتتح أخرى (مع احتمالات تغيّر خرائط الإقليم).
وبانتظار أن يأخذ نقاش كهذا مداه، وهو بالغ الضرورة، لا بأس من الاشتباك مع أصحاب التشوّه الإدراكي في قلب الحرب، خصوصًا أن بعض من يُحسب على النخب يُظهر حماسة بالغة للقضاء على إيران بمعزل عن النتائج (والنخب في نهاية المطاف، جزئيًا على الأقل، انعكاس للموارد الموظّفة في عمليّة إنتاجها، وبعضها مصطنع بالتالي).
يُفيد على هامش الحرب على إيران، على سبيل المثال، التذكير بأن العدّة المفاهيمية المسطّحة التي يلوكها البعض بحاجة إلى تفكيك. يفيد القول، مثلًا، إن النسويّة إما أن تكون تقاطعية تأخذ في الاعتبار الحالة الاستعمارية كإطار مهيمن (dominant frame)، أو تكون نسوية بيضاء قائمة على المركزية الغربية، بل طبقية أيضًا. والحقوقية الليبرالية إما أن تكون شاملة، تنطوي على نزعة سيادية مجتمعية، أو مجرّد أداة كولونيالية لهندسة المجتمعات ودغدغةً لِحاجات الخلاص الفردي.
يفيد القول أيضًا إن العروبة إما أن تُقارب القضية الفلسطينية بوصفها مسألة مركزية ومصيرية، والعلاقة مع إيران وتركيا بوصفها تكاملية وتشاركية وندّية، أو تكون مجرد أداة خطابية لخطف الانتباه وحرف الأنظار. وكذا الأمر بالنسبة للإسلام والتاريخ الإسلامي المُستعاد في الحاضر، سواء كان شعاره التعبوي بني أمية أو شيعة علي أو خلاف ذلك.
يفيد الاشتباك في هذه الميادين بمعزل عن نتائج الحرب، ومع إدراك الاختلال الهائل في الموازين وصعوبة تطويع إسرائيل. كل هذا حتى لا نُضحي مجرّد أدوات وظيفية تعجز عن فهم واقعها حتى، سواء تجاوزنا الحرب من دون هزيمة، أو وجدنا أنفسنا فوق الركام، أو نتقاتل على جنباته.