صنع الله ابراهيم ونحن في رواياته

حين سألت صنع الله ابراهيم عن شخصية عبد الناصر في روايته الأخيرة "1970"، والتي أسبغ عليها صفات جعلتنا نتعاطف مع شخصية الحاكم الأوحد، أجاب: يصعب استخدام لفظ "ديكتاتور" لدى الحديث عن عبد الناصر.

دُعيت عام 2020 لقراءة الشعر في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولا أُنكر فرحتي بهذه الدعوة: إنها مصر، أم الدنيا التي تشبّعتُ بثقافتها، وسوف أُلقي فيها شعري. وكان قد مضى وقت طويل لم أقرأ فيه شعرًا لجمهور عربي، إذ إن آخر قراءة لي كانت في سوريا عام 2009. كما أن هذه كانت المرة الأولى التي أخرُج فيها من سوريا منذ عام 2011. غير أن هذا كلّه كان في كفّة، وما كنتُ أفكر فيه كان في كفّة أخرى.

سوف ألتقي بصنع الله ابراهيم!

هذا حلم يراودني منذ سنوات المراهقة، حين قرأت روايته "نجمة أغسطس" التي صدرت في العام الذي ولدتُ فيه، 1974، وعدتُ لقراءتها بعد أن غدوتُ في الثلاثين. تلك الرواية التي جعلتني أفهم معنى الوطنية في ظل الاستبداد، واغتراب الفرد عن مجتمعه، وبحثه عن ذاته في ظل رقابة الدولة الأمنية.

وصلتُ إلى القاهرة، وكان في استقبالي موظف من المعرض. ما إن ألقيتُ عليه التحية حتى نطق بالجملة الشهيرة التي تظهر في الإعلانات "نوّرتي مصر"! والحق، سوف أسمع هذه الجملة في كلّ مكان أذهب إليه ما إن أنطق بلهجتي الغريبة.

في اليوم التالي لوصولي، اتصلت بالشاعر عبد المنعم رمضان وأخبرته عن رغبتي بزيارة صنع الله ابراهيم. لم يطل انتظاري حتى ضرب لي موعدًا معه. أخبرني الشاعر عبد المنعم رمضان عن الأسئلة التي سأله إياها صنع الله: من هي هذه الشاعرة؟ من أي منطقة في سوريا؟ ما هو موقفها من النظام السوري؟ وربما كانت الإجابات على هذه الأسئلة هي السبب في موافقة كاتبنا الكبير على لقائي.

ذهبتُ في الموعد المحدد برفقة الروائي المصري وحيد الطويلة والإعلامية منى سلمان. قرعنا الجرس وفتح لنا صنع الله الباب وهو يرتدي روب النوم. روب يبدو عليه القدم. دخلنا الصالة، وتمعّنتُ في أثاثها ستائرها القديمة ومكتبته الضخمة. تبدو الشقة بأثاثها وصنع الله كما لو كانا لوحة من الستينيات. يمكن أن تفهم لغة صنع الله المتقشفة من انسحابها على أسلوب حياته. قلت في داخلي: لم يخيّبني، ثمة اتساق كامل بين مواقفه وأفكاره وحياته الشخصية، وهذا ما زاد من إعجابي به.

جلسنا قرابة الساعتين. يسأل فيهما صنع الله ويصغي باهتمام لأجوبتي. لم يخفِ انحيازه للمقاومة في لبنان وفلسطين. طلبتُ إليه إجراء مقابلة معه لموقع "أوان"، فوافق وكتب لي إيميله على إحدى رواياته ــــ رواياته التي أعدتُ شراء نسخها كي يتسنى لي أن أحظى بتوقيعه عليها.

ثمة سؤال لا يني صنع الله ابراهيم يطرحه في معظم رواياته: أيهما أهمّ، الحريات الفردية أم بناء الدولة الوطنية؟ وهل يبرّر بناء هذه الدولة الاستبداد ومصادرة الحريات؟ يظهر هذا السؤال جليًّا في روايتيّ "نجمة أغسطس" و "برلين 69".

ففي رواية "نجمة أغسطس"، يتساءل بطل الرواية المعارض لنظام عبد الناصر: من أنا لأقف ضد مشروع بناء السد العالي؟ لكنه، في الوقت نفسه، ينتقد السلطة العسكرية وهيمنتها على مفاصل الدولة.

أما في "برلين 69"، فيرى صنع الله أن ألمانيا الشرقية توفّر فرص العمل والمساواة الاجتماعية وتكاد تنعدم البطالة فيها، ولا توجد فيها مشكلات في السكن بالمقارنة مع ألمانيا الغربية، لكنها تفرض قيودًا صارمة على الحريات السياسية. يطرح صنع الله هنا تساؤلات حول الجدوى من الثورة، وحول التناقضات بين الشعارات الثورية والممارسات اليومية للأنظمة الشمولية.

لم يُخفِ صنع الله ابراهيم خيبته من نتائج "الربيع العربي"، إذ قال "إن البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي ارتدت إلى الوراء، فيما نجحت الثورات المضادة، إلى حين"

حين سألته عن شخصية عبد الناصر في روايته الأخيرة "1970"، والتي أسبغ عليها صفات جعلتنا نتعاطف مع شخصية الحاكم الأوحد، مع أنه في مشاهد أخرى من الرواية يسخر من الديكتاتورية، أجاب صنع الله: يصعب استخدام لفظ "ديكتاتور" لدى الحديث عن عبد الناصر. هل يمكن، مثلًا، استخدام الكلمة لوصف كاسترو أو سكارنو أو نيكروما؟ هل يُقارن بستالين أو باتيستا أو هتلر؟ 

قد يكون صعبًا على شخص سجنه عبد الناصر أن يجيب بهذه الموضوعية، ويفرّق بين الديكتاتوريات التي تبني الدولة وتلك التي تحطمها. لقد سُجِن صنع الله ابراهيم أكثر من خمس سنوات ــــ بين 1959 و1964 ــــ في سياق حملة استهدفت شخصيات يسارية في مصر. فصنع الله كان ينتسب إلى "حدتو"، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، وهي منظمة شيوعية مصرية.

يروي صنع الله قصة اعتقاله برفقة شهدي عطية الشافعي، حيث اقتيدا مكبلين في سيارة عسكرية، ولدى وصولهما إلى سجن أبو زعبل، انهال عليهما رجال المخابرات بالضرب المبرح. استشهد رفيقه شهدي جراء هذا الضرب، وطلب الضباط من صنع الله "الاعتراف" بأن شهدي توفي في الطريق، وهددوه بالتعذيب إن لم يفعل. لكن صنع الله رفض برغم علمه بأنه قد يلقى مصير رفيقه.

لم يتوقف نضال صنع الله بعد رحيل عبد الناصر ومجيء السادات، فأصدر رواية "اللجنة" التي ركز فيها على تغوّل الدولة وسلطتها الأمنية في حياة الأفراد، وانتقد البيروقراطية والفساد، لا سيما بعد الانفتاح الاقتصادي الذي شهده عهد السادات وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد.

كما أصدر رواية "ذات" التي يجمع فيها بين الحياة الشخصية لبطلة الرواية والأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية التي تمر مصر فيها، ويناقش التغيرات التي تطرأ على "ذات" المرأة البسيطة المستكينة التي تغدو شخصية أكثر وعيًا، قادرة على الرفض والاحتجاج في ظل زيادة الضغوط الاجتماعية والسياسية، ويسلط الضوء على الفساد السياسي والإداري المستشري في أجهزة الدولة والرقابة الصارمة على الفكر وقمع الحريات.

يعتمد صنع الله أسلوب التوثيق في رواياته، بحيث يخدم هذا التوثيق نقده السياسي والاجتماعي. إذ قد يحيل إلى إعلانات، وتقارير حكومية، وإحصائيات، ومقتطفات من الصحف، وبيانات سياسية. وقد يستخدم في نسيج الرواية وثائق رسمية تناقض الواقع الاجتماعي كي يفضح السلطة وآليات عملها.

وبرغم انشغال صنع الله بقضايا مصر، إلا أن الهمّ القومي كان حاضرًا في أعماله الروائية. فقد كتب رواية "وردة" التي تستعرض تطوّر الحركة الثورية في ظُفار/ عُمان ضد النظام الإقطاعي وعملية قمع هذه الثورة. وتظهر في الرواية بطلتها، وردة، حائرة بين إيمانها بالقضية وفقدان الأمل.

كما كتب صنع الله عن الحرب الأهلية اللبنانية رواية "بيروت... بيروت"، والتي تُظهر تحوّل العاصمة اللبنانية، المدينة الحديثة، إلى ساحة للصراع الدامي بين قوى عربية وعالمية، وتُصوّر انهيارها كانعكاس للانهيار العربي في السياسة والاجتماع والثقافة.

تبدو المرأة في روايتي "ذات" و"وردة" مناضلة تكسر القيود وتنخرط في العمل السياسي، وتتعامل مع خيبات الواقع ومع التناقض بين الشعارات الثورية وممارستها على الأرض. في المقابل، يظهر الرجال في معظم روايات صنع الله مأزومين جنسيًا، يعكسون القمع والكبت السياسي. 

عندما سعت "جائزة الملتقى" إليه عام 2003، رفضها وقال في كلمته خلال الجلسة الختامية للملتقى "أعلن اعتذاري عن قبول الجائزة لأنها صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد وتسمح للسفير الإسرائيلي بالبقاء في مصر، في حين أن إسرائيل تقتل وتغتصب".

لم يُخفِ صنع الله ابراهيم خيبته من نتائج "الربيع العربي" في المقابلة التي أجريتها معه، إذ قال "إن البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي ارتدت إلى الوراء، فيما نجحت الثورات المضادة، إلى حين".

ظلّ صنع الله ابراهيم يكتب في عزلته ويعتاش من الكتابة. وها قد تجاوز الثمانين وبقي أمينًا لها وللحرية والعدل. 

يرقد صنع الله اليوم في المشفى بعد أن خضع لعملية تغيير مفصل في ساقه، وكل ما أتمناه أن يتماثل للشفاء ويعود ليكتب لنا.

حوار مع سنان أنطون: ليس الأمل نقيض الذاكرة

بعد روايات "إعجام"، و"وحدها شجرة الرمان"، و"يا مريم"، و"فهرس"، صدرت للكاتب العراقي سنان أنطون رواية "خُزا...

هنادي زرقة
كيف تسلّل العنف إلى الأغنية السوريّة

لم تقتصر الحرب السوريّة على وضع المنظومة كلها تحت طائلة السؤال، بل قدمت ما يشبه منظومة بديلة، ومارست في ف...

هنادي زرقة
الياس خوري: صوت الضحية

يعود الياس خوري في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية ب...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة