
يقول يوسف كمال: "قرّرت أرفض السجن والحدود اللي حبست نفسي فيهم 20 سنة.. حسيت بقوة غريبة.. ورغبة في التحرر".
يعيش يوسف معزولًا ووحيدًا في قاهرة مطلع التسعينيات، في أحد بيوت الطبقة الوسطى المصرية. عُزلته إرادية، نابعة من الخوف. فقبل عشرين عامًا، تقاطع يوسف مع مظاهرة للطلاب، وقرر السير معهم. أطلقت الشرطة الرصاص، ركض الجميع، وهو من بينهم. بعد أن ركض كثيرًا، توقّف للحظة ليستردّ أنفاسه، فوجد صوتًا يأتيه من الخلف: "يا يوسف ارجع بيتك". التفت يوسف للخلف، ليجد رجلًا طويلًا يضع يديه في جيب معطفه الطويل، ويكرّر أمره: "يا يوسف ارجع بيتك، أحسن لك".
ارتعب يوسف، كيف عرف الرجل اسمه؟! ركض من جديد، عاد إلى بيته، إلى شرنقته، أغلق بابه، وسجن نفسه لمدة عشرين عامًا، ليخرج من هذه الشرنقة صدفةً في نهار يوم العطلة. ثم قرّر ألا يعود إلى البيت، وأن يعيش مغامرة تستغرق أربعًا وعشرين ساعة، تُغيّر حياته بالكامل.
أشعر بالرغبة من حين لآخر في العودة لمشاهدة يوسف وتأمله. إنه بطل فيلم داود عبد السيد "البحث عن سيد مرزوق" (1991). عودتي لهذا الفيلم ليست فقط لأنه من أكثر أفلام المخرج والمؤلف قربًا لوجداني، بل لأنّي عبر تأمّل يوسف وزمنِ مطلع التسعينيات القاهري، أنتبه كيف تغيّر عالمنا خلال العقود الثلاثة الماضية، وكأنّي أكتشف هذا التغير مع كل مشاهدة جديدة.
الخوف
في منتصف التسعينيات، وتحديدًا في يوم 18 أبريل من عام 1996، قتلت إسرائيل 106 مدنيًا لجأوا إلى مقر قوات "اليونفيل" في بلدة قانا بجنوب لبنان. كانت غالبيتهم من النساء والأطفال الذين لجأوا إلى مقر يرفع علمًا أمميًا لحمايتهم من عملية "عناقيد الغضب" الإسرائيلية.
يتذكر جيلي جيدًا هذا التاريخ، والأيام التي تلته. فقد شكلت المجزرة علامة غضب في مسارنا، نحن الشباب المشتبكين مع السياسة أو الثقافة أو الفن. تبعتها مظاهرات، واحتجاجات متنوعة، ومؤتمرات حاشدة في مقرات بعض أحزاب المعارضة المصرية، لدرجة أن الإعلام المباركي اضطر وقتها لتقديم تغطية صحفية مقبولة للمجزرة.
لم يبحث أحد أيامها عمّا يبررها، ولم يجرؤ أحد على انتقاد عمليات المقاومة في جنوب لبنان المحتل، بحجة أنها تمنح إسرائيل المبرر لارتكاب المجازر، بمن فيهم صحفيو مبارك ذوو الهوى الإسرائيلي.
انتشرت في مصر بعد ثورة يناير 2011 عبارة تبرّر الاعتداء على بعض الضحايا، وتحوّلت مع الوقت إلى عبارة تُستخدم بطريقتين نقيضتين، بالغة الجدية، وساخرة. وهي عبارة "إيه اللي وداها هناك؟!".
إن لم تخُنّي الذاكرة، ارتبطت بحالات اعتداء جنسي جماعي على مشاركات في فاعليات الثورة، وبتجريمهن على اعتبار أنهن رمين أنفسهن في التهلكة بذهابهن للمشاركة في الاحتجاجات، غير المناسبة لـ"بنات الناس". وعُمّمت بعدها لتُستخدم في تشويه كل من يغامر في مواجهة السلطة.
المنطق نفسه قديم. لكنّ استخدامه بتبجّح، على اختلاف درجات التبجّح، يبدو أنه من سمات زمننا الحالي، سواء في السياسة، أو قضايا الاعتداء الجنسي، أو في أن يخرج المواطن من شرنقة خوفه ليتحدث، فيتهوّر بأن يقول رأيًا، وتصيبه اللعنة. ينطبق هذا على "حماس"، وعلى "حزب الله"، وعلى "الحوثيين"، وعلى طالب الجامعة الذي خرج إلى الشارع بلافتة ترفض الإبادة في غزة.
ارتكبت إسرائيل خلال عام ونصف ما يتجاوز 490 مجزرة قانا
لكن، بينما نشاهد رحلة يوسف كمال، لا يسأله أحد "إيه اللي وداك هناك؟!". ما الذي جعلك تقرّر أن تقضي يوم العطلة خارج بيتك؟! لماذا لم تتهرب من دعوة المليونير سيد مرزوق بأن تقضيا بعض الوقت سويًا؟! لماذا حطّمت بعض جدران خوفك؟! نكتفي بتأمل يوسف الفرد، وبالتعاطف والتماهي معه، كواحد ضمن الملايين. نتأثر بحاله، وبكيف "يتهالك" خلال الرحلة/المغامرة التي دخلها دون أن يتخذ قرارًا واعيًا بدخولها.
البطء
لماذا تذكرت قانا ومجزرتها؟ لا أعلم، كيوسف الذي دخل المغامرة دون أن يعلم، وترك نفسه للعبة التداعي الخطرة. كان الإحصاء الذي قرأته قبل أن أتذكر قانا مباشرة، وبينما أفكر في رحلة يوسف، متمثلًا في خبر صغير، أن إسرائيل تقتل طفلًا في غزة كل أربعين دقيقة منذ يوم السابع من أكتوبر 2023، وأن عدد الشهداء الموثقين تجاوز الـ 52 ألفًا. أي أنها ارتكبت خلال عام ونصف ما يتجاوز 490 مجزرة قانا.
لست من هواة مقارنات الأرقام. فالمآسي والكوارث لا تقاس بالأرقام. لكن كثافة الدم صعب استيعابها. واعتيادنا عليها، وعلى تسارع الأحداث وتعاقبها، وعدم التوقف أمام كل منها، حقيقةً، مدهش. وهو نفسه ما يعيدني ذهنيًا إلى فيلم داود عبد السيد، الهادئ والبطيء، في زمننا الحالي، حيث يسود نوع من السينما يتسم بالسرعة، بتتابع اللقطات التي لا تُحصى، وبالبهلوانية الإخراجية، من دون أن يتوقف كثير من المخرجين أمام سؤال ما يريدون حقيقةً أن نراه ونتأمله.
في بداية الربع الأخير من "البحث عن سيد مرزوق"، في زمن بداية التسعينيات، حيث الأخبار التي نتلقاها عن عالمنا قليلة، ويسمح إيقاع تواردها بأن تشغلنا مجزرة قانا لأيام طويلة، يجد يوسف نفسه في صفيحة القمامة.
يقفز يوسف من شرفة بتأثير رُعبِه من الشرطة وكلابها الذين يطاردونه. يسقط في حاوية واسعة للقمامة، من تلك التي نجدها عند نواصي الحارات والشوارع. يتحوّل إلى مجرد عنصر ضمن المُخلّفات. تحضر الحافلة الضخمة التي تُفرغ القمامة بداخلها عبر مقابض أوتوماتيكية. تحتوي يوسف، وتُلقيه بين أكوام القمامة في هذا المكان الواسع والقذر المخصص لتجميع مُخلّفات المدينة. وفي لقطة تالية ضبابية وبإضاءة ضعيفة، يظهر رجل يمارس مهنته، يُشعل النار في أكوام المُخلّفات، ومن بينها يوسف.
نفّذ داود عبد السيد هذه المشهد بلقطات قليلة ومتقشفة، وكاميرا ثابتة، من دون أي حركة، ومن دون أي إبهار أو استعراضية، وباحترام لزمن الفعل الحقيقي، متحررًا من إغواء اختصاره أو تقطيعه ليكون إيقاعه أسرع. فجعلنا ننتبه، في حضرة الصمت، إلى مشهد مهيب للإنسان الذي تمرّد وغامر وانتهى بين أكوام المُخلّفات، مهترئًا مثلها، لندرك دلالاته ومعانيه.
أصبح مواطن التسعينيات أسيرًا لتدافع الأحداث الكثيرة والمكثفة، والمجازر التي لا تنتهي، والأرقام المتتابعة، واللقطات السريعة
المطلوب هنا أن نرى جيدًا القمامة، وأن نرى جسد الإنسان وجروحه من بينها. أن نلاحظ حجمه الصغير مقارنة بحاوية القمامة، والحافلة الضخمة، والشوارع الخالية. المطلوب أن تنفتح عيوننا على اتساعها كي نرى يوسف، المعادل الدرامي لكل فرد منا، وكيف ينتهي بين أكوام القمامة لمجرد أنّه غامر. وليست صدفة أن يقول يوسف قبل هذا المشهد مباشرة، مفتتحًا الجزء الأخير من الفيلم، هذه العبارة: "قرّرت أرفض السجن والحدود اللي حبست نفسي فيهم 20 سنة.. حسيت بقوة غريبة.. ورغبة في التحرر".
السرعة
يفيق يوسف من غيبوبته بين أكوام القمامة بتأثير النار المشتعلة حوله. يحيا من جديد، يهرب، لكنه لا يستطيع الاستمرار في السير أو الركض. يسقط مغشيًا عليه فوق جسر من جسور نيل القاهرة العظيم. يجد اثنان من مخبري الشرطة جسد يوسف، يظنانه ميتًا، فيقرران إلقاءه في النهر بدلًا من إبلاغ رؤسائهما وقضاء الليلة في تحقيقات وإجراءات.
في كل مرة يسقط فيها يوسف في مأزق جديد، أو في عثرة جديدة، أو يصل إلى لحظة تحوّل، تحضر إحدى سلطتي العالم الذي دخله صدفة، لتزيد الموقف مأساوية أو تعقيدًا، ولتخرب حياة يوسف وآخرين أكثر فأكثر. الأولى هي سلطة جهاز الشرطة، جهاز القمع، التي يرتعب منها يوسف، والتي تحوّله إلى مطارد من دون أن يرتكب أي جريمة.
أما هوية السلطة الأخرى في "البحث عن سيد مرزوق"، مطلع عقد التسعينيات ذاك، بداية زمن التحولات الكبرى، فهي ما أكسبت الفيلم سمعته بأنه فيلم غامض، غير مفهوم. فمن هو هذا المليونير سيد مرزوق، صاحب السلطة القاهرة، الذي يعرفُ كل شيء ويقدر على كل شيء؟! إلامَ يرمز؟ هل هو الإله الذي أخرج آدم من جنته/شرنقته، ودعا يوسف للحياة والاكتشاف والمتعة، ليتخلى عنه ويتركه وحيدًا يصارع مصيره وواقعه؟! أم أنه سلطة المجهول؛ كل ما لا نعرفه ويتلاعب بنا، ويحمل "قدرات غير عادية"، ستتحول لاسم فيلم داود عبد السيد الأخير؟
المجهول، المتحكم في مصائر الأفراد، يدعوهم للخروج من الشرنقة حين يرغب. يلعب بمصائرهم ليلقيهم بين ركام المُخلّفات. لا يهمّ التفسير. فغموض الفيلم قليلًا، المناسب لغموض واقع التسعينيات النسبي، لا يقارن بكل هذا الغموض الكثيف المحيط بنا الآن. غموض يصل أحيانًا إلى صعوبة، وأحيانًا استحالةِ، فهمِ أحداثٍ سياسيةٍ متلاحقة تبدو بسيطة، كان باستطاعتنا فهمها وإدراكها في زمن أول التسعينيات، زمن السينما الغامضة بعض الشيء.
لا أعرف من هم أول الذين ألحقوا السمعة السيئة بالنوستالجيا. ربما يكونون مدربي ومدربات التنمية البشرية، السعداء، قبل أن تتحوّل إلى مهنة. لكن النوستالجيا مبررة، وإنكارها مناف للحقيقة وللمنطق. فيوسف نفسه يقول لسيد مرزوق: "ليه عايشين في زمن عارفين فيه أن إمبارح أحسن من النهاردة.. وأن النهاردة أحسن من بكرة؟!".
انتهى مواطن التسعينيات، وإن لم يمُت نموذج يوسف الراغب في الخروج من الشرنقة من أجل الحياة والمعرفة. لكنه أصبح أسيرًا لتدافع الأحداث الكثيرة والمكثفة، والمجازر التي لا تنتهي، والأرقام المتتابعة، واللقطات السريعة. يوسف العصري محاصر بالضوضاء، من دون قدرة على تأمل الفوارق بين ذاته الملقاة بين القمامة، وتلك الأشلاء التي تتطاير في سماء غزة بفعل القنابل الحداثية، وهؤلاء الأطفال الذين تحولوا إلى هياكل عظمية ويتصارعون للحصول على قطعة خبز.
وفيما كانت أجهزة الشرطة والجيش في بلداننا تقول ليوسف القديم "ابق في شرنقتك كي تحيا"، أصبحت تقول ليوسف العصري، ولكل منّا في كل دقيقة، جملتها الخالدة المرعبة: "لا تنظر إلى ما يحيطك. احتم بشرنقتك حتى وإن متت بداخلها"، مضيفة نبرة التهديد: "أحسن لك".