
"يجب أن لا نستحوذ على خيال شعبنا فحسب،
بل ينبغي أن نستحوذ على خيال مضطهِدينا أيضًا".
إدوارد سعيد
بماذا يشعر المواطنون الإسرائيليون الجالسون أمام الشاشات، ليُشاهدوا ما تبثه قناة "الجزيرة"، الممنوعة عندهم، والتي أغلقت دولتهم مكاتبها في الضفة الغربية وقتلت مراسليها في غزة، حين يرَون أسراهم يلوّحون للجموع المحتشدة، ويصافحون مقاتلي "حماس"، بل يمنح أحدهم قبلتين لرأسَي مقاتلين، من على منصات نُصبت بين الخراب؟
أن يبدأ نصّ بسؤال عن مشاعر مواطني دولة العدو، بعد شهور طويلة من الإبادة، هو أمر مربك. لكنّ المشاعر تؤدي هنا دورًا مهمًا. المشهد الآخر الذي يستوقفنا لنتساءل عن مشاعر الإسرائيليين حياله، هو ذاك الخاص بـ 20 شباط/فبراير؛ مشهد تسليم جثامين أربعة إسرائيليين قُتلوا خلال قصف جيشهم، بينهم طفلان.
في الحالتين، يراقب الإسرائيليون مشهدين أُنتجا في مكان قريب، كان يُفترض أنه دُمر بالكامل، ودُمرت معه مقوّمات المقاومة كلّها، سواء المسلحة أو تلك التي يجسّدها إصرار الشعب الفلسطيني على الصمود منذ أكثر من سبعة وخمسين عامًا.
المشاعر كمصنع للأفعال
لا يمكن إغفال سؤال المشاعر حين نتناول ما يلي لحظة بدأ سريان الهدنة وعمليات تبادل الأسرى. فالحرب انتقلت فعليًا إلى ساحة جديدة. إن غامرنا بتخيّل مشاعر مواطني دولة إسرائيل في الحالة الأولى، يمكن القول إنها ستنطوي على إحساس بالحسرة والخيبة. فدولتهم، برغم الخسائر البشرية وتلك التي طالت سمعتها الدولية أو مواردها المالية المهدورة خلال العدوان، لم تحقق الأهداف التي وعد بها نتنياهو وقادته العسكريون.
لم تستعد إسرائيل أسراها عبر الحرب، ولا المقاومة استسلمت. بل اضطرت إلى التفاوض. لم تقضِ على "حماس"، ولا تمكّنت من احتلال القطاع بعد تفريغه. بل إنّ ما يراه مواطنوها على الشاشات يحمل معان عكسيّة لهذه الأوهام؛ فلسطينيون ما زالوا يتحدّونهم، يحيطون بالرجال المسلحين، هاتفين لهم. ولنا أن نتخيّل تضخّم مشاعر الخيبة والعجز إن أضفنا إلى مشاهد تبادل الأسرى مشاهد الجموع العائدة إلى شمال القطاع، سيرًا على الأقدام، رافضين التهجير، ومجبرين جيش الاحتلال على الانسحاب من محور نتساريم.
سيتضاعف الإحساس بالعجز والضعف، بل قلة الحيلة، أمام فرض "حماس" بالتفاوض واقعًا مفاده أنها ما زالت المتحكم الفعلي في مجريات الأمور في غزة، وأنها الطرف المحاور للمصريين والقطريين بشأن مستقبل القطاع، وأن تهديدات ترمب بفتح باب الجحيم على أهله إن لم تُفرج الحركة عن جميع الأسرى دفعة واحدة، لا تعنيها، بل إنّ "حماس" تتعامل معها باعتبارها تهديدات فارغة يتم التراجع عنها كما لو أنها لم تكن.
غير أن المشاعر ستختلف أمام المشهد الثاني؛ مشهد تسليم الجثامين الأربعة. فحياله، وحيال أسلوب إخراجه، المتماثل مع الصيغة الإخراجية لعمليات التسليم السابقة للأسرى الأحياء، مع فارق أن توابيت وُضعت فوق المنصة، لن تسود مشاعر الخيبة والعجز واليأس. بل رغبة إضافية بالانتقام، وإصرار على القتل.
لا تشغلني حقيقة مشاعر الإسرائيليين سوى على مستوى وحيد؛ كيف يتم استغلالها سياسيًا، أو كيف تنتج عنها أفعال سياسية وعسكرية. وبالطبع، الجموع اليائسة والعاجزة التي تكتشف أن دولتها لم تحقق ما وعدته بها، تُنتج أفعالًا مختلفة عن الجموع الغاضبة، الراغبة في الانتقام وإسالة المزيد من الدماء.
لا يمكن لأي متابع أمين لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ولطبيعة دولة إسرائيل، أن يتوهّم أنها ستتخلى عن كونها دولة عدوانية، بحكم طبيعتها، حتى اللحظة الأخيرة السابقة لنهايتها. لكن عدوان اليائس وخطواته السياسية، تختلف عما يفعله المتعصّب الراغب بتوحيد الصفوف من أجل الانتقام، وتعزيز سلطته. "حماس" تُدرك ذلك، تُدرك أن صراعها مع إسرائيل سياسي ومعنوي ودعائي، لا عسكري فحسب. وهو ما يفرض التوقف عند التفاصيل، والتفكير في ما إذا كانت طريقة إخراج المشاهد، على المستويات الفنية/الدعائية/الاستعراضية، قد حقّقت الهدف منها أم لا.
سؤال الجمهور
مشاهد استعراض التسليم، والمنصات، واللافتات، بكل ما تحمله من رسائل سياسية ودعائية مباشرة، مكتوبة بالعربية والعبرية والإنكليزية، وبكل ما تحمله من رسائل أبعد من الكلمات، لجهة حضور هذا الكم من المقاتلين، المنظمين والمنضبطين، وبملابس نظيفة، وبأسلحة ليست البدائية، وبعربات دفع رباعي بيضاء لم يمسها القصف الذي دمر القطاع بالكامل، بالإضافة إلى شهادات التقدير المسلمة للأسرى والأسيرات، تدفعنا للسؤال حول الجمهور المستهدف من العرض/"الشو".
لأن "حماس" واعية لأهمية الحرب الاستعراضية/الدعائية، لابد أن يُطرح سؤال "ماذا لو" كانت أنتجت مشهدًا مختلفًا
الجمهور هنا شديد التنوع، وهو يتسع لما هو أكثر من مواطني إسرائيل. فرسائل المقاومة موجهة لأطراف عدة. أولها الشعب الفلسطيني في غزة وخارجها، والقطاعات الشعبية العربية الداعمة للحق الفلسطيني، ومفادها أن المقاومة مستمرة ولم تُهزم. وهذا أثار جنون سياسيي إسرائيل والولايات المتحدة، إلى حدّ مطالبتهم إلغاء مراسم التسليم، لكونها رسالة رفع معنويات، ودعوة للدعم والتضامن والالتفاف حول المقاومة، الواعية بأنها لن تستطيع الاستمرار في الزمن العاصف الآتي من دون حاضنة شعبية، فلسطينية وعربية، حقيقية وفاعلة.
الجمهور المستهدف جالس أيضًا في عدد من القصور الملكية والرئاسية في عواصم عربية، بينها سلطة الحكم الذاتي الفاسدة والمتعاونة مع الاحتلال في رام الله. والرسالة مفادها أن طموح القضاء على المقاومة في فلسطين، لتنخرط الأنظمة في مشاريعها التطبيعية مع إسرائيل، غير واقعي. لم يفلح في تحقيق ذلك التواطؤ مع العدو طيلة عام ونصف من إبادة لم ير العالم مثيلًا لها في التاريخ الحديث.
هناك رسالة إضافية موجهة لما يُسمى تجاوزًا "المجتمع الدولي"، أو ما أسماه أبو عبيدة في المرات الأولى التي ظهر فيها "أحرار العالم". والرسالة لا تفيد فقط بأن القضية الفلسطينية مستمرة، وبأن دعمها مطلوب، بل بأنها رسالة تفوق أخلاقي على المشروع الصهيوني بالأساس. وهي دعوة لأن يقارن العالم، وأحراره، وقواه المتضامنة مع الحق الفلسطيني، بين هيئة أسراهم الخارجين من تحت أنقاض الإبادة في غزة، وهيئة أسرانا الخارجين من سجون "دولة التقدم الغربي في الشرق".
غير أنّ مشهد 20 شباط/فبراير بدا احتفاليًا، لا يختلف عن مشاهد ابتسامات الأسيرات، أو مشهد الأسير الذي يقبّل رأسَي المقاتلَين، برغم أن فيه جثمانين لطفلَين. هنا أخفقت "حماس"، في تقديري، في تقديمه كرسالة تفوّق أخلاقي، للفئات الداعمة للحق الفلسطيني عالميًا، ولبعض الفئات من العرب. فالموسيقى، والمنصة، والتوابيت المرفوعة فوقها، يتم تلقيها باحتفالية لا تليق بالموت، بل تُستقبل باعتبارها فعل انتقام من حماس "المتوحشة"، وهذا يتناقض مع ما تطمح إليه "حماس" نفسها.
ماذا لو؟ مسرحيًا وتاريخيًا
إخراج المشاهد المسرحية/الاستعراضية، تحديدًا متى كانت تحمل مضامين سياسية، يختلف باختلاف المشهد. فالعرس يختلف عن الميلاد أو الخروج للحرية أو الموت، خصوصًا متى كان موت أطفال، وتحديدًا أن الشعب الفلسطيني لديه آلاف الأطفال القتلى، ومنهم من لم تُنتشل جثامينه بعد. عدم الانتباه لهذا الاختلاف فتح على "حماس" موجة هجوم ونقد كانت قد تراجعت خلال الشهور الطويلة للإبادة، التي شهدت هتاف قطاعات واسعة من "أحرار العالم" لـ"حماس" في التظاهرات، وسمّتها "مقاومة" لأول مرة.
لا تنبع الانتقادات كافة من حسن النية أو قلق على صورة الفلسطيني. لكن المشهد أثار قلق المتضامنين. من هنا يبدو أن الاستعراض اتسم بخيبة وفوضى، يمكن تبريرهما بحكم الظروف في غزة. لكن الفوضى والخيبة يتناقضان مع ما يحاول الاستعراض الإيحاء به من حرفية وحبكة متماسكة.
لا مكان لسؤال "ماذا لو؟" في ما يخص التاريخ الاجتماعي والسياسي المعقّد والمركب. لكن السؤال حاضر على الدوام في الفن، أثناء تنفيذه وتدريسه وتحليله ونقده. ولأن "حماس" واعية لأهمية الحرب الاستعراضية/الدعائية، لابد أن يُطرح سؤال "ماذا لو" كانت أنتجت مشهدًا من دون موسيقى، ومن دون منصة، ومن دون هذا الرسم الركيك لنتنياهو في صورة "دراكولا" مصاص دماء القتلى الأربعة، ومع كلمة مختصرة لأحد مقاتليها عن أطفالنا القتلى وعائلاتهم، توضح احترامنا للموت، وأننا دعاة حياة، لا نريد الموت لأحد، ونأسف لموتهم بصواريخ جيشهم. ولأننا دعاة حياة، فإننا نتمسك بحق شعبنا الذي قدم مئات الآلاف من الضحايا، في الحياة والحرية والأرض.
ربما يجب أن نتذكر ما قاله إدوارد سعيد عن كون ما نخوضه معركة أخلاقية أيضًا، على الشعب الفلسطيني كسبها
كان تأثير المشهد سيختلف تمامًا. وكان سينتج غضبًا أكبر على دولة قتلت مواطنيها خلال عملية إبادة. لم نكن لنثير قلق ونقد قوى انحازت للحق الفلسطيني والعربي خلال الشهور الأخيرة باكتشافها الحديث لبربرية دولة إسرائيل وتوحشها ودمويتها. وكنا سنتجنب ادعاءات السذج وسيئي النية بأن الطرفين متوحشان، وبأن الصراع بينهما إنما هو نتيجة الكره العنصري المتبادل، لا نتيجة تمسك الضحية بأرضها وحريتها وحياتها.
عن هذا الجرح العميق بداخلنا
لا يوجد، ولن يوجد مشهد حاسم ونهائي في مسيرة تحرر شعوب المنطقة من دولة إسرائيل. والإخفاق في تنفيذ مشهد تسليم لن يمحي من الأذهان معاناة الشعب الفلسطيني ومآسيه خلال خمسة عشر شهرًا من دمار ودم. لكن ما يلفت الانتباه ويستحق التوقف عنده، هو رد فعل كثيرين ممن ينتمون لصفوفنا على نقد ذاك المشهد.
أعربت الكثير من ردود الأفعال عن رغبة عميقة في الانتقام. وكاد الأمر أن يكون محصورًا بخطابين؛ يتلخص الأول بـ"فليذهب العالم إلى الجحيم"، والثاني بـ"إنهم قتلوا الأطفال وفعلوا كذا وكذا". ولا يعبّر كلا الخطابين عن مجرد رغبة في الانتقام، مبررة بالطبع، بل عن منطق أكثر خطورة، يرفض النقد والتفكير الحر والمستقل إن كانت المسألة تتعلق بممارسات المقاومة. في حين كان يُفترض أن تتأصل أهمية التفكير النقدي المستقل، ومفادها أن لا قداسة لأحد، بعد كل ما عاشه الفلسطينيون.
لا يناسب منطق الاصطفاف الأعمى هذه اللحظة التي تتضارب فيها مشاريع كابوسية تتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني. أما اليقينية المطلقة وتضييق الصفوف بحيث تضم المنحازين بالكامل لكل خطوة من خطوات المقاومة فقط، فهو تعبير عن شيء داخلي؛ إما إحساس عظيم بالانتصار المطلق، أو إحساس عظيم بالهزيمة واليأس المطلقين. وبما أن الانتصار الحقيقي لا يحدث سوى بزوال دولة إسرائيل، فإن هذه اليقينية هي، في الغالب، تعبير عن شعور ثقيل بالهزيمة والضعف واليأس.
إن كان العالم لا يستحق الالتفات له، فلماذا إذًا خاطبه أبو عبيدة؟ ولماذا إذًا نفرح بحملات التضامن، والفاعليات، والتظاهرات، وحملات المقاطعة للعدو؟ لماذا نهلل لاتهام قياداته أمام المحاكم الدولية، وملاحقة جنوده في بعض البلدان؟ لم تكتسب إسرائيل، لأول مرة في تاريخها، صورة الدولة المنبوذة دوليًا، ولم يسقط عنها قناع الديمقراطية، لمجرد قيامها بما قامت بها. بل لأن مئات الآلاف من الفاضحين لها كانوا موزعين في مدن العالم كافة. وهذا الأمر نفسه يُعدّ خطوة في الطريق الطويل لانتصارنا.
أما منطق أنهم فعلوا كذا وكذا، فهو منطق مخيف. وكأن على الضحية أن تتعلم من جلادها. هذا منطق إسقاطي بتعبيرات علم النفس، سيصل بتطرفه إلى حالة كابوسية، فحواها أننا نرفض دولة الاحتلال العنصرية لمجرد أن عدوانيتها موجهة إلينا، ولمجرد أننا ضحاياها.
بعيدًا عن أسئلة الانتصار والهزيمة في المقتلة الأخيرة، ومن انتصر سياسيًا وعسكريًا، وما إذا كان الدمار والدم المعممان يشكلان انتصارًا أم لا، وسواها من الأسئلة التي ستجيب عليها الشهور القادمة، مما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني ومقاومته انتصرا أخلاقيًا.
لكن ربما يجب تحصين هذا الانتصار، لا فقدانه. وربما يجب أن نتذكر ما قاله إدوارد سعيد عن كون ما نخوضه معركة أخلاقية أيضًا، على الشعب الفلسطيني كسبها.