بقلم مجهول: صحافة الأسماء المستعارة في سوريا
هذه شهادات لصحفيات وصحفيين من سوريا اضطروا لممارسة مهنتهم خلف أسماء مستعارة. لم يطلق أي منهم رصاصة أو يحمل سكينًا أو يفجّر قنبلة، بل أرادوا تقصي الحقائق والكتابة عمّا يرونه فقط.
هذه شهادات لصحفيات وصحفيين من سوريا اضطروا لممارسة مهنتهم خلف أسماء مستعارة. لم يطلق أي منهم رصاصة أو يحمل سكينًا أو يفجّر قنبلة، بل أرادوا تقصي الحقائق والكتابة عمّا يرونه فقط.
"إخوتي كانوا هناك، بمتناول السلطة الطاغية. وأنا لم أمتلك شجاعة الإفصاح، حتى لو تمكنتُ من النجاة بنفسي وسافرت إلى الخارج"، تشرح لي صديقتي الأكاديمية التي لجأت للكتابة باسم مستعار عن مشكلات التعليم الجامعي في سوريا. "أما الآن، فمع رحيل بشار الأسد، صرت قادرة على التحرر من أقنعتي التي أُجبرت على ارتدائها"، تتابع فرحة بتغيير لطالما انتظرناه.
كان ذلك واحدًا من عشرات الأحاديث التي أجريتها مع الأصدقاء داخل سوريا وخارجها خلال الأيام الأولى من ذاك الأسبوع الحافل الذي شهد فرار الأسد وانفراط عقد نظامه.
قضينا ساعات وساعات، نحن السوريين، نتبادل الاتصالات والرسائل الصوتية والمكتوبة، ونقرأ المنشورات على منصات "السوشال ميديا"، وننبش الفضاءات عن خبر من هنا وآخر من هناك.
نشوةٌ منفلتة، توترٌ مقيم، نومٌ شحيح، أملٌ حائر، ومشاعر مضطربة أخرى جمعتنا منذ فجر الثامن من كانون الأول/ديسمبر في الساحات وأمام الشاشات وعلى الهواتف.
وبعد عشرات الأحاديث والمنشورات والتعليقات التي دار معظمها، بطبيعة الحال، في إطار الجسم الصحفي والإعلامي، بدأتُ ألاحظ كم من السوريات والسوريين اضطروا للتخفّي وراء أسماء مستعارة لمجرد أنهم كانوا يمارسون مهنتهم لا غير.
لم يطلق أي منهم رصاصة أو يحمل سكينًا أو يفجّر قنبلة، بل أرادوا تقصي الحقائق والكتابة عمّا يرونه فقط. لكننا جميعنا، نحن السوريين، الذين سكنّا طويلًا في جهورية الصمت، نعرف كم كان بمقدور الدولة الأمنية أن تتسامح مع الأفعال الأولى وتقصل يد، بل رأس، من يُقدم على الثانية.
سنقرأ هنا شهاداتٍ بقلم بعض الصحفيين والصحفيات ممن لجأوا ولجأن لأمان الأسماء المستعارة لمجرد تناول المواضيع الحساسة أو العمل مع وسائل ومواقع إعلامية معارضة.
من اللاذقية نبدأ، من واحدة من أقدم مدن التاريخ التي لم ير الجزء الأعظم من الإعلام العربي والعالمي فيها سوى "الخزان البشري لنظام الأسد" و"عاصمة الشبيحة"، كانت داليا عبد الكريم تمارس الصحافة في العلن والخفاء، وتنتظر يومًا تتمكن به من الجمع بين الاثنين.
أول مرةٍ كتبت فيها باسم مستعار كانت عام 2018؛ مادة ساخرة في موقع محلي. ومع ذلك كانت عوامل الأمان تقتضي وضع اسم مستعار. فمَن سيأمن جانب الحكومة في حال قررت صحفية مغمورة مثلي بلا سند، كتابة مادة ساخرة عن ملابس رئيس الحكومة ومقارنتها براتبه الشهري؟ شعرت بالألم يومها، خصوصًا أثناء جلوسي مع زملاء وزميلات يقرأون المادة ويبدون إعجابهم بها، "مو إنت بتحبي تكتبي سخرية، بربك إذا بتبقي مية سنة رح يطلع معك هيك؟"، فكنت أجيبهم بالنفي، وأكتم في داخلي.
ثم أخذت قرار العمل مع مواقع صحفية معارضة. أذكر تمامًا كيف كان هرمون الكورتيزول يرتفع في دمي مع تشغيل برنامج VPN وفتح البريد الإلكتروني السري، ويزداد توتري فتسألني طفلتي "ماما ليش صار وجهك لونه هيك؟". استخدمت خمسة أسماء مستعارة، في خمسة أماكن مختلفة، وبرغم أن طبيعة معظم المواد كانت خدمية واجتماعية ونسوية ولا تقترب من المحظورات، إلا أن مجرد اسم المنصة كان خطرًا. أتذكر أني نمت ليالي كثيرة محتضنة طفلتي أرجو الله أن يبعد عيونهم عني. كانت تجربة مخيفة، ورغم أنها مضت، لكن الكوابيس ازدادت حين شاهدت فظائع معتقلات الأسد، ماذا لو كانوا علموا بذنب حرية التعبير الذي ارتكبته والذي لا يُغتفر في سوريا؟ الحمد لله لم أعش هذه اللحظة.
من اللاذقية نمضي إلى دمشق، ونقرأ عن تجارب صحفيات وصحفيي العاصمة الذين كانوا يرزحون تحت رقابة مشددة قد تهدد أمانهم، حتى لو كانوا يتناولون بعض المسائل الخدمية اليومية.
استخدمتُ اسمين مستعارين خلال عملي في دمشق خوفًا من الاعتقال، واستمر اسم منهما معي خارج دمشق بعد خروجي إلى لبنان خوفًا من التعرض لزوجتي وأولادي أو لأهلي في سوريا. ما دفعني إلى ذلك هو توجهي المعارض (غير المعلن) للنظام السوري، ومنعي من السفر واستدعائي أمنيًا بعد نشر أول تحقيق استقصائي لي مع شبكة خارجية. كما أنّي تعرضت للتهديد من قبل معاون وزير الإعلام في عهد الوزير عماد سارة، بإرسالي إلى محكمة الجرائم المعلوماتية، بعدما كتبت منشورًا عن مفاوضات جنيف على "فيسبوك". كنت أشعر خلال تلك السنوات بالخوف على عائلتي في حال افتضاح أمري وما سيجرّه من تداعيات عليهم. أما اليوم فأنا فخور لعدم وقوفي مع النظام.
عام 2022، خضت تجربةً محفوفة بالمخاطر عندما تعاونت مع وكالة "نورث برس"، بطلب منهم. رغم ترددي الكبير بسبب حساسية سياسة الوكالة في سوريا. وبرغم الأخبار التي كنت أسمعها عن اعتقالات صحفيين متعاونين مع هذه الوكالة بالذات، فقد دفعتني رغبتي العميقة في العمل بالصحافة الحرة إلى تجاوز خوفي وخوض التجربة. كان التواصل مع الوكالة سريًا تمامًا، يقتصر على تطبيق "واتسآب"، دون أي قنوات رسمية، وعملت على إعداد تقارير موثقة عن الوضع المعيشي، تحت اسم "ليلى عبد الله".
أثناء تصوير تقرير عن أزمة المواصلات في دمشق، لاحظ أحد أصحاب البسطات كاميرتي، فأبلغ المفرزة الأمنية القريبة. وجدت نفسي أخضع للتحقيق، واضطررت للادعاء بأن الصور كانت لصالح وكالة "سبوتنيك" الروسية التي كُنت أتعاون معها آنذاك. تواصل المحققون مع مكتب "سبوتنيك" في دمشق للتأكد من أقوالي، وبعد إظهار بطاقتي الصحفية، سمحوا لي بالمغادرة، ولكن بعد أن حذفوا الصور التي التقطتها. تلك الحادثة كانت كفيلة بجعلي أنهي عملي مع الوكالة، حيث اعتذرت عن استكمال التعاون أو استلام مستحقاتي المالية حتى.
تجربة العمل باسم مستعار تعني إلغاء اسمك وهويتك وخلق شخصية منافسة لك. عندما كنت على الهواء مع "راديو روزنا" لحظة إعلان خبر النصر للشعب السوري، أخطأت في نهاية "الستاند" وقلت "تامر محمد" عوضًا عن اسمي الحقيقي، وهذا الاسم كان الوحيد الذي استخدمته لأكثر من خمس سنين. وحتى اليوم، تختلط مشاعري. إذ أدفن هذه الشخصية التي حمتني لسنين طويلة في كتاب الذكريات مغلقًا معها سنين الخوف والقلق.
وإذ نعود إلى الساحل، إلى طرطوس تحديدًا، نقرأ عن تجربة رزان عمران في المدينة التي عرفها الإعلام لحظة استقبل مرفأها القاعدة البحرية الروسية ونسي، في كثير من وسائله، واقعها المشحون بالتوتر والإهمال وضحايا الاقتتال.
في كل المحافظات أنت مرصود، لكن طرطوس تحديدًا مدينة صغيرة كثيرة العيون. عملتُ فيها منذ 2013، "عز" الأزمة كما يقال. نشاطات متشابهة، أغلبها رسمي. حقائق كثيرة ممنوع نشرها. كنت أرسل التفاصيل إلى إعلاميين في الخارج، دون نسبها إليّ. دفعني الضغط النفسي في بيئة تتبنى الرواية الحكومية باستفزاز، إلى الكتابة باسم مستعار في موقعي "راديو سوريالي" و"الجمهورية". استخدمتُ "ريم حسن". اسم ربما لمئات الطرطوسيات لا يستوقف أحدًا. ولجأت مرة إلى اسم ذكر. أكثر مادة أرهقتني، كانت حول "مجزرة البيضا". كنت أتلفت حولي خوفًا من انكشاف الاتصالات. كانت المفاضلة صعبة بين اسمي وبين رأي أو شهادة أتوق لإعلانهما. لكن الأولوية كانت دائمًا للمعلومة.
لم يكن قمع حرية تداول المعلومات قاصرًا على مناطق سيطرة الحكومة السورية السابقة، بل اختبره جميع من عمل في الصحافة شمال سوريا وفي شمالها الغربي والشرقي أيضًا. نقرأ هنا عن تجربة نور الأحمد في ظل سيطرة "قوات سوريا الديموقراطية (قسد)" على الجزيرة السورية.
وجدت نفسي مضطرة للإحجام عن التعاون مع العديد من المؤسسات الإعلامية، لأني لم أرد الكتابة بأسماء مستعارة، بل كنت دائمًا أرغب بالنشر باسمي برغم معرفتي بخطورة ذلك. ولكن، في بعض الأحيان، أثناء عملي على إنجاز تقارير تتعلق بالانتهاكات في مدينتي الحسكة، أو انتهاكات "الإدارة الذاتية" ضد المدنيين، كنت أطلب من المحررين عدم كتابة اسمي خوفًا من ردود الفعل. كان هذا الخوف مبررًا، فقد تعرضت لمضايقات من "قسد" أكثر من مرة، وشملت تلك المضايقات استدعاءات للتحقيق لدى مؤسسات مثل "مؤتمر ستار"، المنظمة النسائية التابعة لـ"الإدارة الذاتية". هذه المخاوف أثرت بشكل كبير على قدرتي على العمل بحرية، وما زالت تلاحقني حتى اليوم. وبرغم مغادرتي سوريا منذ أشهر قليلة، ما زلت أخشى على سلامة عائلتي في الحسكة.
وأخيراً نذهب جنوبًا إلى السويداء مع تجربة تنازعت رواد بلان بين الإشهار والكتمان.
حين أيقنتُ أن عداء السلطة للكلمة أكبر بكثير من عدائها لأي جهادي إرهابي، كان اختيار اسمٍ كستار لعملي الصحفي عام 2012. غير أن هذا الاختيار كان ينطوي على صراع إدراكي. إذ إن اسمي سيغيب بأفكاره وتوجهاته عن مجتمعي، ولكنّي سأحضر عبر القضايا التي أدافع عنها. كنت أغذي الأمل بأن نصل إلى يومٍ تُقدّس فيه الحريات العامة وحرية الإعلام في سوريا. عشت سنوات طويلة أثقلها الخوف من انكشاف أمري مع كل عبورٍ لحاجز أمني، وكل تحقيق خضعت له جراء عملي في الشأن العام، برغم اتباعي كل ما أمكنني من تعليمات أمن المعلومات.
تنتابني في هذه الأيام مشاعر يختلط فيها الفرح بالخلاص من الأجهزة الأمنية والأسد، والقلق من شكل السقوط وطبيعة السلطة الجديدة التي تضع يدها على الحكم، وكل ما أخشاه أن أكون مضطرًا للبحث عن اسمٍ جديد.
لم يقتصر هذا الشكل من العمل الصحفي في سوريا على الحالات الفردية، بل إن الظرف السوري فتح المجال لإطلاق موقع "صوت سوري" الذي يقوم على فكرة تجهيل أسماء الصحافيات والصحافيين. وبحسب محررة الموقع، "كان الأمر أشبه بمغامرة متعددة الوجوه، فمن ناحية ينبغي أن نؤسس ثقة بيننا وبين الجمهور برغم عدم الكشف عن هوياتنا، ومن ناحية أخرى يجب أن ننجح في استقطاب زملاء من مختلف الجغرافيات والأهواء السياسية ليتفاعلوا في فضاء مشترك واحد. راهنّا على أن المحتوى أهم من الأسماء، خصوصًا أن أسماء كثير من الصحفيين والصحفيات تحولت إلى عبء عليهم/ن في كثير من الأحيان، إذ يُتخذ موقف مسبق من فلان/ة فقط لأنه ينشر في تلك الصحيفة، أو ذلك الموقع، أو لمجرد أنه يعيش في منطقة تسيطر عليها تلك الجماعة. حين تخفّفنا من ذلك الإرث كسرنا الحاجز الأول، وبدأ الجمهور في محاكمة مضامين ما ننشره بعيدًا عن الأسماء".
لكن للصحفية الاستقصائية والمدربة ميس قات وجهة نظر أخرى حيال استخدام الأسماء المستعارة. تعترف قات بحق كل شخص بالخوف على نفسه وأهله بالطبع، إلا أنها شهدت حالات كان البعض لا يستخدم فيها اسمه الصريح "للحفاظ على مصالح وعلاقات سياسية وامتيازات يحصل عليها من كلا الطرفين، فيما استعمل البعض اسمًا مستعارًا للالتفاف على عقود العمل والاستفادة من فرص عمل متضاربة في مؤسسات مختلفة". وهي في هذا الصدد، لا تنسى الإشادة بمن " خسروا حيواتهم وأهلهم ومصالحهم والأهم نفوا من بلدهم كي يحتفظوا بوجوههم الواضحة في وجه الديكتاتور"، وهم جديرون اليوم بالاحتفاء لشجاعتهم وثباتهم على المبادئ.
أخيرًا، يبقى السؤال: هل حان وقت التخلي عن الأسماء المستعارة؟ لمحررة "صوت سوري" رأيها، خصوصًا لناحية أسلوب عمل الموقع، إذ إنها ترى أن "المحاذير الأمنية ما زالت كثيرة، ونحن لم نتبيّن بعد كيف ستتعامل القوى الجديدة مع مسألة حرية الصحافة، فضلًا عن أن مسألة الأسماء المستعارة لا ترتبط فقط بالجانب الأمني، بل هي مكون أساسي لهوية الموقع، وأي تغيير سيطرأ على هذا الجزء يعني بالضرورة تغييرات عدة ينبغي إقرارها، ولا نرى أن الأمر قد حان بعد. بل، على العكس، السياق اليوم يتطلب منا التزامًا بمبادئنا العامة التي تبنيناها. فالمراحل الانتقالية من الحرب إلى السلام دقيقة وحسّاسة، وتتطلب منا تكثيف الجهد أملًا في الوصول يومًا ما إلى سردية مشتركة للسلام يتبناها جميع السوريين والسوريات".