سِفر الاختفاء: سردية التطهير العرقي

في "سِفر الاختفاء" تكتب ابتسام عازم عن غربة الباقين وتتساءل في الوقت نفسه: هل الأمكنة خوّانة؟ هل تنسى المدن أهلها الأصليين؟

أعلنت لجنة تحكيم "جائزة البوكر الدولية" القائمة الطويلة لسنة 2025، التي ضمت 13 عملًا روائيًا من بينها رواية "سِفر الاختفاء" للروائية والصحافية الفلسطينية ابتسام عازم. صدرت الرواية عن "منشورات الجمل" عام 2014 وترجمها إلى الإنكليزية الروائي سنان أنطون، لتصدر نسختها المترجمة عن منشورات "جامعة Syracuse" في الولايات المتحدة عام 2019، وعن " & Other Stories"  في المملكة المتحدة عام 2024.

كتبت لجنة تحكيم "جائزة البوكر الدولية" عن أسباب اختيار رواية "سِفر الاختفاء": "رواية تخييلية تأملية آسرة، تقارب بشكل استثنائي نسج الذاكرة والتاريخ والجغرافية النفسية. تنطلق الرواية من فكرة صادمة ومزعزعة، وجريئة في الوقت ذاته، وهي حدث اختفاء الفلسطينيين بين ليلة وضحاها. تتحدانا الكاتبة أن نتخيّل، ومن موضع التخيل هذا سيبرز تحدّي أن نقرأ بشكل مختلف، عكس التيار".

في حوار مع الروائية ابتسام عازم حضرته في برلين، قالت إنها انطلقت في روايتها من مقابلة مع سياسي إسرائيلي كان يتحدث عن فلسطين. وكعادة الإسرائيليين، كان كلامه محض كذب عما يدور في القدس. بدأت تكتب مقالة تفنّد فيها مزاعمه، وجالت في رأسها وهي تكتب جملةٌ لإسحق رابين: "أتمنى أن أستيقظ ذات يوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر". كما تذكّرت مقابلة مع المؤرخ الإسرائيلي بني مورِس إبّان صدور كتاب له عن اللاجئين الفلسطينيين، قال فيها: "لو أن الإسرائيليين أنهوا التطهير العرقي عام 1948، لما وقعوا في مشكلة الديمغرافيا الآن". 

تطوّرت المقالة لتغدو رواية لا تنشغل باختفاء الفلسطينيين فحسب، بل بالحفاظ على الذاكرة والهوية والحيلولة دون اندثارها، فضلًا عن وضع العرب في فلسطين. هكذا انطلقت من تلك الهواجس التي أرّقتها وكتبت "سفر الاختفاء". ليست "سِفر الاختفاء" رواية فحسب، بل هي تتمة لأسفار العهد القديم، ولعب على الميثولوجية الدينية واستخدام الصهيونية لها.

تبدأ الرواية بحادثة اختفاء جدة علاء العساف. وعلاء العساف الذي ولد بعد نكسة 1967، طالب دراسات عليا ومصور ناجح، يعيش في مبنى يسكنه إسرائيليون ومن بينهم أرئييل صديقه الإسرائيلي. تروي الجدة تاريخ يافا لحفيدها علاء، وتخبره كيف رفضت مغادرة المدينة. فقد هُجِّرت عائلتها من حي المنشية إلى حي العجمي، وبعدما كان عدد الفلسطينيين 100 ألف، لم يتبقَ منهم سوى 4 آلاف، "كأن العتمة بلعتهم، كأن البحر أخدهم فدية".

لم يبق من العائلة سوى هذه الجدة التي كانت حاملًا بأمه ووالدها العجوز. ذهب زوجها إلى بيروت، وهناك طلٌقها حين رفضت اللحاق به وقرّرت البقاء في يافا. "حدا بتكون عنده يافا وبيروح لبيروت؟ شو فيها بيروت". وبرغم التصفية الممنهجة التي اتبعها الصهاينة، بقيت ووالدها الذي أصابه الخرف في حي العجمي الذي لا يستطيع الفلسطيني الخروج منه أو الدخول إليه من دون تصريح.

لا تعترف الجدة التي شهدت التطهير العرقي عام 1948 بآثاره. بل تسمي الشوارع والبنايات بأسمائها قبل عام "النكبة"، كأنها تعيش في عالم موازٍ لا وجود فيه للإسرائيليين، وتستغرب في الوقت نفسه أن لا أحد يعرفها في المدينة: "بمشي بلمدينة ولمدينة بتتعرفش عليّ".

لم يبق أحد من سكان المدينة، "يافا التي هجرت يافا"، أو تل أبيب التي قامت فوق رفات الفلسطينيين وبيوتهم وذكرياتهم. بدّل الإسرائيليون أسماء الشوارع بأرقام، كما لو أنهم يريدون قتل الذاكرة وحميمية علاقة الفلسطيني بمدينته.

هل الرواية، بالفعل، فانتازية؟ أليست مجازر إسرائيل الممنهجة شاهدة على رغبة الإسرائيليين في اختفاء الفلسطينيين؟

يروي علاء في مذكراته "كنتُ متأكدًا أن مدينتك التي تتحدثين عنها، التي لها نفس الاسم، لا علاقة لها بمدينتي، تشبهها إلى حدّ الجنون، الأسماء، والبيارات والروائح وسينما الحمراء والأعراس وعيد النبي روبين وشارع اسكندر عوض وساحة الساعة والناس، أولئك الذين أعرف كل مشاكلهم، وكيف تهجروا من يافا، فأنا أعرف تفاصيل حياتهم المملة، وتلك الأكثر إثارة، ونكاتهم، كل هذا وأنا لم أرَ أيًا منهم وأشك أنني سأرى".

هكذا تكتب ابتسام عازم عن غربة الباقين وتتساءل في الوقت نفسه: هل الأمكنة خوّانة؟ هل تنسى المدن أهلها الأصليين؟

 كأن اختفاء الجدة كان إيذانًا ببدء اختفاء سائر الفلسطينيين. هذا الاختفاء المفاجئ الذي أربك الإسرائيليين. كأن الجدة هي يافا القديمة قبل احتلالها وسطو الصهاينة على تاريخها وحاضرها لتصبح تل أبيب.

تختفي الجدة وتختفي العاملات الفلسطينيات في حقل الزهور. ثم يختفي سائقو الحافلات ويليهم المعتقلون الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. تفضح ابتسام عازم صَلَف الماكينة الإعلامية الصهيونية وكذبها من خلال حديث هاتفي يدور بين طبيب إسرائيلي  يشرف على المعتقلات وابنته التي تعيش في الولايات المتحدة. تبدو الابنة غير راضية عن عمل أبيها في السجون، فيبرّر الأب عمله بالقول إنه يحاول أن يختار أقل صنوف التعذيب وحشية، ويضيف قائلًا إن الكثير من المعتقلين سيموتون تحت التعذيب لولاه. كأن اعتقال الفلسطينيين مبرر، فيما المهم هو اختيار طريقة تعذيب تليق بالعالم المتحضر الذي ينتمي إليه الطبيب. 

يختفي الأطباء الفلسطينيون في المشافي، و يظهر التمييز العرقي بين اليهود العرب واليهود الأوروبيين من خلال مشهد يدور بين مسنّة يهودية عراقية وابنتها والممرّضة. ويكشف المشهد نفسه محنة اليهود العراقيين وتهجيرهم القسري من بغداد إلى إسرائيل، وارتباطهم بالعراق وحنينهم إليه، ورفضهم إسرائيل كوطن نهائي. 

تطرح الرواية أسئلة حول علاقة الفلسطيني بالإسرائيلي، وما إذا كان ممكنًا بالفعل العيش معًا. فأرئييل، الصحفي الإسرائيلي الليبرالي صديق علاء وجاره في البناية، والذي يشكك بكثير من المسلمات الصهيونية من جهة، لا يثق بفلسطينيي الداخل من جهة أخرى.

هذه الشخصية الملتبسة والمرتبكة التي يحملها أرئييل لا تنفك تُظهر زيف ما يدّعيه من صداقة لعلاء. فما إن يختفي الأخير حتى يستولي أرئييل على شقته ويسطو على مذكراته. كما لو أنه يريد أن يسطو على تاريخه وتاريخ يافا التي دوَّنها علاء في المذكرات من خلال حكايات جدته.

وعلى النحو نفسه تعلن الحكومة الإسرائيلية أن الفلسطينيين المختفين ملزمون بالحضور إلى دائرة الأملاك خلال 48 ساعة، وإلا سوف تصبح أملاكهم بيد الإسرائيليين. وهكذا يغتنم الإسرائيليون فرصة اختفاء الفلسطينيين ويستولون على أملاكهم.

هل الرواية، بالفعل، فانتازية؟ أليس هذا ما عمدت إليه إسرائيل منذ وعد بلفور حتى الآن؟ أليست مجازرها الممنهجة شاهدة على رغبة الإسرائيليين في اختفاء الفلسطينيين وفي القول إن فلسطين أرض بلا شعب؟

تظهر الرواية أيضًا اختلافات الأجيال. فجيل الجدة كان يحتفي بالحياة؛ "إحنا أهل البحر من المنشية منحب الحياة غير شكل عن أي مكان في الدنيا". بينما الجيل الجديد يحتفي بالموت. يظهر ذلك من خلال صورة رجل ملثم، خلفه دماء، يعلّقها علاء على جدار غرفته. تتساءل الجدة "ليش ما بتعلق صورة يافا أو صورة بنت حلوة بدل هي الصورة". 

بخلاف صورة الجدة التقليدية التي تروي الحكايات لأحفادها كي يناموا، فإن جدة علاء تروي الحكاية لحفيدها كي يستيقظ. كي لا تموت يافا بموت أهلها وتهجيرهم.

تنتهي الرواية ولا نعرف سر الاختفاء. ونُترك مع اختفاء الفلسطينيين في العالم الحقيقي من الصورة المهيمنة والخطاب المهيمن. كما لو أنهم لم يكونوا. كما لو أنهم ليسوا موجودين الآن. 

حوار مع سنان أنطون: ليس الأمل نقيض الذاكرة

بعد روايات "إعجام"، و"وحدها شجرة الرمان"، و"يا مريم"، و"فهرس"، صدرت للكاتب العراقي سنان أنطون رواية "خُزا...

هنادي زرقة
الياس خوري: صوت الضحية

يعود الياس خوري في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية ب...

هنادي زرقة
كيف تسلّل العنف إلى الأغنية السوريّة

لم تقتصر الحرب السوريّة على وضع المنظومة كلها تحت طائلة السؤال، بل قدمت ما يشبه منظومة بديلة، ومارست في ف...

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة