
أنا گلبي كان شِبَّاك
بس الهوى شَبَّاك
يا بكرا بستنّاك
ليك العيون حنّوا
أنا گلبي برج حمام
هجّ الحمام منّو.
حسين رياض/ مصر
أدندن الأغنية وأنا أتمشى في الشارع من دون أن أكترث بالحمام المتهادي فوق الأرصفة والساحات. الحمام الآمن في المدينة الآمنة التي اسمها برلين.
أتساءل عن سرّ الأمان لدى سرب الحمام هنا. لماذا لا يفرّ ما إن يقترب الناس منه؟ هل يستطيع الحمام سبر أغوار الناس هنا؟ هل هو متأكد من صفاء سريرتهم تجاهه. تعبر صورة للمناضل السوري عبد العزيز الخير في مرسم الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي وعلى كتفه وبقربه يغطّ الحمام بوداعة. أي سريرة صافية امتلك هذا الرجل!
أتابع المشي والثلج يهمي على كتفيّ الهزيلين، كأنني أحمل تركة ثقيلة من الخوف والحزن والخذلان، حتى ناء كتفاي بهذا الحمل. هل سيفرّ الحمام ما إن يشمّ رائحة هذه التركة؟
إنه عيد الحبّ، إذًا! شباب وصبايا وكهول يحملون الورود الحمراء، وأنا التي تجاوزت الخمسين لم أحتفل يومًا بعيد الحب. لطالما تمنيّتُ أن يُهدى إليّ وردة حمراء أو دبّ أحمر أسوة بالعاشقات، بيد أن حمولة العشاق الثقافية والسياسية لم تسمح لهم بتفاهات، مثل هذه، كما كانوا يدّعون. أو لعلّهم رأوا بي ما لا يستحق وردة حمراء! أتساءل الآن: هل كان عليّ، أنا وحدي، أن أحمل الراية الحمراء وأستظل بالسنديانة الحمراء يا "أحلى سنديانة" ! ربما لهذا كتبتُ قصيدة:
ستقنعني كما يحدث في كلّ فالنتين أنني كبرتُ
وأن الوردة الحمراء للمراهقات،
وأنه من التفاهة أن تشتري لي أيّ شيء أحمر،
"الدم يصبغ كلّ شيء"
وستعاتبني قائلًا: "هل حزنتِ حقًا؟ اعتقدتُ أنك عميقة
ولا تهتمين بالأشياء السطحية!"
"إنها الحرب يا عزيزتي"
سأهزّ رأسي
وأتجنّب أي شجار يحدث كما في كلّ عام،
وهذا لا شأن له بالحرب.
سأقبل دعوة إلى مقهى الرصيف ذاته
وأجلس إلى طاولة محاذية للشارع تمامًا،
وأكتفي بمراقبة العشاق والورود الحمراء،
وأقول في سرّي: "ليتني كنتُ تافهة حقًا".
مخيف أن تكبر في السنّ وحيدًا، هذا ما يقوله لي جميع من أصادف. أهزّ رأسي من دون أن أفسر سبب وحدتي. ثم يمرّ شريط الخذلان والفقد في ذاكرتي. ياه .... كم صديق رحل عن دنياي في السنوات السابقة. وأنا بدوري رحلت عنهم إلى مدينة غريبة.
تقول معالجتي النفسية: جرّبي مواقع المواعدة مثل "تندر" وغيرها. ثمة أشخاص التقوا بأناس مناسبين، أصدقاء وعشاق، بل إن كثيرًا منهم وجد زوجًا.
تضحكني الفكرة وأتذكر تلك المجلات التي كانت تُخصّص صفحات للشباب يضعون فيها صورهم ومعلومات عنهم وما يتوسمونه في الشريك. أتخيل نفسي أكتب: أنا هنادي، عمري 51 عامًا، طولي 170 سم، كان وزني 68 كيلوغرامًا، بدّدتُ عشرة كيلوغرامات من الدمع فغدا 58 والرقم قابل للنقصان. سمراء، أجيد الطهو وكتابة الشعر والبكاء، ملولة وكثيرة الصراخ، أهذي طوال الليل باسم عشاق هجروني، لا لعيب خلقي فيَّ، بل ليُنجبوا أبناء من امرأة أقل جنونًا وصراخًا مني، هل من رجل يحتملني؟
أتوقف في ساحة Gessundbrunnen الرئيسة في برلين، وتعني ينابيع العافية، يضحكني اسمها، على الدوام، وأتخيل عافية وشبابًا لا ينضبان. ماذا لو أنني أتوقف عند سنّ العشرين بكامل عافيتي؟ أنثر قطعًا من الخبز للحمام المتجمع في الساحة:
يطير الحمام
يحطّ الحمام
أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبّكِ حتى التعب.
كأننا اعتدنا أن نلقي بثقل همومنا على كاهل الحمام، فينوح الحمام... قلّما سمعتُ الحمام ينوح في برلين
أنا متعبة، غير أنني لا أجد معادلًا أنثويًا في قصيدة درويش. كيف لي أن أقول لرجل: أعدَّ لي الأرض كي أستريح، فإني أحبكَ حتى التعب!
اعتدتُ أن أكون المُخاطَب لا المُخاطِب. اعتدت أن أعدّ الأرض كي يستريح من أحببت. لم يحدث وأن شكوتُ متاعبي لحبيب، فقد حاولت على الدوام أن أكون الـ strong independet woman. تثير سخريتي الصفات تلك الآن، من قال إنني لا أمرّ بلحظات ضعف، أتمنى فيها أن أسند رأسي إلى كتف رجل. كان من الأنسب أن أردّد: أنا لحبيبي.... وحبيبي لنجمته الشاردة، ويغدو من الحكمة أن أدندن أغنية فيروز:
برج الحمام مسوّر وعالي
هجّ الحمام
بقيت عبابي
لحالي...
أعود بذاكرتي إلى زيارتي اليتيمة إلى الجامع الأموي. لم يسمحوا لي بالدخول من دون ارتداء عباءة تجللني من الرأس إلى القدم. كان لونها رماديًا مثل لون الحمام المنتشر في ساحة الجامع، لم تكن رائحتها لطيفة لكثرة من ارتداها قبلي. غير أنني حين ارتديتها واقتربت من بهو الجامع حيث تتجمع أسراب الحمام، فتحت ذراعيي وابتسمت، قلتُ لصديقي: كم أشبه تلك الحمامات! يا للأمان هنا، حمام آمن في بيت الله!
ما أحببته في دمشق هو انتشار مهنة "كشّاش حمام". يقولون إن شهادته غير مقبولة في المحكمة لأنه يسرق حمام الآخرين. ترى ما هو حال الفتاة التي تقع في حبّ "كشّاش حمام"، هل تصدّقه، هو الذي يسرق حمامات الآخرين الجميلة؟
في دمشق
تطير الحمامات
خلف سياج الحرير
اثنتين
اثنتين.
عن أي حمام يتحدث محمود درويش، وهل سيحبسون الحمام خلف غلالات سوداء سميكة؟ هذا ما يشغل تفكيري الآن.
يُقال إن تسمية كتاب ابن حزم الأندلسي "طوق الحمامة الدمشقي" مبنيُّ على فكرة الديمومة والثبات كقول العرب: "أَبْقَى من طوق الحمام". هل ثمة حبّ باقٍ؟ أو هل ثمة "أبدٌ" في الحب؟ لقد سقطت فكرة الأبد في سوريا، فهل تسقط في الحبّ أيضًا؟
ويُقال إن ابن حزم أطلق هذا الاسم لأن الحمامة، ببساطة، رسول الحب والهوى. وكتبه نزولًا عند رغبة صديق، فهو رسالة تُعنى في الحبّ وأسبابه. رسالة في الحبّ فحسب. لماذا أُغفل هذا الكتاب في التاريخ العربي، ولم يأتِ على ذكره سوى ندرة من المؤرخين؟ هل يخيف الحب إلى هذه الدرجة؟ هل سنشهد عودة لاختفاء طوق الحمامة الدمشقي في دمشق؟
يرد في سفر التكوين (8: 11) أن نوحًا أرسل الحمامة ثلاث مرات ليعرف إن كان قد اقترب من اليابسة "فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة خضراء في فمها فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض". ربما لهذا السبب نرى صورة الحمام وفي منقارها غصن الزيتون رمزًا للسلام والسكينة.
أتذكر عبارة قالها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات: "لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي"، وكان يمدّ يده، مثل حمامة نوح، للإسرائيليين. وها هو ترمب يريد تهجير الحمام في غزة، فإلى أي سماء يطير الحمام؟ ترى متى تأتينا الحمامة بغصن زيتون من سوريا وفلسطين ولبنان؟
أطيل الوقوف في الساحة وأستمع إلى أغنية أخرى لحليم الرومي:
يا حمام
يا مروّح بلدك متهنّي
خليني أنوح وأنت اللي تغنّي
آه يا حمام
آه يا حمام
كأننا اعتدنا أن نلقي بثقل همومنا على كاهل الحمام، فينوح الحمام. قلّما سمعتُ الحمام ينوح في برلين. ربما ارتبط النواح بالسلالات التي تعيش في عالمنا العربي فحسب، وفي سوريا على وجه التحديد، ويبدو أن الأمر طاعن في القدم حتى ينشد أبو فراس الحمداني في سجنه:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارة هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى ولا خطرت منك الهموم ببال
أيا جارة ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غالي
وحتى يكتمل الشجن واللوعة يغني ناظم غزالي العراقي هذه الأبيات ويختمها بجملة عراقية تكسر القلب "معلّم على الصدعات قلبي". وكأن صوت ناظم غزالي الشجي لا يكفي لإثارة حزن جارف في قلوبنا، وكأنّ ما فيها من جمل لا يكفي حتى يتهشم قلبنا تحت مطرقة الحب والهجر.
- هل تحبين الحمام المحشيّ؟
باغتني سؤال صديقتي المصرية، وأجبتها بحدّة: لا...لا أتصور أنني قادرة على رؤية حمامة مذبوحة، فكيف لي أن آكلها؟ ضحكت صديقتي وقالت: بمَ تختلف الحمامة عن الدجاجة؟
لم أجد جوابًا منطقيًا لسؤالها. صمتُّ وتذكرت تهويدة فيروز "يلا تنام يلا تنام تدبحلا طير الحمام... روح يا حمام ما تصدق بضحك ع ريما تتنام". كيف لطفل أن ينام على تهويدة تكافئه إذا نام بذبح الحمام ويستهجن طبق الحمام المحشي؟ ربما من دون وعي أرعبتني الفكرة وكتبتُ نصًا:
أفرُّ
حمامة
حمامة
من شجرة العائلة.
/
الصباح
يفتح لي نوافذ المدينة
/
كان عليّ
أن أؤوب مبكرًا
كي لا يذبحوا الحمام
/
طر أيها الحمام
طر أيها الحمام
قبل أن يقفل المساء أقفاص المدينة.
أجلس على الأدراج النازلة إلى الساحة الرئيسية، ويخطر في بالي أن أكتب رسالة حُبّ وأعلقها بساق حمامة وأرسلها، لا أعرف لمن. فلآمل أن تقع في يد شخص يجيد العربية... يقرأها ويقع في غرام امرأة لا يعرف عنوانها، ويرسل مع الحمامة ردًّا على رسالتي يقول فيه:
بس تفرحي بيطير من صدري الحمام
بس تزعلي
ع مصر باخدلك الشام.