حين "لم نعد نحتمل"

كيف نصمد في غزة ولا شيء فينا قادر على المقاومة؟ كيف نثبت ونحن نواجه الإبادة؟ كيف نبقى وقد تُركنا وحدنا؟

صدقًا، وبكل صراحة، لم يعد أحد في غزة صامدًا. جميعنا نتداعى، جميعنا تهالك، ولم نعد كما كنا. هُزمنا مرات كثيرة، وكنا ننهض. كنا نُقنع أنفسنا أننا ما زلنا نملك القدرة على الوقوف من جديد، لكن الآن شيءٌ ما شلّ حركتنا بالكامل. لا نقوى على الوقوف، ولا نملك ما نتشبث به لننهض أصلًا.

أمس، كنتُ أحدث صديقي في مدينة غزة، أرجوه أن ينزح إلى الجنوب، بأي وسيلة، بأي طريقة، وقلت له صراحة: "لا تحدثني عن الصمود، ولا عن الوطنية الآن. لا نفع لكل هذا إن متَّ. لأجل زوجتك وأطفالك، عليك أن تخرج، أن تنجو".

لكنّه صدمني برده. قال بصوت شعرت أني أسمعه من عمق الحفرة: "أنا مش صامد يا مالك، أنا ما فيش معي أنزح، ولا فيَّ حيل حتى. وهيني تصاوبت، وزوجتي وأولادي لحالهم في الصبرة". 

لم تصدمني إصابته بقدر ما صدمني اعترافه. صديقي، الذي كان آخر من تبقّى من صوت الشمال خلال الاحتلال البري الأول، أحد الذين ظلوا يعززون صمود الناس هناك، يعايرني دومًا بأنني هربت إلى الجنوب بينما هو صمد. اليوم، لم يعد يتحدث عن صمود، بل يناجي النجاة.

كبُرت ابنتي "أيلول"، وصرت أراها في عمري عندما كنتُ أسخر من مبرّرات جدي وأبي، ومن الجيل الذي عاش "النكبة" و"النكسة". كنتُ أقارن، أجادل، أقول بثقة مراهقة: "لو كنت مكانهم، ما خرجت من الأرض إلا ميتًا!"

لكن الآن، وأنا أرى ما نعيشه في غزة، صرت أُشبههم. لم يعد ما قلته يومًا منطقيًا. لم تكن المسألة ضعفًا ولا خيانة، بل شيئًا آخر غير مفهوم، أقل وصف له "قهرٌ لا يُطاق".

أسأل نفسي: هل سيسخر حفيدي من تبريراتي كما سخرت أنا من جدي؟ هل سيُصدقني إن قلت له إنني فعلت ما لم يفعله أحد على هذا الكوكب؟

إن كُتب لهذا الشعب نافذة نجاة، فصدقوني، لن يفوّت أحد هذه الفرصة

لا أدري. لكنّي أعلم تمامًا أنه إن سألني عن غزة، سأقول له: "تشبثنا بها حتى الجذور، ولم نخرج إلا اقتلاعًا، لا طوعًا. أُجبرنا على الرحيل. أحببناها كما لم يحبها أحد قبلنا، ولا بعدنا. حاولنا البقاء حتى آخر رمق. عشنا فيها مدمرة، نرى الركام ولا نرى الحياة. وحين رحلنا، بكت علينا ما تبقى من صوامع المساجد، وأجراس الكنائس التي لم تعُد تدق، وشرفات البيوت المدمرة المهجورة، وجدرانها العتيقة المحترقة. ودّعناها كما تُودّع الأم أبناءها. نزفنا معها ونحن نقرأ الوداع. من كان يدري أن الركام يمكن عناقه عند الرحيل؟". 

كل شيء بات واضحًا اليوم. السردية التي كانت تقول إن "الإسرائيلي لن يتمكّن من اقتلاعنا"، وإننا "سنظل صامدين مهما حصل"، لم تعد صالحة للزمن الحالي. وربما لم تكن صالحة من الأصل، ولربما كانت خديعة.

كيف نصمد ولا شيء فينا قادر على المقاومة؟ كيف نثبت ونحن نواجه الإبادة؟ كيف نبقى وقد تُركنا وحدنا، لا ناصر لنا ولا مجيب؟

كل غزة كربلاء. كلنا نحترق. كلنا الحسين، وكلهم يزيد. كلنا يوسف، وكلهم إخوته. وإن كُتب لهذا الشعب نافذة نجاة، فصدقوني، لن يفوّت أحد هذه الفرصة. الناس ستهرب، لا لأنها لا تحب غزة، بل لأنها لم تعد قادرة على ممارسة الموت أكثر من ذلك.

ما يجري ليس صمودًا، بل شيءٌ آخر لم نعد نملك اللغة لوصفه. لكنّ المؤكد أن نهايته ستكون التهجير، والكارثة أن العالم يريده طوعيًا. ولهذا يجب وقف هذه الإبادة بأي ثمن.

وبرغم كل شيء، ما زلت على يقين: يا غزة، يا حبيبتي، إن الله لن يتركنا. سيلعن هذا الكون لأجل كل غصّة، لأجل كل دمعة، وسيردّنا إليك.

وسنعود، وسنعانق ركامك كما لو أنه وطنٌ حي. وسنزرع في أنقاضك أول زغرودة، لأجل كل شهيد صمد، وصمت، ورحل.

غزة القديمة... الظهر الأخير

صوت أمي في غزة يمزق صدري: "وين نروح يما؟". سؤال أكبر من العالم كلّه لا أجد له جوابًا.

مالك الشنباري
رسالة من مواصي خان يونس

ستصل إلى الخيمة كل يوم متعبًا، مثكلًا بالهموم. تتمايل كشرائطها البالية المهترئة. وبصراحة، أنت هكذا محظوظ...

مالك الشنباري

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة