من عكرمة إلى فاطمة إلى مار الياس: الوحش واحد

ليس أشد رعبًا من التذكير بواقعةِ إلّا التذكيرُ باحتمالية تكرارها، فالموجبات كلها متوافرة في طول سوريا وعرضها اليوم، إذ يمكنك، أينما ولّيت وجهك، أن تصادف "أبا نمرٍ" غاضبًا من تقاعس رفاق السلاح.

تشرين الأوّل/أكتوبر 2014، عكرمة

كان المشهد وحشيًا. مرعبًا. جلستُ أطالع العواجل. تعداد الضحايا في ازدياد. والنبأ، لغويًا، جرت صياغته كما يلي:

"تفجير إرهابي جرى تنفيذه على باب مدرسة عكرمة المخزومي في حمص، وراح ضحيته شهداء كثر، غالبيتهم من الأطفال".

أمّا صدى اللغة، فكان أقربَ إلى "هذه من علامات القيامة".

تفجير ثانٍ، استهدفَ من يحاولون إسعاف جرحى التفجير الأوّل.

"المرصد السوري لحقوق الإنسان" وصل إلى حصيلة نهائية: إحدى وأربعون ضحية، كلهم أطفال، تتراوح أعمارهم بين ستِّ سنوات وتسع، بالإضافة إلى أربعة مدنيين وثلاثة عناصر من مرتّبات قوى الأمن الداخلي.

واحدٌ وأربعونَ طفلًا. واحدةٌ وأربعون فاجعة تسبّب بها فكرٌ أقنع ذكرين اثنين أنّ حصد أرواح أطفالٍ ينتمون إلى بيئة "حاضنةٍ لنظام بشّار الأسد" سيفتح لهما أبواب الجنّة ويمهّد للقاءٍ طال انتظاره مع الحوريّات.

الوحشُ الذي أسّس للكارثة ربّما كان نصًّا، أو فتوى، أو شيخًا يُقاس واجب طاعته بطول لحيته، وليس أشدّ رُعبًا من التذكير بالواقعةِ إلّا التذكيرُ باحتمالية تكرارها. فالموجبات كلها متوافرة في طول سوريا وعرضها اليوم، إذ يمكنكَ، أينما ولّيت وجهك، أن تلتقي مع نصٍّ يحرّض على القتل، أو أن تشتبكَ مع فتوى تُحلّل ذبحَ جماعةٍ بحالها، أو أن تقع في مشكلةٍ يَقولُ لك عناصر الأمن العام، المنتشرون في الشوارع، إنّ حلها يستوجبُ العودة إلى "الشيخ".

كانون الأوّل/ديسمبر 2016، فاطمة

كان يومًا عاديًا. أخباره عادية. سوريّون يَقتلون ويُقتلون. مفردات دورية: عصابات إرهابية، شبّيحة، مندسّون، صهيو ــــ أميركيون، وما إلى ذلك من قاموس المرحلة في الشام.

ثم وقع ما كنت وما زلت أصفه بـ"خلاصة أن تكون وحشًا".

لغويًا، جرت صياغة النبأ كما يلي:

"طفلتان تفجّران نفسيهما في مخفر حيّ الميدان / دمشق".

أمّا صدى اللغة، فكان صراخًا لا يهدأ في رأسي، أسئلة تتزاحم مثلَ جبهاتٍ تُطلق النار على بعضها وعليّ.

"كيف؟ كيف قامتا بذلك؟ كيف سُمِح لهما أن تقوما بذلك؟ كيف تم إعدادهما لتقوما بذلك؟".

شاءت الصدفة أن كنتُ في الطابق الثاني من مبنى جريدة "السفير" حينها. طلبت منّي الزميلة جوزيت أبي تامر أن أكتب مادةً تغطّي الجريمة.

بحثت وأجريت ما تيسّر من اتصالات حتّى حصلت على رواية تبدو منطقية لجهة تسلسل الأحداث، لكنّها لا تمتُّ إلى المنطق بِصلةٍ لجهة قدرتي على تصديق ما جرى، والسردية كوّنتها ثلاثة فيديوهات.

الفيديو الأوّل:

فاطمة/ 9 سنوات، برفقة شقيقتها إسلام/ 7 سنوات، بعباءتين سوداوين، يتوسطهما والدهما المدعو "أبو نمر"، داخل غرفة تظهر في صدرها رايةٌ جهادية.

يوجه الأخير خطابه لابنتيه مرّة، وللكاميرا غير مرة، متحدثًا، بنشوة، عن فاطمة وإسلام الذاهبتين لتفجير نفسيهما بالـ"كفّار" انتقامًا لأهل حلب، معبرًا عن غضبه من رفاق سلاحه الذين خرجوا من المحافظة بالـ"باصات الخضر"، مفاخرًا بقدرة طفلتيه على القيام بما عجزَ عنه الرجال.

مفهوم المواطنة يبدو أقربَ إلى سبحةٍ لا يتوقف المسؤولون عن التلويح بها، حين يوجّهون خطابهم إلى الخارج

الفيديو الثاني:

تنكبّ والدة الطفلتين عليهما معانقة مودّعة. بثياب ملونة وقبعات صوفية، يبدو مظهر الفتاتين أقربَ إلى "نموذج الطفلة السورية".

"جواري أمّة محمّد". هكذا يسمّيهما الأب، ثم يسأل عن شجاعة زوجته في إرسال ابنتيها لـ"الجهاد"، فتجيبه الأخيرة بصوت خفيض "الجهاد فرضٍ على كلِّ مسلم، كبير، صغير، نساءً، رجالًا".

تمضي الفتاتان وسط تشجيع والدهما "تقدّموا بابا تقدّموا، اغزوا في سبيل الله، قاتلو من كفر بالله، الله يتقبّل منكم يا بابا".

الفيديو الثالث:

يظهر عبد الرحمن شداد، والد فاطمة، وحيدًا، مسلحًا بخنجر وبندقية، شارحًا، بابتسامة رضا لا تفارق وجهه، ملابسات ما جرى، موضحًا أنّ ابنته كانت قد وصلت إلى فرع منطقة باب مصلّى مرتين اثنتين، لكنها لم تنفّذ العملية لأنها وجدت عنصرًا واحدًا فقط في سرية الحراسة، لتغيّر وجهتها نحو قسم الميدان، وتفجر نفسها وسط الشرطيين وتهزّ المخفر والشام كلّها على وقع الخوف.

ليس أشد رعبًا من التذكير بالواقعةِ إلّا التذكيرُ باحتمالية تكرارها، فالموجبات كلها متوافرة في طول سوريا وعرضها اليوم، إذ يمكنك، أينما ولّيت وجهك، أن تصادف "أبا نمرٍ" غاضبًا من تقاعس رفاق السلاح. مجازر الساحل السوريّ عرّفتنا على نماذج مشابهة، تقول الحكومة إنّها تنتمي إلى "فصائل غير منضبطة". عشرةٌ من هؤلاء، تحرّضهم منظومتهم الفكرية والعقائدية على تحويل بناتهم وأولادهم إلى قنابل موقوتة تتجوّل بين الناس، قادرون على تحويلنا، كلنا، إلى شهداء محتملين.

حزيران/يونيو 2025، مار الياس

خوفٌ على مدار الساعة. دمٌ على الجدران، وزجاج متناثر على الإسفلت. أمهات تتلوّى في الشوارع. فرقُ إسعافٍ تشقى للتعامل مع الفاجعة. عبارة "الشهيد / أشلاء" المكتوبة على تابوت ملفوفٍ بعلم البلاد. ذاكرة الخوف تستدعي هذه المشاهد وسواها بُعيد نبأ جرت صياغته، لغويًا، على الشكل التالي:

"عملية انتحارية استهدفت كنيسة مار الياس في حي الدويلعة، محيط دمشق، نفذها مجهولان".

أمّا صدى اللغة، فكان جملةً أعتقدُ أنّها تداعب ذاكرة كلّ من عاش تلك المرحلة و"نجا":

"باب حقبة الرعب والموت العشوائي فُتِح مجددًا".

خمسةٌ وعشرون شهيدًا، وما يزيد عن عشرين جريحًا، هو التقدير الأوّليُّ لضحايا العملية التي أكدت وزارة الخارجية السورية، استناداً إلى تحقيقات أوليّة، أنّ منفّذيها ينتمون إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).

إعلام السلطة، عبر واجهته، قناة الإخبارية السورية، عوّم خطابًا مفاده أنّ فلول النظام هم من نفذوا العملية على سبيل القصاص من المسيحيين لأنّهم رفضوا الانضمام إلى ما سمّاه أحد الضيوف "حلفَ الأقليّات".

وزير الداخلية، أنس خطّاب، كشف، ومن خلال سلسلة تغريدات على حسابه في منصة "إكس"، تفاصيل عملية محكمة استهدفت الخلية التي نفذت العملية، ما أدّى إلى القبض على متزعمها، ومعهُ خمسةٌ من أعضائها، إلى جانب مقتل اثنين آخرين.

مجموعة "سرايا أنصار السنّة" تبنّت العملية، عبر منشور في قناتها على "تلغرام"، وزعمت أنّ مُنفّذها يدعى "محمد زين العابدين أبو عثمان".

وجهات نظرٍ موازيةٌ تعتبرُ أنّ جزءًا من الشارع الموالي للسلطة ناقمٌ على محاولات انزياحها عن لبوسها الجهادي الأصيل، الأمرُ الذي دفع فريقًا من هؤلاء إلى ترهيب الحاكمين كي يعودوا إلى "جادة الصواب".

بينَ "داعش" و"الفلول" و"سرايا أنصار السُّنّة" وبطانة السلطة نفسها، من ارتكب الجريمة؟

التحليل السياسي المُستنِدُ إلى عقلٍ باردٍ في شرقٍ أوسطَ وعالم كلّه يغلي، يبدو أقربَ إلى التنجيم منهُ إلى قراءة المعطيات وفهمها.

في واقع الأمر، الاحتمالات كلها واردة، لكنها، كلها، تصبُّ في خانةِ وحش واحد: نمط التفكير.

الوحش الذي وقف خلف العمليات الانتحارية، وسواها، واحد، تتبدّل هوية مشغّليه لكنّه يصبُّ، أوّلًا وآخرًا، في خانة التفكير الراديكالي

ما دورُ السُّلطة؟

إذا أرادت أن تحذف نفسها عن قائمة "المُجرمين المحتملين"، فإنّ على سلطة الأمرِ الواقع في دمشقَ أن تكفَّ عن لعبة المواربة فيما يخصّ هويتها، إذ لا تجد مسؤولًا واحدًا قادرًا على الإجابة عن سؤالٌ يخصُّ النموذج الذي يقترحه الحاكمون لتسيير شؤون البلاد، فهو ربعُ إسلاميٍّ معتدل، وربعُ إسلامي متشدد، وربع مدنيّ يضع السوريين على عتبة واحدةٍ في الحقوق والواجبات، وربعٌ ممّا ما سبق كلُّه.

مفهوم المواطنة يبدو أقربَ إلى سبحةٍ لا يتوقف المسؤولون عن التلويح بها، حين يوجّهون خطابهم إلى الخارج. لكنهم، وبالتوازي، يقفون شبه متفرجين، وأكثر من متفرجين، أحيانًا، حين يتعلق الأمرُ بأعلام تنظيم "داعش" التي تباع في سوق الحميدية، وبالسيارات الدعوية التي تجوبُ الشوارع محاولةً أن تُهديَ السوريين إلى الدين الحنيف، وبـ"الشيخ" الذي اكتشفنا أنّه المرجع الرئيس لعناصر الأمنِ العام الذين لا يترددون في سؤال رجلٍ عابرٍ عن هوية الفتاة الجالسة إلى جواره، وبصلاة الجماعة التي تُقام في حرم دار أوبرا دمشق، وكأنّ المساجد ضاقت على عباد الله، وبالخطاب الطائفيِّ الذي يجتاح مواقع التواصل الاجتماعي دون حسيبٍ أو رقيب، ناهيك عن انشغال الحكومة بإغلاق البارات، بالاستنادِ إلى ذرائع بيروقراطيةٍ، وانصرافها إلى ثانويات مثل صراع البكيني والبوركيني في وجوب ما يمكن ارتداؤه على الشواطئ العامة.

ربّما تكون حكومة الشرعِ بريئة من التفجير الذي طالَ كنيسة مار الياس، لكنها تتصرّف كمن يقول للسوريين:

"أرجوكم، أنا متهمةٌ أيضًا، لا تغفلوا ذلك".

الوحش الذي وقف خلف العمليات الانتحارية سابقة الذكر، وسواها، واحد. تتبدّل هوية مشغّليه لكنّه يصبُّ، أوّلًا وآخرًا، في خانة التفكير الراديكالي الذي تحاول سلطة الرئيسِ الشرعِ أن تتنصّل منه وتنسلخَ عن ماضيها المرتبطِ به، والقضاء على هذا الوحش يستوجبُ التعامل مع بيئته الحاضنة، الأمرُ الذي يمكنُ أن يتمَّ من خلال خطواتٍ كثيرة. لكنّ الأكيدَ أنّ ترك البلادِ مفتوحةً على التعديات، سابقة الذكر، والتي يرفضها جزءٌ يسيرٌ من السوريين، اليوم، ليس واحدةً منها.

اللاجئون السوريون: عن "النّار بالنّار" ومساحتنا البيضاء

نلعب في مساحة بيضاء ضيّقة يحاصرها إعلام تحريضي هائل يشتغل على شيطنة اللاجئين من ألف زاوية. وهذا الحقنُ سي...

رامي كوسا
من صاحب هذه الأغنية؟

نتناول هنا مظلومية الصنّاع الذين تقتصرُ مدخولاتهم على "القطفة الأولى" كـ"ثمنٍ للكلام واللحن"، علمًا أنّ  ...

رامي كوسا
عن العروبة وأفلام الكرتون

شيئاً فشيئاً، اتسعت دائرة الوعي، وبدأت أفهم منطق التاريخ وحركة الانقلابات وضرورات المرحلة. وندمت على قطيع...

رامي كوسا

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة