
منذ انهيار حكم الأسد، وفي ظلّ غياب شبه تام للنشاط السياسي أو الإنتاج النظري، بدأت مخيالات كبرى تبرز وتتصدّر المشهد السوري. تحاول هذه المخيالات الإمساك بلحظة تبدو عصيّة على الفهم، فتمنحها أطرًا رمزية لشحنها بالمعنى. فهناك من يصف المرحلة بالأموية، مستحضرًا سرديات النهوض الإسلامي، فيما يصفها آخرون بـ"الهمجية"، في إشارة إلى ما رافقها من عنف وفوضى. وفي المقابل، يذهب فريق ثالث إلى عدّها مرحلة انتقالية ضرورية، يطلق عليها "ما بعد أسدية" أو "ما بعد بعثية"، بوصفها لحظة مفصلية تبشّر ببداية حقبة جديدة تتجاوز الاستبداد. نحن، إذًا، أمام نوعين من المخيالات: مخيالات ما ـــ قبْلية وأخرى ما ـــ بعدية.
يضيع بين النكوص إلى ماضٍ سحيق، والتمسك الصلب بالحاضر، ذلك الماضي الأقرب، الذي ليس ببعيد تمامًا ولا قريب، لكنه الأشد تأثيرًا وفاعلية. فبين قطبٍ ما قبْليٍ يرى في التاريخ استمرارية واحدة، وقطب مابعديٍ لا يرى إلا القطيعة، يُهمَّش تاريخ المنطقة الحديث الذي لا يبدأ بالاستبداد الأسدي، الاستعمار، أو الاقتتال الطائفي ولا ينتهي بها، وتُهمَّش الحداثة لا بوصفها لحظة تاريخية أعادت تشكيل البنى السياسية والاقتصادية والمعرفية، بل من حيث أثرها العميق على تكوين الذات نفسها، وقدرتها كبنية انعكاسية على إنتاج الرموز والمخيالات.
لقد خرجت الذات الحداثية من بنى تستند إلى الصور والأساطير إلى عالم رمزي، دخلت فيه الثقافة كوسيط مركزي. وهذا يُحتم علينا التفكير في الثقافة بشكل مغاير لما فرضته علينا بعض التيارات الفكرية اليسارية السائدة: فليس كل حديث عن الثقافة هو حديث "ثقافوي"، وليست كل "لاجوهرانية" نزعًا للجوهرانية، ولا كل تناول للأيديولوجيا هو حديث "أيديولوجي"، بل ربما تغدو الثقافة والأيديولوجيا والمخيال كمساحات داخلية للحركة والنقد، ويجدر بنا ألّا نرفض الخوض فيها بحجّة أنها أيديولوجية أو متخيّلة.
ولعلّ أشهرها مخيال "الأموية"، إذ تنبثق مقولة "الأموية" كرمز يرى في السنية نقيضًا للشيعية. ومن خلال هذا الاستخدام، يُستدعى منطق تاريخي قديم يسعى إلى بناء سردية استمرارية متخيّلة، يُصوَّر فيها الحضور السني اليوم على أنه انتصار على الحضور الشيعي. هذا يعكس مخيالًا سياسيًا متشكِّلًا، إلا أن الإشكالية تكمن في اختزال هذا المخيال إلى أسطرة البُعد الطائفي، مع إغفال الأبعاد الأخرى.
لا تمثل اللحظة الأموية في هذا المخيال مجرّد إحالة إلى الدولة الأموية، بل تشير إلى رمزين: الأول هو تحلُّل المسيحية الشرقية مع قيام الدولة الأموية في القرن السابع، والثاني هو إنهاء الوجود الإسلامي (الأموي) في أوروبا في القرن الخامس عشر، وبداية تشكّل الحداثة الغربية. وعليه، حين تُستعاد "الأموية" في الخطاب السياسي المعاصر، فإنها لا تُستحضر كمرجع ديني فحسب، بل تُستدعى بوصفها ذاكرة فقد وانكسار حضاري، لحظة اندثار متخيَّل إسلامي شرقي تقابلها لحظة ولادة متخيَّل مسيحي غربي آخر.
من هنا، تنبع قوة هذا المخيال. ومن هنا، لم يكن اهتمام المستشرقين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتجربة الأموية مجرّد اهتمام عارض. وبرغم ما حفلت به بعض كتاباتهم من شطط وإسقاطات، فأهميتها تكمن في انتشال اللحظة الأموية من بعدها الأسطوري الديني، أي الما ــــ قَبْلي، وإعادة توطينها داخل سياقات اجتماعية وسياسية راهنة.
القائل بالهمجية يُعرَف بانطلاقه من رؤية مقارنة للحضارات، فيما القائل بالأموية ينطلق من رؤية عنيفة قائمة على صدام الحضارات
لم يَعُد "الاستشراق" مجرد خطاب أسطوري خارجي يصوغ الغرب من خلاله صورة عن الشرق، بل أصبح جزءًا من بنية رمزية تشكّل وعي الغرب بذاته كما تُعيد تشكيل وعي الشرق بنفسه. لقد تحوّل من تمثيل للآخر إلى شرط يصعب تجاوزه. ولذلك، فإن اجتثاثه الكامل لا يقود إلى التحرّر، بل إلى فراغ تأويلي. ويكفي أن أوائل ناقديه كانوا من المستشرقين، وأوائل مكرّسيه من النهضويين العرب، لتتأكّد استحالة تفكيكه من الداخل بالطريقة المعهودة من دون إعادة إنتاجه.
ارتبطت الدولة الأموية منذ نشأتها ببنية بدوية تُعد امتدادًا لأرستقراطية قريشية عربية، وهو ما بدا متعارضًا جزئيًا مع الطابع الكوني للإسلام في بداياته. وقد دفع هذا بعض المستشرقين إلى الحديث عن نزعة قومية عربية كامنة في المشروع الأموي.
عبّر هنري لامنس عن امتعاضه من هذا النموذج الذي عدّه أول تجربة بيروقراطية منظّمة في التاريخ الإسلامي، بينما أقر نولدكه بفاعلية الأمويين في بناء الدولة، وإن لم يُخفِ تحفّظه إزاء طابعهم القومي. هذه المواقف انطلقت من خشية مبطنة من العروبة، بوصفها طاقة ثورية يصعب احتواؤها، مقابل استقرار نسبي مثّلته روحانية الإسلام.
لاحقًا، تحوّل الاستشراق إلى التركيز على الخوف من الإسلام ذاته، خصوصًا مع التحوّل العباسي، حين انتقل الإسلام من طابعه العربي إلى طابع كوني، وانفتحت بغداد على الإرث الفارسي والساساني. رأى إغناس غولد تسيهر في هذا التحول لحظة مفصلية، إذ مثّلت حركة الترجمة والعلم بداية رُهاب الغرب من الإسلام بوصفه دينًا عالميًا.
هذا الخوف لم يظل نظريًا، بل ترسّخ في القرنين التاسع عشر والعشرين ضمن سياقات استعمارية واستغلال للانقسامات الطائفية. في هذا السياق، توقّع ألفونس دو لامارتين أن تحلّ القومية محل الدين في تشكيل الهويات السياسية، لكنه رأى أيضًا أن القومية ستفشل، وأن الدين سيعود بقوة، لا كتطور بل كعودة بنيوية.
كل ذلك يُستعاد اليوم ضمن مخيال أموي لا يقتصر على الرمزية الطائفية أو التوظيف السياسي، بل يعمل كتصور تخييلي يُسقِط على الحاضر رؤى ماضوية حول شكل الدولة، وحدود العلاقة بين الديني والقومي، وبين الشرق والغرب.
من مخيال "الأموية" إلى مخيال "الهمجية"، يصطدم المخيالان المتنازعان على الكونية والتاريخ، إذ ينتميان إلى بنى "ما ــــ قبْلية" تستدعي الروايات التأسيسية، مع إغفال شبه تام للتحولات التاريخية. فالمخيال "الأموي" يسعى إلى إعادة بعث الماضي وتخليص الحاضر من "الوثنية"، بينما يعمل مخيال "الهمجية" على توثين الماضي ذاته ليُبقي الحاضر في حركته. ويتموضع هذا المخيال غالبًا في أوساط غير سنّية، كالمسيحية الشرقية التي يشدها حنين إلى رمزية ماضوية، والشيعية التي تجد في شخصية علي كونيةً وروحانيةً تتجاوز خصوصية الإسلام العربي، وبعض التيارات اليسارية ذات النزعة الكونية التقدّمية التي تحمل في لاوعيها السياسي أثرًا من التاريخ اليهودي.
فالقائل بالهمجية يُعرَف بانطلاقه من رؤية مقارنة للحضارات، تستند إلى علم نفس الشعوب، ويحكمها توق روحي إلى ماضٍ هليني أو مسيحي، ويرتكز في تحليله على معادلة مفادها: "نقد المجتمع يقود إلى نقد الدولة ومن ثم إلى نقد الدين". أما القائل بالأموية، فينطلق من توق جسدي مفرط، تغلب عليه الرؤية العنيفة القائمة على صدام الحضارات، وهو توق وارث منفصل عن موروثه، يقوم على معادلة تثبيت المجتمع عبر تثبيت الدولة عبر تثبيت الدين.
لا يقوم المخيال على واقع دقيق، لكنه يحمل حقيقة ما ويُنتج واقعًا لا يقلّ واقعية
هنا يحضر الدين بتاريخيته كنص أو كروح. المسيحية هنا روح تقدمية تمثل جوهر الحضارة الغربية إما بحالتها المأساوية المسيحية أو بنسختها التفاؤلية اليهودية. وفي حين تبدأ الحضارة، في هذا المخيال، من لحظة مسيحية، يُقذَف كل ما هو خارج هذا الإطار إلى ما دون الحضارة.
في هذا السياق، تُستعاد ثنائيات كبرى مثل شرق/غرب، عقل/روح، وتقدّم/تخلّف، وتُقدَّم كأدوات لتمييز حضاري قائم على التراتب. في المقابل، تُقصى ثنائيات محورية مثل الحداثة وما قبلها. المفارقة أن هذين المخيالين الما ــــ قبليين، برغم إهمالهما الحداثة، يظلان مشروطين بها. فتوثين الثقافة ذاته هو نتيجة مباشرة لعقلانية الحداثة، كما أشار مارشال سالينز، ومن هنا وصفه كلود ليفي شتراوس بـ"الفكر البري"، لأنه يعيد إنتاج الأسطورة داخل بنية تُحسب عقلانية.
أما المخيال الثالث فهو مخيال ما بعد الأسدية. وبرغم مما يتّسم به من جدّة وعقلانية وصخب وحماسة، فإنه يظلّ الأضعف تأثيرًا بين المخيالات السورية المتصارعة، ويرجع ذلك إلى اعتماده على وضعية تطرح مساواة شكلية بين الجميع، وتغفل التشكلات التاريخية والرمزية، ما يحرمه من القدرة على توليد أفق سياسي ذي جذور أو زخم رمزي.
هذا المخيال يستند إلى رؤية نظرية متأثرة بالتنوير الفرنسي، تُقحِم الأخلاق في السياسة. يتجلّى الأثر الفرنسي في طغيان مقولات كبرى، تعكس "عمى تاريخيًّا" كثيرًا ما وُصِف به الفكر الفرنسي. ومن هنا، وبرغم نبل المقاصد، يعجز هذا المخيال عن تقديم سردية متماسكة للماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل؛ إذ يُقزّم التاريخ إلى لحظة حكم الأسد، ويُبسط الواقع إلى مواجهة أخلاقية بين خير وشر، كما يتعامل مع تعقيدات الصراع الإقليمي عبر شعارات لا تدرك الفروق الثقافية والسياسية بين الأطراف المتصارعة.
كذلك، فإن المفردات التي يعتمدها، كالحرية والكرامة والدستور، تحمل بصمة فرنسية واضحة، تختلف عن استعمالاتها في السياقات الليبرالية الأخرى، ما يكرّس نوعًا من العزلة الفكرية. وقد حاولت المعارضة السورية استثمار هذا النموذج، لكنها أخفقت في بلورته كمشروع بديل صلب، فتحوَّل إلى مخيال. ومع ذلك، لا يزال يستقطب بعض العلمانيين واللادينيين، لا لقوّته النظرية، بل لأنه لا يُقصيهم كما تفعل المخيالات الأخرى التي تنطق باسم التاريخ. فنراه منتشرًا بين أقليات هُمِّشَت أو اضطُهِدَت كالدروز والإسماعيليين والكُرد، الذين لم يجدوا موطئ قدم في المخيالات الإقصائية السائدة، فوجدوا فيه مساحة للتعبير عن ذواتهم.
في النهاية، لا يقوم المخيال على واقع دقيق، لكنه يحمل حقيقة ما ويُنتج واقعًا لا يقلّ واقعية. يبقى المخيال، في جوهره، علاقة متغيرة، ما كان لها أن تصاغ بهذا الشكل لولا دخولنا في لحظة الحداثة الثقافية والرمزية، التي لم تقطع تمامًا مع ما سبقها، ولا دشّنت بداية جديدة لما تلاها.
ومن هذا المنظور، يمكن لتفجير كنيسة في دمشق أن يُقرأ بما يتجاوز الصراعات الطائفية والدينية المباشرة، ليحمل دلالات قومية وتاريخية تتكثّف في مخيّلة الفاعل نفسه. ومع أن هذا الفعل يُوظَّف ضمن سرديات إسلامية متطرفة، تذكرنا الصراعات المخيالية، كما تشكّلت في مخيلة الذات الحداثية، بأن التفجير الانتحاري فعل حديث وحداثي جدًا، لم يكن جزءًا من الفقه الإسلامي التقليدي.
في الواقع، أوّل من نفّذ هذا النوع من العمليات كانت حركة نمور التاميل في سريلانكا، وكان من أشهر هذه العمليات اغتيال رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي، في سياق حرب قومية، انفصالية، غير دينية.