"عندما انهار منزلي بسبب القصف، شعرت أن جسدي انهار معه. لا أعرف كيف أصف شعوري اليوم. أشعر أن بيتي يؤلمني". نقلت زميلة لي هذا الكلام عن أحد من فقدوا منازلهم خلال الحرب. لا يقتصر فقدان المنزل على الخسارة المادية، بل هو فقد نفسي أيضًا. لا يُقتلع الناس من بيوتهم فحسب، بل من شعورهم بالأمان، من ذواتهم، ومن استمرارية حياتهم.
في الحرب الأخيرة في لبنان، شُرّد عشرات الآلاف من منازلهم، وقُدّر عدد الوحدات السكنية المدمّرة كليًا بنحو 40,000 وحدة. لكن ما خلّفه الدمار لم يكن مجرد ركام، بل ذاكرة متشظيّة.
ليس مجرد مأوى
يمثّل البيت، منذ أن وُجد، حدًّا فاصلًا بين "الداخل الآمن" و"الخارج المهدّد"، بين الخاص والعام، وبين الذات والآخر. ومع تطور الحياة، أصبح هذا الفصل أكثر تعقيدًا، فتحوّل المأوى إلى امتداد لهوية الأفراد وأنماط حياتهم. ولأن البيت أول مساحة بناها الإنسان، فهو تعبيرعن فاعليته في هذا العالم.
بهذا المعنى، يمكن القول إن البيت "مسرح للذات". كل تفصيل فيه، من الألوان إلى توزيع الغرف، يعكس تفضيلات الشخص ومزاجه وعلاقاته. البيت الحديث يُقرأ كالنص، إذ يحمل دلالات عن أصحابه: ما يحبونه، ما يقدّسونه، كيف يوازنون بين الفوضى والانتظام، وبين الانفتاح والانغلاق...
يرتبط المنزل ــــ كما يقول مؤسس علم النفس سيغموند فرويد ــــ بالشعور بـ"الألفة" (Heimlich). أما نقيض الألفة (Unheimlich) فيتمثل في كل ما يهدد هذه المساحة.
وفي علم النفس الوجودي، يُنظر إلى البيت بوصفه امتدادًا للذات، كما لو أنه جلد يحمي النفس من التهديدات الخارجية. عندما يعيش الإنسان في بيته، فإنه لا "يكون فيه" فقط، بل "يكون من خلاله" أيضًا.
أما من منظور علم النفس التنموي، فإن البيت يشكل التجربة الأولى للانتماء. إنه أول مكان نتعلم فيه الثقة والحب والاحتواء.
وفي مجتمعاتنا العربية، يأخذ البيت بُعدًا إضافيًا. فهو ليس مساحة شخصية فقط، بل رمزًا للعائلة، والشرف، والاستقرار الاجتماعي. بالتالي، لا يعني تدمير المنزل تشريدًا فحسب، بل نوعًا من الإهانة أو "الفضيحة الجماعية".
عندما يتحول الأمان إلى رماد
حين يُفقد البيت بسبب كارثة طبيعية أو نزاع أو نزوح قسري، نكون أمام ما يمكن تسميته بـ"الصدمة المكانية" (spatial trauma). هذه الصدمة تتجاوز الحزن التقليدي، لأنها تُفقد الإنسان شعوره بالانتماء والتحكّم، كما تغيّر من ذاكرته الحسية وروتينه اليومي لتعيده إلى حالة نفسية بدائية من التهديد الوجودي، كأنه عاد إلى ما قبل الكهف، حيث لا مكان له في العالم.
بكلام آخر، لا يواجه الفرد التحدي المادي المتمثل بإيجاد مأوى بديل فقط، بل يتعرض لانهيار رمزي يثير مشاعر الفقد والاغتراب والعجز، مما يخلق بيئة خصبة لظهور اضطرابات نفسية أو تفاقمها. من هنا نفهم كيف أن الصدمة البيئية (environmental trauma) أصبحت مفهومًا مركزيًا في علم النفس الإكلينيكي، خصوصًا في مناطق النزاع والكوارث.
تبدأ إعادة ترميم النفس أولًا بالاعتراف بالخسارة: خسارة المكان، وخسارة المعنى المرتبط به، ثم تأتي الحاجة إلى خلق "بيوت بديلة"
انهيار المنزل هو أيضًا انهيار للحصن النفسي الذي يعتمد عليه الفرد للموازنة بين الداخل والخارج. فالبيت يمنح إحساسًا بالتنظيم، بوجود بداية ونهاية لليوم، مكان مخصص للنوم، للأكل، وللتفكير. هو الإطار الذي نُسقِط عليه شعورنا بالسيطرة، وحين يُفقد، يحدث ارتباك داخلي يُشبه ضياع البوصلة، ويُصاب الشخص بحالة من الانكشاف والعري النفسي، كأننا نُجرد الإنسان من قصته، من "نصّه" الشخصي الذي كان يُعيد قراءته كل يوم دون أن يدري.
يُدرَج السكن ضمن الاحتياجات الأساسية في "تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات" (Maslow's hierarchy of needs). فبعد الحاجات الفيزيولوجية كالطعام والماء، تأتي الحاجة إلى الأمان. والبيت هنا هو تجسيد مباشر لتلك الحاجة. فإذا كان المكان الذي يجسد الأمان قد اختفى، كيف يمكن أن يُعتبر أي مكان آخر آمنًا؟
تُظهر الأبحاث أن فقدان البيت من العوامل الأساسية في تطور الاكتئاب، واضطرابات القلق، واضطراب الكرب ما بعد الصدمة (PTSD)، علمًا أن معدلات انتشار الاضرابات النفسية في لبنان كانت مرتفعة حتى قبل الحرب. ففي دراسة لبنانية أُجريت عام 2022 على عينة من 1000 شخص، تبين أن %49 منهم يعانون من الاكتئاب، و%43.5 من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.
يُعتبر اضطراب الكرب ما بعد الصدمة (PTSD) هاجسًا للعاملين في حقل علم النفس في المجتمعات التي عايشت حروبًا، بسبب انتشاره وخطورته. فهو استجابة نفسية معقدة للأحداث المؤلمة التي تتجاوز قدرة الفرد على التكيف معها.
عندما يتعرض الشخص لمواقف صادمة، مثل فقدان المنزل في سياق الحرب أو النزوح، تتداخل العوامل النفسية والجسدية بشكل يجعل تجربة الفقد تستمر لفترة طويلة بعد وقوع الحدث. في حالة PTSD، تصبح الأشياء التي كانت في الماضي مجرد محيط طبيعي جزءًا من محفزات قوية لذكريات مؤلمة، تُعيد الشخص إلى اللحظات العصيبة من الماضي بطريقة لا يمكنه التحكم بها.
الأصوات مثل دوي القذائف أو أصوات الدمار قد تثير الذكريات المؤلمة وتسترجع مشاعر الخوف والتوتر المرتبطة بتلك اللحظات. الروائح، مثل رائحة التراب أو الحريق، قد تثير أيضًا هذه الذكريات. هذه المحفزات تنتج مشاعر قهرية ومرهقة، تجعل الشخص يشعر كأنه يعيش اللحظات الصادمة نفسها مجددًا، بحيث لا يستطيع الهرب منها أو التغلب عليها. ويتكرّر هذا من خلال الكوابيس أو استرجاع تلك اللحظات في اليقظة بشكل مفاجئ، مما يؤثر على جودة الحياة اليومية.
كيف نعيد بناء الأمان؟
هناك خطوات يمكن اتباعها لتسريع مجرى التعافي والتقليل من الوطأة النفسية للحادثة المسببة للصدمة. تبدأ إعادة ترميم النفس أولًا بالاعتراف بالخسارة: خسارة المكان، وخسارة المعنى المرتبط به. ثم تأتي الحاجة إلى خلق "بيوت بديلة"، حتى لو رمزية. كما تلعب التدخلات النفسية والاجتماعية دورًا حاسمًا في إعادة بناء شعور الشخص بالسيطرة، وبالقدرة على تكوين موطن جديد داخليًا، وسط واقع خارجي غير مستقر.
في كثير من الأحيان، يُنظر إلى التماسك بعد المصائب كقيمة أخلاقية، ما يدفع الكثيرين إلى إنكار مشاعرهم أو كبتها. لكن إنكار الخسارة لا يلغي الألم، بل يجمّده ويحوّله إلى أشكال غير مباشرة من المعاناة: قلق مزمن، أو أرق، أو اضطرابات جسدية نفسية (somatization)، أو حتى اكتئاب مقنّع.
لا يقتصر مفهوم البيت البديل على ما هو مادي فحسب، بل قد يكون طقسًا أو روتينًا يوميًا
لذلك يجب السماح للذات بالحزن وبالشعور بالضعف دون خجل، لأن هذه المشاعر ليست نقيضًا للقوة، بل أحد وجوهها. فالصمت قد يتحوّل إلى عُزلة داخلية. من هنا يأتي دور التشجيع على التنفيس، لا من باب الشكوى، بل من باب المعالجة النفسية الذاتية. فالكلام عن الألم يُفرغه من قدرته التدميرية. وعندما يُشارك الإنسان تجربته مع شخص موثوق، فإنه يعيد ترتيب الفوضى التي في داخله، في صورة سردية يمكن فهمها واحتمالها. وهذا بحد ذاته خطوة نحو الشفاء.
يشدد علماء النفس على أهمية استعادة الشعور بالاستقرار لمواجهة الآثار النفسية لخسارة البيت، وذلك من خلال التعامل مع المسكن الجديد على أنه بيتٌ للاستقرار لا مسكن مؤقت، ولو كان مؤقتًا فعليًّا. فتعزيزه بعناصر شخصية يساعد العقل الباطني على استقبال فكرة أن "هذا مكان يُمكنني أن أشعر فيه بالأمان"، والدماغ البشري يتفاعل مع الإشارات البصرية والعاطفية المرتبطة بالمكان لتطويع المساحة الجديدة وتحويلها من "غربة" إلى "احتمال انتماء".
لا يقتصر مفهوم البيت البديل على ما هو مادي فحسب. بل قد يكون طقسًا يوميًا، روتينًا صباحيًا، أو حتى لقاءً أسبوعيًا مع صديق مقرّب. هذه العناصر الصغيرة تُمثل نقاط تثبيت نفسية، تُخفف من شعور الانفلات.
وقد لا يكفي الاعتماد على القوى الذاتية فحسب. فالتدخلات من مختصين نفسيين تساعد على معالجة الصدمة مبكرًا قبل أن تتحول إلى اضطرابات مزمنة. كذلك تلعب مبادرات الدعم المجتمعي كاللقاءات التشاركية دورًا في خلق شبكة أمان تُخفف من الشعور بالعزلة، وتُعيد للفرد الإحساس بأنه "ليس وحده".
خسارة شخصية، وجُرح جماعي
عندما يُجبر الناس على النزوح، وتصبح خسارة البيت فقدانًا للذات والماضي، تكون المأساة جماعية. والواقع في لبنان يضاعف من هذه المعاناة. فالنظام الصحي النفسي في البلاد هش، وليس سهلًا الوصول إلى الخدمات النفسية. كما أن تكلفة هذه الخدمات تفوق قدرة الكثير من الأفراد، خصوصًا في ظل نقص التأمينات الصحية التي تشملها. هكذا، يجد المريض النفسي نفسه عالقًا بين قلة عدد الأطباء ومحدودية الموارد.
حين نتحدث عن إعادة الإعمار، علينا أن ندرك أن الأمر لا يقتصر على بناء جدران من جديد. بناء النفوس والذاكرة والانتماء هو شأن ملحّ أيضًا. وعملية إعادة الإعمار يجب أن تشمل الاستماع إلى آلام الناس، والعمل على إعادة بناء معنى الحياة الذي دمرته الحرب.