
بعدما حاول نظام الأسد دفن أصوات معارضيه الذين كانت أولى هتافاتهم "وينك يا سوري، وينك؟"، ارتفعت في السويداء في آب/أغسطس 2023 لافتة تقول: "هنا السويداء .. هنا سوريا"، فيما صدحت حناجر المئات في شوارع المدينة بهتافات مناوئة للنظام، حيث طالبوا باستعادة دورٍ حُرموا منه، كما حُرم منه أهالي سائر المحافظات: المشاركة في رسم مصيرهم السياسي.
لكنّ هذا المطلب سرعان ما تجاوز لحظته الآنية، ليطرح من جديد السؤال الأعمق حول طبيعة العلاقة بين السويداء وسوريا. فهل كان هذا الصوت تعبيرًا عن خصوصية مكان، أم امتدادًا لسؤال وطني لطالما سعى الطغاة إلى إسكاته؟
على مدى عقود، كانت علاقة السويداء بالدولة السورية محكومة بديناميات معقّدة، تتغير بتغير الظروف السياسية والاقتصادية. فمنذ الاستقلال، اتخذت السويداء موقعًا خاصًا داخل المشهد الوطني، بدا متأرجحًا بين الاندماج والتمايز، وبين المشاركة والحذر، وبين الولاء للدولة والحياد عن السلطة.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، عاد هذا التناقض إلى الواجهة مجددًا، حيث ساد الحياد الحذر، وتبنّى كثيرون موقفًا معارضًا للنظام لكن دون أن ينخرطوا في مشروع إسقاطه عسكريًا، فحافظوا على خيط رفيع بين تموضع في المعارضة وعدم انجرار إلى فوضى.
لكن السنوات التالية حملت تحوّلات عميقة، دفعت بالسويداء إلى موقع جديد لم يعد يقتصر على الرفض الصامت، بل صار ينطوي على احتجاجات صريحة ضد النظام، بلغت ذروتها عام 2023، مع تأكيد واضح على التمسك بمفهوم الدولة ومؤسساتها.
هذا التحوّل لم يكن مفاجئًا، بل جاء نتيجة تآكل التوازنات القديمة التي حكمت علاقة السويداء بالنظام لعقود. فقد أدّى تفكك الطبقة الوسطى وتزايد معدلات الفقر والبطالة إلى خلق مناخ أكثر ميلًا إلى المواجهة، وباتت الفئات الاجتماعية التي اعتمدت سابقًا على اقتصاد الدولة المركزي وخدماتها تعاني من انكماش فرصها الاقتصادية.
ومع تراجع قدرة النظام على تأمين الاستقرار المعيشي، لم يعد الحياد خيارًا عمليًا، وأخذت الأجيال الجديدة التي لم تعش فترات الازدهار الاقتصادي المحدود، تتبنى مواقف أكثر حدة تجاه السلطة.
لا يبدو سؤال الهوية والانتماء مجرّد قضية محلية تخص السويداء وحدها، بل امتدادًا لسؤالٍ يطرح نفسه أمام السوريين جميعًا
في الوقت نفسه، أدّت التغيرات الاجتماعية دورًا في إعادة تشكيل هذا الموقف. إذ فقدت الشبكات العائلية والعشائرية الكثير من قدرتها على ضبط الإيقاع السياسي، ما سمح ببروز تيارات جديدة ذات طابع أكثر استقلالية عن البنى التقليدية.
هذا التحوّل لم يكن مجرد رد فعل على تدهور الأوضاع المعيشية، بل ارتبط أيضًا بإعادة تعريف دور السويداء داخل الدولة السورية. فبينما دفع البعض باتجاه الانكماش والعزلة، وشجع آخرون على التصعيد والانعتاق، بدا واضحًا أن الغالبية ترى في الدولة، وليس النظام، الأساس الذي يحفظ سريان العقد الاجتماعي، ويؤمّن حدًا أدنى من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
بهذا المعنى، فإن التحوّلات التي شهدتها السويداء لم تكن مجرد موجات احتجاج وردود فعل، بل كانت تعبيرًا عن إدراك جديد لذاتها ولموقعها داخل سوريا، ومحاولة لاستعادة دور الدولة بعيدًا عن الاستبداد الذي حاول النظام فرضه.
هذا التداخل بين الحذر السياسي والتطورات الاقتصادية والاجتماعية يعكس طبيعة العلاقة بين السويداء وسوريا، حيث لم تكن العلاقة هذه قائمة على توافر الولاء السياسي أو غيابه فقط، بل كانت محكومة كذلك بتفاعل مستمر بين ضرورات العيش المشترك والانتماء الوطني من جهة، والتهميش والضغوط الاقتصادية من جهة أخرى.
فغالبية أهالي السويداء، برغم اعتراضهم المستمر على السياسات المركزية، لم ينظروا يومًا إلى الدولة كخصم، بل كإطار يضمن الحقوق، واستمرارية المؤسسات، وتأمين الخدمات الأساسية.
ولهذا، فإن رفض الإدارة الذاتية لا ينبع فقط من موقف سياسي، بل من إدراك مفاده أن الدولة وحدها تتيح الانتقال من جماعات متفرقة قائمة على الانتماءات الأولية إلى مجتمع مدني حديث قائم على الطبقات والفئات الاجتماعية محكوم بالحقوق والمؤسسات.
من ناحية أخرى، لم تكن العلاقة بين الدولة والمجتمع تُترك لتتشكّل تلقائيًا، بل كانت تصاغ وفق رؤية السلطة التي اتبعت منذ استيلاء الأسد الأب على الحكم نهجًا يقوم على احتكار الخطاب السياسي والهوية الوطنية، مفصولًا عن الإرادة الشعبية، ومصادِرًا لأي تعبير سياسي مستقل.
ولم يقتصر هذا على السيطرة على مؤسسات الدولة، بل شمل أيضًا إعادة تشكيل وعي المجتمع وفق تصور يخدم بقاء النظام. فاحتكر مفهوم المقاومة، مقدمًا نفسه الممثل الأول للقضية الفلسطينية، وصادر الاشتراكية، محوّلًا العدالة الاجتماعية إلى مجرد شعارات خاوية. وفي هذا السياق، أعاد النظام إنتاج الرموز الوطنية بما يخدم هذا التوجه، بحيث لا تكون عابرة للمناطق أو موحِّدة للسوريين، بل محصورة في أطر مناطقية ضيقة، تكاد دلالاتها لا تتجاوز كونها رموزًا تراثية.
من هنا تم التعامل مع إبراهيم هنانو كرمز لحلب، وصالح العلي كرمز للساحل، فيما هُمّش يوسف العظمة، الذي كان يفترض أن يكون رمزًا جامعًا للجيش والدولة. وكذلك حُصر سلطان باشا الأطرش داخل السويداء كما لو أنّه لا يمثل سوى الجبل، وتمّ تجاهل دوره في النضال الوطني الأوسع.
لم ينطوِ هذا النهج على إعادة صياغة للذاكرة الوطنية فحسب، بل كان جزءًا من سياسة تهدف إلى تفكيك المشروع الوطني إلى هويات مناطقية منفصلة، بحيث يتم التعامل مع السوريين تبعًا لانتماءاتهم المحلية بدلًا من انتمائهم لوطن مشترك، وهو ما أضعف الشعور بالمصير الجماعي وعزّز من إحساس أهالي السويداء بتهميش المركز لهم، وابتعاده عنهم.
إذًا، نحن أمام مفارقة مفادها رفض واضح للنظام وسياساته، وتمسك بالدولة. وقد يكون هذا الرفض تعبيرًا عن محاولة لاستعادة الدولة ككيان يخدم المجتمع بدلًا من أن يكون مجرد أداة بيد السلطة، وقد يعكس رؤية ترى في مؤسسات الدولة الضامن الأساسي للاستقرار والحقوق. وفي الحالتين لا يقتصر هذا النقاش على السويداء وحدها، بل يدخل في صلب الجدل الأوسع حول مستقبل العلاقة بين المجتمع والدولة في سوريا.
إنّ إعادة بناء الدولة السورية لا تتطلب ترميم مؤسساتها فقط، بل إعادة صياغتها بحيث تعبّر عن الإرادة العامة لشعبها، بدلًا من أن تكون امتدادًا لسلطة مركزية مغلقة، تتعامل مع السوريين كقطع متناثرة في لوحة فسيفساء، لا كشعب يمتلك إرادة سياسية مشتركة.
وهذا ما يتطلب البحث عن تصوّر جديد للدولة يضمن مشاركة جميع السوريين في صياغة مستقبلهم السياسي دون تهميش أو إقصاء. من هنا، لا يبدو سؤال الهوية والانتماء مجرد قضية محلية تخص منطقة بعينها، بل يظهر كامتداد لسؤالٍ يطرح نفسه أمام السوريين جميعًا: كيف نبني دولة الشعب السوري الواحد؟