ما الذي تفعله إسرائيل في الجنوب السوري؟
ما طبيعة الأنشطة العسكرية الإسرائيلية في الجنوب السوري؟ وكيف انعكس ذلك على سكان المناطق التي دخلها الاحتلال حديثًا؟ يلقي هذا التقرير الضوء على عدد من جوانب القصة.
ما طبيعة الأنشطة العسكرية الإسرائيلية في الجنوب السوري؟ وكيف انعكس ذلك على سكان المناطق التي دخلها الاحتلال حديثًا؟ يلقي هذا التقرير الضوء على عدد من جوانب القصة.
سقوط نظام بشار الأسد تزامن مع حراك إسرائيلي مكثّف في الداخل السوري غايته العمل على مسارَين متوازين. الأول بدء فعليًا ليل 7 كانون الأول/ديسمبر الماضي قبل الإعلان عن فرار بشار الأسد، وذلك عبر غارات مكثفة استهدفت محيط منطقتي الصبورة ـــ يعفور بريف دمشق الغربي، واللتين تُعدّان المكان الأساس لانتشار الفرقة الرابعة.
وقد استُكمل ذلك في اليوم التالي الذي أُعلن فيه رسميًا عن سقوط النظام، إذ كانت إسرائيل تستعجل عملياتها الجويّة لضرب كامل البنية التحتية لسلاحَي الجو والدفاع الجوي ومستودعات الصواريخ الاستراتيجية، إضافة إلى فرع المعلومات ومكتب مدير الأمن الوطني السابق علي مملوك في حي "الفيلات الغربية" بمنطقة المزة.
ثم، في صباح 9 كانون الأول/ديسمبر، أي عقب السقوط بيوم واحد، بدأت القوات البرية الإسرائيلية بإنشاء ما تسميه اليوم "المنطقة العازلة"، لتكون هذه المنطقة خط دفاع متقدم بالنسبة لقوات الاحتلال. وسار الأمر بالتوازي مع إنشاء السياج الأمني الذي كانت إسرائيل قد بدأت بالعمل عليه فعليًا قبل سقوط الأسد بأشهر عدة، والذي يتألف من مجموعة من الخنادق العريضة والعميقة، تليها مساتر ترابية مرتفعة، وسياج شائك مزود بكاميرات وحسّاسات حرارية.
وهذا السياج مبني ضمن منطقة "فض الاشتباك"، المحصورة بين خطي "ألفا ـــ برافو"، وهي منطقة يُفترض أنها واقعة تحت رقابة قوات حفظ السلام الأممية "إيندوف"، وفقًا لاتفاق "فض الاشتباك" الذي كان معمولًا به منذ العام 1974 حتى انسحاب إسرائيل منه أحاديًا عقب سقوط النظام بيوم واحد.
أبرز النقاط التي سيطرت عليها القوات الإسرائيلية كانت مرصد جبل الشيخ، وهو مقر استخبارات عسكرية واستطلاع يقع في أعلى قمم جبل الشيخ. وتشير معلومات عن إنشاء مهبط للمروحيات بالقرب من المرصد، مع انتشار إسرائيلي داخل مقار الجيش السوري في الجبل ذاته، كما هو الحال في مقر الفرقة 24 دفاع جوي.
ويبدو أن تل أبيب تعمل على تحقيق وجود مستدام في هذا الجزء من الأراضي التي احتلتها حديثًا، وهي أراضٍ تقع خارج خريطة "المنطقة العازلة" في ريف محافظتي القنيطرة ودرعا.
وتفيد التقديرات إلى أن الوقت الذي يستلزمه تحليق الطيران المروحي من جبل الشيخ إلى سماء العاصمة دمشق لا يزيد عن بضع دقائق، إذ إن قاعدة المروحيات التي تم إنشاؤها لا تبعد سوى 30 كلم عن العاصمة السورية. يعني ذلك أن كامل مناطق الجنوب السوري، بما فيها دمشق، باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى لإسرائيل.
تشير معلومات إلى اجتماع ضابط إسرائيلي بمختار قرية المعلقة وعرضه "مساعدات إنسانية" تحت مسمى "مبادرات حسن النية"، رفضها مختار القرية
ويقول لنا ضابط سابق في الجيش السوري فضّل عدم الكشف عن اسمه إن ارتفاع الموقع يسمح برصد أي حركة على طريق دمشق ـــ حمص، حتى بالمعدات القديمة التي كان يستخدمها الجيش السوري، ويضيف أن جبل الشيخ يحتوي على ثلاثة مراصد: السوري، ويقع في أعلى مرتفعات الجبل؛ والمرصد التابع لقوات حفظ السلام الدولية "إيندوف"؛ والمرصد الإسرائيلي المعروف بـ "المرصد الشرقي" لوجوده في الطرف الجنوبي الشرقي من الجبل.
ومع سيطرة إسرائيل المطلقة على جبل الشيخ، يبدو انسحاب القوات الأممية من مرصدها احتمالًا قائمًا، وهو ما يتيح للقوات الإسرائيلية بسط سيطرتها على المراصد الثلاثة، ما يؤمن لها أفضلية الرصد والاستطلاع على حساب كل من سوريا ولبنان.
"فائض القوة" الإسرائيلي يجعل استعادة الحكومة السورية سيطرتها على ما دخلته إسرائيل في مرتفعات جبل الشيخ غير ممكن، إذ لا تتوافر لدى دمشق بوضعها الحالي أي إمكانات عسكرية يُعتدّ بها، بعدما دمّرت إسرائيل معظم سلاح الجو وبنيته التحتية (بلغت، بحسب بعض التقديرات والمصادر، ما نسبته 80% ـــ 90%)، من خلال استهداف مكثف لقواعد الطيران المقاتل والمروحي. كما أنها دمّرت، بنسب مشابهة، سلاحي الدفاع الجوي والصواريخ الاستراتيجية.
كل ذلك يعني أن خيار الاشتباك مع إسرائيل لن يخطر في حسابات دمشق في المرحلة المقبلة، ولا تبدو إسرائيل ـــ قياسًا على تجارب مفاوضات العرب معها ـــ مستعدة لإخلاء أي من نقاطها الجديدة في جبل الشيخ، الأكثر أهمية في حساباتها العسكرية على "الجبهة السورية".
منعت قوات الاحتلال عددًا كبيرًا من الفلاحين من الوصول إلى أراضيهم في المناطق القريبة من شريط الفصل. وقد أفاد سكان قرى حوض اليرموك، خصوصًا قرية معرية، بتحول وادي اليرموك إلى "منطقة عسكرية" يُحظر الدخول إليها منذ 8 شباط/فبراير الماضي.
وتقول مصادر من القرية ذاتها إن القوات الإسرائيلية المتمركزة في "ثكنة الجزيرة" تمنع السكان من دخول أراضيهم الزراعية منذ أسابيع عدة، وكانت قد منحتهم مهلة تنتهي في التاريخ المذكور لنقل ما يملكونه من معدات زراعية وخلايا نحل إلى خارج الوادي.
تعتقل القوات الإسرائيلية عددًا من أبناء المنطقة الجنوبية. وتشير آخر المعلومات إلى وجود اثنين من سكان قرية طرنجة بريف محافظة القنيطرة قيد الاعتقال منذ حادثة إطلاق النار التي استهدفت قوة إسرائيلية ليل 31 كانون الثاني/ يناير، وذلك برغم تأكيد مصادر محلّية في القرية أن لا علاقة للشابين المعتقلين بإطلاق النار. وقد تبع ذلك بأربعة أيام اعتقال شاب من قرية المعلقة في ريف القنيطرة.
وتشير معلومات إلى لقاء جمع أحد ضباط القوة الإسرائيلية التي نفّذت الاقتحام بمختار قرية المعلقة، حذّره فيه من مغبة التعرض للقوات الإسرائيلية أو الاعتراض على أنشطتها، وعرض عليه في الوقت نفسه "مساعدات إنسانية" تحت مسمى "مبادرات حسن النية"، إلا أن المختار رفض، نيابة عن سكان قريته، العرض الإسرائيلي جملة وتفصيلًا.
أُجبرنا على خلع ملابسنا خلال عملية التفتيش ومن ثم المشي إلى ثكنة الجزيرة، حيث خضعنا للتحقيق حول طبيعة عملنا وسئلنا عن وجود أنفاق
ولم يغيّر انسحاب القوات الإسرائيلية من مبنيي المحافظة ـــ المحكمة (الواقعَين إلى الغرب من مدينة "البعث" في مركز محافظة القنيطرة) كثيرًا من الانتشار الإسرائيلي في الأراضي السورية. إذ ما زالت قوات الاحتلال تتمركز في مجموعة كبيرة من النقاط المستدامة في الداخل السوري، خصوصًا في قرى الحرية، ومعمل البواري في الحميدية، وقرص النفل والتلول الحمر في بلدة حضر، والحرش في قرية جباتا الخشب، فضلًا عن نقاط مراقبة إلى الغرب من قرى ريف القنيطرة الجنوبي (صيدا، والمعلقة، وعابدين)، وتل الأحمر غرب بلدة كودنا (التي تشهد نشاطًا مكثفًا يهدف إلى إنشاء قاعدة عسكرية برية كبيرة)، وصولًا إلى الانتشار في قاعدة ثكنة الجزيرة. ويتزامن ذلك كله مع نصب أبراج مراقبة وأبراج "إنارة كشافة" على امتداد شريط الفصل وفي محيط القواعد الإسرائيلية.
وتهدف الدوريات الإسرائيلية من خلال انتشارها إلى بلوغ منابع نهر الأعوج في قرى جبل الشيخ الواقعة إلى الجنوب من مدينة قطنا بريف دمشق الجنوبي الغربي، إذ يسمح هذا الوصول، مع التمركز في سد المنطرة، بتهديد "سد الوحدة" المشترك بين سوريا والأردن. ما يعني أن القوات الإسرائيلية باتت تهدد الأمن المائي لسوريا، بشكل مباشر.
قد يكون ماهر الحسين أوّل سوري يُصاب بنيران قوات الاحتلال بعدما قامت الأخيرة بقمع متظاهرين خرجوا ضدها في قرية معريا بريف درعا الجنوبي الغربي في 20 كانون الأول/ديسمبر الماضي. ويقول الشاب المتحدر من قرية كويا لنا إنه توجه في ذلك اليوم إلى قرية معريا للمشاركة في تظاهرة ضد وجود الاحتلال في قرى حوض اليرموك، ولم يكن المتظاهرون يحملون سوى أعلام الجمهورية السورية ولافتات، ويردّدون شعارات مناهضة للاحتلال الإسرائيلي.
"أطلقت قوات الاحتلال الرصاص علينا بشكل مباشر، ما أدى إلى إصابتي بطلقين ناريين في الساق، وتسبب بتفتت في العظم وتلف في الأعصاب وقطع في الوريد"، يقول ماهر، مضيفًا: "احتجت إلى إجراء عدد من العمليات الجراحية الإسعافية التي بلغت كلفتها 30 مليون ليرة سورية (3000 دولار أميركي)، ولم أتمكن من الحصول على مساعدة من أي جهة أهلية. كان الأمر صعبًا في ظل أوضاعي المعيشية السيئة".
بدوره، يقول رائد العلي، وهو أحد أوائل السوريين الذين تعرّضوا للاعتقال من قبل القوات الإسرائيلية، إن عملية اعتقاله وقعت في الأراضي الزراعية بمنطقة وادي اليرموك في 26 كانون الأول/ديسمبر: "أثناء عملنا، توجّهت دورية من القوات المتمركزة في ثكنة الجزيرة، التي تمثل "النقطة صفر" على الحدود، وطلبت من العمال مغادرة المزارع خلال دقائق. بقيت مع ابن عمي معتقلَين بوصفنا المسؤولَين عن تشغيل العمال. أُجبرنا على خلع ملابسنا خلال عملية التفتيش ومن ثم المشي إلى ثكنة الجزيرة، حيث خضعنا للتحقيق حول طبيعة عملنا وسئلنا عن وجود أنفاق، وعن سبب تغطيتنا الخضار التي نزرعها في الوادي. بقينا مُحتجزين لفترة من الوقت قبل أن يُسمح لنا بالعودة إلى قريتنا سيرًا على الأقدام".
من جانبه، يقول ابن عم رائد، مهند العلي، إن جنود الاحتلال طلبوا منهما خلال الاعتقال أن "نبلغ أهل القرية بأن مزارعيهم ممنوعون من دخول منطقة وادي اليرموك" مباشرة، وبأن عليهم "المرور عبر الحاجز التي نصبته قوات الاحتلال على الطريق وتسليم هوياتهم الشخصية قبل الدخول إلى الأراضي الزراعية في وادي اليرموك".
ما يرويه رائد ومهند العلي ينسحب على عدد كبير من الشبان في ما تسميه قوات الاحتلال اليوم بـ"المنطقة العازلة"، علمًا أن وادي اليرموك تحوّل إلى ما يشبه المنطقة العسكرية، حيث بات ممنوعًا على المدنيين دخولها بعد انتهاء مهلة نقل المعدات الزراعية التي حدّدتها قوات الاحتلال بمساء يوم السبت 8 شباط/فبراير الحالي.