
هل يمكن للكبت أن يحوّلك إلى إرهابي؟ ما الإرهاب؟ ما الهروب؟ وما هو السر في التناص الملفت لحروف فعلي: هرب ورهب؟
في مواجهتنا لتشوهات تأتي غالبًا من حقبة الطفولة، والعلاقة مع سلطة الأب أو صورة الأم، تتغذى لدينا شبكة من الأحاسيس السلبية، مثل الغضب والخوف والذنب، تمتد، مثل جذور متسربة في متن تكويننا الأول، إلى القلب والنفس والروح. تكتسب المواجهة بعدها الأقسى، في العجز عن التزود بمعارف أو دعم كاف، لتنقية هذه التربة من تلك العروق السامة.
قد يهرب أخوان، على سبيل المثال، من الفقر وقلة الحيلة وتنمّر الأب، في قرية على الساحل في شمال تونس اسمها "سجنان"، من مواجهة فجوات النفس الشقية إلى الإرهاب في مجاهل سوريا.
عود طويل على بدء قصير
هكذا أخبرتنا المخرجة والكاتبة السينمائية مريم جوبار، قبل سنوات، في فيلم قصير أسمته "أخوة"، لف في مهرجانات السينما بالعالم، ونال أكثر من 70 جائزة. ثم قررت أن تعود مرة جديدة إلى القرية ذاتها، وبطاقم التمثيل نفسه، بعد 5 سنوات من سردها الأول، وتعمل على القماشة ذاتها، فاردة إياها، هذه المرة، على شريط طويل، حمل اسم "ماء العين" وعُرض في الدورة 35 من "أيام قرطاج السينمائية" كانون الأول/ديسمبر 2024.
يروي الفيلم انفراط عقد عائلة مزارعين بسيطة تعيش في ريفٍ ناءٍ، بعد التسرب الصادم لشابين منها إلى مرافق "الجهاد" المتطرفة، في زمن المعضلة السورية التي استمرت لأكثر من 12 سنة، وقد خلّفا وراءهما عائشة الأم (الممثلة صالحة نصراوي) وابراهيم الأب (الممثل محمد القريع) وأخًا صغيرًا عمره 6 سنوات، وبحرًا ومواشي وشجرًا وأصدقاء وجيران وكثيرًا من الأسى.
بعد شهور، يعود واحد منهما من دون الآخر، ولكن بصحبة سيّدة منقّبة، غامضة، تقول الكثير عبر عينيها الواسعتين الملونتين، على نقيض من كل ما يحمله الفضاء من نذر سوداء طافت حولها مع شياطين العودة، لتبدأ رحلة معاناة الأم عائشة، تتنقل بين الحدس والكشف، الحلم والإشارة، الغموض والتجلي.
كشف غيبي لمشروع سينمائي
تعيش المخرجة جوبار بين تونس والولايات المتحدة وبلاد أخرى. قد تكون أسئلة "الهوية الشخصية" هي ما يثقل عليها رحلتها الوجودية الإنسانية. لا نعرف إجابات حاسمة، لكنها في تصريحات صحافية سجلتها، في بلادها تونس في كانون الأول/ديسمبر، كشفت أنها خاضت رحلة تطهرية مرهقة، مكّنتها في النهاية من صهر روحها في فرن الألم، لتخرج منه امرأة اصيلة ومتصالحة مع كينونتها: "لقد قبلت نفسي، ولم أعد أرغب في كبت أي شيء داخلي. أي نوع من أنواع الأحاسيس، سواء الغضب أو الألم أو الرغبة بالبكاء والفرح الكبير".
- "لكنك ذهبت إلى الضفة الأكثر تطرفًا من أجل معالجة مأزقك الشخصي؟"، تلتقط مذيعة الراديو بذكاء معنى الكلام، فترد مريم ضاحكة:
- "نعم، أردت ان أظهر أطياف واسعة وغَنية من المشاعر".
تؤمن جوبار بقوى الكشف الغيبية التي "توحي" إليها بأفعال تهيء لها إبداعها الفني.
تسرد أنها، خلال رحلة اكتشاف قامت بها للساحل الشمالي في تونس، قبل سنوات، رأت من سيارتها شابين لهما ملامح ملفتة، مثل الشعر الأحمر والنمش على الوجه والعيون الساهمة الصغيرة لكن المعبرة، وكأنها تنتظر لكي تصرّح عن شيء ما.
أوقفت مريم السيارة، وطلبت من أحدهما، واسمه مالك، أن تلتقط صورًا لعينيه.
يرفض مالك. وتغادر مريم.
بعد شهور، يلحّ عليها خاطر كتابة قصة سينمائية عن الأثر الذي يخلّفه سقوط أبناء من عائلة في تونس، في فخ التورط في حروب خارج البلاد، مثل حروب السنوات السورية السوداء، على عائلة "المهاجر" ذاته ومحيطها.
حين شرعت المخرجة بالكتابة، تخيّلت ملامح أبطال قصتها، عبر استعادة ملامح الشابين الذين التقت بهما ذات يوم على طريق الشمال.
خيالها مكّن لها إضافة دور لأخ ثالث صغير، سيجسّد في الأحداث معاني البراءة والانتظار وتطييب نزف الأم، ألمًا وحسرة.
تقرر جوبار أن تبحث عن الشابين وتمنحهما فرصة التمثيل لأول مرة.
وهنا، ستبدأ رحلة مضنية من البحث على الطرقات وبين البيوت وفي المزارع، عن الغريبين الذين قررت أنه "مكتوب" أن يكونا هما بطلي فيلمها القصير.
تدلها ملامحهما المميزة، بعد سؤال الناس، على مكان سكنهما. تطرق على الباب، لا يخرج مالك ولا أخوه شاكر، في البداية، بل طفل صغير، هو الأخ الثالث، ريان، الذي لم تكن تعلم بوجوده، لكنها تخيلته على الورق، فإذا به حقيقي، من نبض ودم وابتسامة رائعة.. فإذا به بطل صغير ومرهف، كأنه فعلًا خارج من ورق.
تبدأ رحلتها مع الثلاثي، ينضم اليهما ممثلان مخضرمان، نصراوي ذات التجربة المسرحية والميلودرامية الراسخة، والقريع، ممثل كل الأدوار، بمعايشة وتمكن لافتين، من النادر أن يخيب الرهان عليهما، إضافة الى الممثل الكاريزمي، المعروف على ساحة الإنتاجات السينمائية العالمية، آدم بيسا.
يكوّن الجميع عائلة، تنتج عملًا أول، ثم يصوّر بعد سنوات الفيلم الثاني، في القرية المعزولة، حيث لا شبكة اتصال خلوي، لمدة 6 أسابيع: ظرف مثالي لكي يتبادل الفريق خبرات التمثيل، فيخضع الشابان الهاويان إلى 5 ورش تمثيل مكثفة، قدمتها لهما نصراوي على مدى أيام.
وضعت جوبار لـ" ماء العين" عناوين لثلاثة أقسام شكلت أحداث الفيلم، كما يحصل في عالم الروايات، وجسدت بمعانيها الانتقال من عالم الظلام إلى عالم النور:" مثلما خضت أنا على المستوى الشخصي رحلة الخروج من العتمة إلى الضوء، كان سياق هذه القصة".
أم "الإرهابي"!
مثل مريم إذًا هي عائشة.
امرأة قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكن يتأتى لها من قدرات ما ليس للغير.
تعرف جيدًا ما يوحي به الفنجان. تعبر باستمرار بين عالم الواقع وعالم الحلم، وهناك يهمس إليها بالحقائق: من هرب، من قتل، من خان، من ظلم، ومن أحرق جوفه ونفسه وروحه.
في تلك الطبيعة المعزولة، والبيئة القاسية اقتصاديًا واجتماعيًا، بدل أن يقسو قلب مريم، ها هو في أبهى درجات الأمومة، يسأل الأسئلة الشائكة عن كل ذلك "الشر" الذي خرج من الرحم، عن قدرة الحب الأمومي على مواجهة تشظيات الإنسان حين يقمع ويعذب وتهان كرامته. وعن التضامن بين النساء: ضحية في القرية (؟) وضحية في أقبية "أمراء الجماعة" يفرض عليها "الحدّ" الذي قد يكون.. اغتصابًا جماعيًا.
تهرب ريم مع مالك. يتزوجها. ابن عائشة الذي فيه شرش من حنانها، ينقذ الضحية، بعد أن يترك أخاه مجبرًا، ويفر عائدًا إلى القرية. تأتي إلى هناك بجسد مغطى ووجه منقب وبطن منتفخة في أحشائها جنين وصمت يثير غضب الأب وريبة الأم. تلك الضحية الوافدة الى بيئتها الغريبة، والتي اختبرت جيدًا التخلّي والقمع والقسوة، كانت، خلف ستارها الأسود قد تحولت، منذ زمن، إلى جلاد.
تتلاعب بزوجها. يقرران الانتقام من أبرياء وصناعة ضحايا جدد في دائرة العنف الذي يولد عنفًا والقسوة التي تنجب قسوة والتشوّه الذي ينسج تشوّهات.
مع التقدم في أحداث الفيلم، نكتشف، أن وراء مقتل مزراعين في ظروف غامضة، يقف ريم ومالك.
"عدم مواجهته لخطيئته الأولى جعله يحرق نفسه وأهله وقومه"، تصف المخرجة سيكولوجية هاتين الشخصيتين.
في منامات الأم التي تجسدها جوبار، تكوينات بصرية رائعة على الشاشة، تتبع عائشة، طريق الإشارات. بأداء يتم غالبًا عبر العيون، والصمت، أو طبقات الكلام الهامس، وهو ما أجادته بتمكن وخبرة لافتين الممثلة نصراوي، يقول لنا الفيلم الكثير من القصص عن العوالم الموازية، المتشعبة، التي تجلعنا راغبين بعدم الحكم على الأشياء من سطحها والوقوع في فخ التصنيفات السهلة، وهو ما ترفضه المخرجة، إذ إن "الحياة والناس أكثر تعقيدًا، ويجب عدم التسرع في إطلاق الاحكام، كما أن وظيفة الفن هي إطلاق الأسئلة التي تواجه كل تنميط".
تتقن جوبار فن الهمس من أجل إطلاق الصرخات المدوية.
في الحضن الواسع، تترعرع وتنمو ضحكة الطفل الصغير، أملًا للمستقبل، مثل زهرة على جرف شاهق، يسقط منه الضحايا إلى بحر الخوف متلاطم.