علاج آثار الحرب اللبنانية: عن الجسم الطبي وضحايا البيجر والقصف والصدمة
كيف أظهرت الحرب الإسرائيلية الفجوات في القطاع الصحي اللبناني؟ ما هو حال ضحايا هجمات البيجرز وسائر الجرحى والمصابين بالصدمة اليوم؟
كيف أظهرت الحرب الإسرائيلية الفجوات في القطاع الصحي اللبناني؟ ما هو حال ضحايا هجمات البيجرز وسائر الجرحى والمصابين بالصدمة اليوم؟
يصعب على خبراء الصحة العامّة شرح طبيعة النظام الصحي في لبنان. خليط هجين غير مبرر، تتداخل فيه مؤسسات تابعة لوزارات عدّة، مع شركات التأمين والمستشفيات الخاصة وجيب المواطن.
برغم ذلك، وبموازاته، كان اللبنانيّون يتفاخرون أمام نظرائهم العرب بهذا النظام وكادره المميّز أكاديميًّا وعمليًّا. ولم يكن خافيًا على أحد أن لبنان كان من الوجهات السياحية الطبية الأولى في المنطقة بعد العام 2000، قبل أن تنحرف هذه الوجهة صوب تركيا وإيران والهند لاحقًا، إثر الأكلاف الفلكية التي يتكبدّها "السائح" العراقي مثلًا.
استطاع هذا النظام أن يسير في ركب "المعجزة" اللبنانية التي تجترح الإبداع من رحم الفوضى التي يعاملها اللبنانيون بدولتهم ومسؤوليهم ومواطنيهم كأنها من لوازم المرحلة، لا كمسبب للمشكلة. واستمرّ كلّ من "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" ووزارة الصحة و"تعاونية موظفي الدولة" والجهات الضامنة التابعة للقوى الأمنية والعسكرية بتأمين التغطية المالية المقبولة لدى شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، والتي قد تصل في أحيان كثيرة إلى ما يتجاوز الـ 85% من قيمة فاتورة الاستشفاء.
كانت "بحبوحة صحية" نعم بها اللبنانيون مع استقرار سعر صرف الليرة أمام الدولار على 1500 ليرة مقابل دولار واحد. وهنا، يمكن ذكر الكثير من التفاصيل حول سهولة الحصول على التغطية برغم التفاوت الكبير في التسعيرة بين المستشفيات اللبنانية.
وبرغم ما يقال خلال النقاشات في العالم حول مساوئ النظام الصحي المدعوم من الدولة (في تصويب واضح على المبادئ الاشتراكية مقابل الرفاهية التي تمنحها الرأسمالية، وهو تصويب غايته سياسية في الجوهر وإن ارتدى لبوس الاقتصاد)، فإن النظام الصحي اللبناني استطاع تجاوز الذريعة الشهيرة المتعلّقة بالمدّة الطويلة التي يحتاجها المواطن للحصول على موافقة الجهات الضامنة الحكومية على تغطية كلفة علاجه. والمثال الشهير الذي يُستحضر هو عملية استبدال مفصل الورك، التي ينتظر المريض شهورًا في سريره في بريطانيا ليحين دوره لإجراء العملية على حساب هيئة الخدمات الصحية الوطنية، فيما يمكنه إجراؤها في لبنان خلال أقل من أسبوع وبتكلفة زهيدة نسبيًا.
حتى الآن، لا أرقام رسمية لعدد جرحى البيجر وطبيعة إصاباتهم، وإن كانوا قد عادوا اليوم لممارسة حياتهم الطبيعية قدر المستطاع
لكنّه لبنان، حيث دوام الحال من المحال. فمنذ اندلاع الأزمة المالية أواخر العام 2019 وانهيار سعر الصرف، كان القطاع الصحي الضحية الأبرز لهذا التحوّل. وكان هذا القطاع "الشهيدَ" الأكثرَ صمتًا برغم ما يحتله من أهمّية في حيوات اللبنانيين. وهو لم ينل الاهتمام اللازم من المطالبين بالتغيير ومن الدولة المسؤولة ــــ الغائبة بطبيعة الحال.
وصارت عبارة "الموت على باب المستشفى" تشكّل جزءًا مألوفًا من خطاب التذمّر اليومي للمواطن اللبناني، الذي وصلت حكومته إلى ذروة التخلّي عن مسؤولياتها في جميع القطاعات مع اشتداد وطأة الأزمة. وقد جرت محاولات انقاذية عدة، استغلّت تدفق المساعدات والمشاريع المموّلة من الخارج، لكنّها كانت تفتقر لعامل الاستدامة، بلحاظ غياب ميزانية كافية للقطاع الصحّي.
ومع مرور أعوام على بدء الدولرة التدريجية للنظام المالي بشكل شبه كلّي، ارتفعت تدريجيًا قدرة الجهات الضامنة الحكومية على التغطية، وإن لم تتمكن من استرجاع قدراتها السابقة كاملةً. ومع انطلاق "فترة التعافي"، برز تحدّي إعادة هيكلة القطاع الصحي بشكل كامل.
وبوجود هيكل مبنيّ سلفًا، متربّعٍ على مواقع القوة والنفوذ، تكون مهمّة التخطيط غاية بعيدة المنال. فالمستشفيات مشيّدة بغض النظر عن دراسة الحاجات، وتوزُّع الاختصاصات يفتقر بشكل فاقع الى العدالة، ناهيك عن الازدهار العظيم للمؤسسات الصحية في المدن مقابل ضعفها ومعاناتها في الأرياف، وهجرة الكادر الصحي باختصاصاته كافة بحثًا عن رواتب تؤمّن أقلّ متطلبات العيش الكريم. هنا، أتت الحرب بشكلها المفاجئ والثقيل لتعرّي كل الفجوات التي تمّ تجاهلها ـــ عن قصد أو غير قصد ـــ في القطاع الصحي.
شكّلت لحظة انفجار أجهزة البايجر صدمة سيحتاج العاملون في القطاع الصحي اللبناني إلى أعوام لينسوها. بالمقارنة مع انفجار المرفأ، كلا الحادثتين تصنّفان في خانة الـ Mass Casualty Incident وهي حالة طوارئ تفوق قدرة النظام الصحي المحلي على استيعابها.
لكنّ حادثة البايجر كانت تختلف من الناحية الطبية، فمعظم الإصابات تركّزت في اليدين والوجه، ما استوجب وجود فِرق أكثر تخصصًا. وفي غضون ساعات، امتلأت غرف الطوارئ في بيروت والجنوب والبقاع بالمصابين، وكانت الأولوية لتواجد الجراحين نظرًا لطبيعة الإصابات. يستحيل في أفضل الأنظمة الصحية في العالم أن تُلبّى الحاجة الطارئة لهذا العدد الهائل من جراحي العظام والعيون. وتكدّس الجرحى في غرف الطوارئ، وقد انتظر بعضهم ساعات ليتمكّن أحد الأطباء من فحصه وتقييم حالته.
التحدي الأكبر تمثّل بإيجاد أطباء عيون وغرف عمليات تستوعب العدد الكبير من المصابين. وكان تحدّيًا صعبًا. وحتى اليوم التالي، لم يكن جميع الجرحى قد خضع للعملية اللازمة في العين. هنا كان قرار "حزب الله"، الذي بدأ يستوعب حجم الضربة، بنقل الحالات المستعصية الى مستشفيات إيران لمواصلة (أو بدء) العلاج هناك.
حتى الآن، لا أرقام رسمية لعدد الجرحى وطبيعة إصاباتهم، وإن كانوا قد عادوا اليوم لممارسة حياتهم الطبيعية قدر المستطاع. وفي هذا الإطار، وبرغم الانقسام السياسي الحاد، لعب الكادر الطبي دورًا مميزًا وأعطت المستشفيات وطواقمها درسًا للجميع في التضامن الوطني والإنساني.
أثبتت الحلول الجزئية في القطاع الصحي أنها قصيرة الأمد، وستبرز مشكلات أكبر فور انتهاء مفاعيلها
اليوم، يعيش الجرحى في مجتمعاتهم ولا مجال لتخبئة إصاباتهم أو تجميلها. وعلى عكس تجارب تاريخية ــــ كظاهرة الهيباكوشا الذين عانوا لفترة من التمييز بعد إلقاء قنبلتي هيروشيما وناغازاكي الذريتين ــــ فإن جرحى البايجر يتمتعون بمكانة مرموقة في محيطهم، ما يساعدهم دون شك على تخطي الآثار النفسية لما حصل كتشوّه الوجه أو خسارة الأطراف أو فقدان البصر.
وإذا كانت حادثة البايجر تعتبر نقطة البداية للحرب المدمّرة على قدرات لبنان العسكرية، فهي، من دون شك، زرعت فتيل أزمة صحية ذات مفاعيل آنية وطويلة الأمد على حد سواء. فخلال الحرب، استهدفت عشرات المراكز الصحية والمستشفيات، وأكثر من مئة سيارة إسعاف، كما استشهد نحو مئتين وخمسين عاملًا في المجال الصحي وجرح مثلهم.
وقد كان هؤلاء ثروة يستحيل تعويضها، إذ كانوا يحملون شغفًا بعملهم وروحًا مسؤولة قلّ نظيرها. ومع توسّع رقعة الحرب وامتدادها لشهرين، واستشراف مستقبل آفاق البلاد أمام عدو لا يفقه سوى مفاهيم الإبادة والأرض المحروقة، ازداد الشعور باليأس لدى كثير من الأطباء، الذين صاروا يفكرون جدّيًا بالهجرة برغم صمودهم في ظل عاصفة الانهيار خلال أعوام خلت. وما زالت صور مشافي غزة، وأطبائها وممرضيها العراة في الشوارع، ماثلة في ذهن كلّ من لبس معطفًا أبيض ذات يوم، متخيّلًا نفسه في المحنة ذاتها يومًا ما.
ثقل كارثي آخر لا يمكن إغفاله مما تركته الحرب، هو الكمّ الهائل من التأثيرات النفسية التي انتشرت بين مختلف الفئات العمرية كالفطر. ومن نافل القول أنّ الأطفال هم الأكثر عرضة لهذه التأثيرات. وإن كان ما يزال مبكرًا الحديث عن حالات الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة التي يحتاج تشخيصها لأسابيع عدّة.
لا شكّ أن حالات الصدمات النفسية والقلق والخوف التي نتجت من التعرض المتكرر لأصوات القصف ومشاهد القتلى وأخبار النزوح والتهديدات اليومية زادت أضعافًا مضاعفة. ويمكن لأي باحث تفقّد عيادة اختصاصيي العلاج النفسي ليعرف أن العبء حقيقيّ.
ومع ارتفاع كلفة علاجات كهذه في العيادات الخاصة وانخفاض نسبة الوعي حول أهميتها (بالمقارنة مع الأمراض الجسدية)، تكثر الحالات المهملة عن قصد أو بغير قصد، لتتفاقم لاحقًا وتنفجر اجتماعيًا ولو بشكل فرديّ. وفي هذا الإطار، برزت بعض المبادرات الفردية من اختصاصيين، وحوّلت منظمات عالمية عدة أجزاء من ميزانياتها لدعم مشاريع تعنى بالدعم النفسي والاجتماعي لضحايا العدوان.
بعد كل تقدّم، يمكن الاستنتاج بأن الواقع الصحي يرزح تحت ثقل كارثي، وهو بحاجة إلى تدخّل عاجل. وعلى مرّ السنين، أثبتت الحلول الجزئية أنها قصيرة الأمد، وستبرز مشكلات أكبر فور انتهاء مفاعيلها. فالحلّ لا بدّ أن يكون عبر وضع استراتيجية شاملة للقطاع الصحي، تستفيد من المناخ الدولي الداعم للبنان الآن بحلّته الجديدة، آخذة في الاعتبار صياغة خطة طوارئ صحية بالتعاون مع القطاع الخاص الذي احترف الاستفادة من كل أزمة، للتخفيف من مفاعيل أي كارثة قد تطرأ في أي لحظة.
وعليه، لا بدّ من إيلاء القطاع الصحي أهمية قصوى في الميزانية المرتقبة ووضعه في سلّم الأولويات بوصفه همًّا حياتيًا لا يقل أهمية عن المأكل والمشرب والأمن. والانطلاق بمشروع كهذا، يجب أن يتوازى مع إغلاق منافذ الهدر في القطاع وإيلاء الأرياف ومراكزها الصحية الرعاية اللازمة، فلا تستحيل محاولة التطبب والاستشفاء رحلة إذلال تصل في أغلب أوقاتها إلى زواريب المحسوبية والارتهان.