عن طرطوس المدنية.. "من يخاف يخسر"

إنه وقت الصوت العالي في طرطوس، المدينة التي يغلب عليها الهدوء، في الأحد الثاني بعد هروب الأسد. الكل هنا ليتكلم للمرة الأولى من دون رهبة رجل الأمن المتخفي، وليشارك في تقرير مصير المحافظة والبلد.

15 كانون الأول/ديسمبر 2024. لا مكان لتضع قدمك في مقهى "نخلة التنين" في طرطوس. المتأخرون واقفون، آخرون فضلوا البقاء خارجًا للتدخين، وجوههم تميل في اتجاه البحر، وآذانهم تحاول التقاط صوت عالٍ ما من الداخل.

لا يُعقل ألا تسمع صوتًا عاليًا في مقهى طرطوسي، لكن الجديد الآن ليس المكان، بل الزمان: إنه وقت الصوت العالي في مدينة يغلب عليها الهدوء، في الأحد الثاني بعد ميلاد سوريا الجديد، منذ هروب الأسد.

الكل هنا ليتكلم للمرة الأولى من دون رهبة رجل الأمن المتخفي، وليشارك في تقرير مصير المحافظة والبلد باسم "مبادرة الحوار المدني". يدركون أنه وقت الفرصة النادرة، حيث لا دولة، أو حيث يوجد كيان جديد غامض المعالم، ومرحلة انتقالية يمكن فيها بناء قوة مدنية ضاغطة استعدادًا للآتي، بعد عزوف طويل عن المشاركة السياسية خلال عقود الاستبداد. بعضهم جاء بغرض "التعارف" فحسب، في ظل ما يشبه الانقسام الديمغرافي بين أحياء متباينة طائفيًا.

"رواق يا جماعة"

أغلب الرؤوس يعلوها الشيب، وبين الموجودين قلة من الشباب. معتقلون سابقون، ومناضلون سابقون وحاليون، وشخصيات عامة، و"مكوّعون" أمضوا أسبوع الحرية الأول في تنظيف بروفايلاتهم على "فيسبوك" من رموز المرحلة البائدة، وفضوليون، وهؤلاء أكثرية تتأرجح بين النشوة والخوف من جنود جدد، كانوا قبل أيام بمثابة "فضائيين" لا يرونهم إلا عبر الشاشات.

الجلسة أخذت شكل الصندوق المفتوح. وقف وسطه الناشط غدير غانم منظمًا وموزعًا الأدوار بين طالبي الكلام، راجيًا إغلاق الموبايلات وعدم التصفيق أو المقاطعة. أتخيل وصديقتي شخصية "نخلة التنين" في مسرحية "سهرية". كان ينظم مسابقة للغناء، وفي النهاية قمعَ المشاركين.

لكن المشهد الآن مختلف، والغلبة الصوتية للكثرة. سرعان ما تكتشف حجم المهمة الشاقة على شخص واحد يحاول البقاء هادئًا وسط الضجيج والانفعالات وتضارب الآراء، وتتمنى أن يكون قد أخذ حبة مهدئ قبلًا.

النقاش بدأ حول بيان المبادرة التي يصفها بمشروع إشراك المجتمع المدني في الانتقال السياسي المنشود. لا خلاف بين الحضور على الهدف، بل على نقاط مثل ذكر القرار الأممي 2254 وما إذا كان ذا جدوى بعد سقوط النظام، ومسار العدالة الانتقالية، والمخاوف من تحوّلها إلى انتقامات عشوائية تضرب السلم الأهلي. 

المتفائلون يرفعون أياديهم بلهفة طالب للكلام بعد كل مداخلة متشائمة، ليهدّئوا الحضور بـ "رواق يا جماعة"، ويطلبوا منهم التركيز على سقوط "الثور الكبير" وإمكان تقويم الخط الأعوج بالتعاون والنوايا الطيبة.

يضيع التفاؤل وسط الشكوك إزاء الحكام الجدد وماضيهم الدموي. يرد المتفائلون بأن العالم لن يسمح بدولة دينية جديدة، في وقت حتى السعودية تبدّل فيه جلدها بـ "جلد ساقي جينيفر لوبيز". يتساءل آخرون عن الضمانات الدولية. ويطفح الكيل بسيدة تقف فجأة لتوبخ الحضور على ما يقولونه من "حكي فاضي" بينما "البلد يغرق".

اللجان السبع

رسا الاجتماع على تشكيل لجان متخصصة، أبرزها لجنة للسلم الأهلي، فيما الأخرى تنظيمية وسياسية وقانونية واجتماعية وإعلامية وثقافية، توزّع عليها من رغب من ذوي الخبرة. وقد تمثل الهدف بتحديد أولويات الناس من احتياجات وهواجس، وفق غدير، الذي اعتبر أن اللجان هذه ضرورية، وإن كانت لا تكفي. لكنّ غدير يعول على اندفاع المجتمع للمشاركة، سواء بدافع التوق إلى التعبير أو الخوف من الفراغ وسلطة الأمر الواقع، والأمل بتغيير حقيقي نحو دولة قانون تعلي من شأن الحرية والكرامة والتعددية.. والعدالة الانتقالية التي تطال الجميع.

"من يخاف يخسر، الكرة في ملعبنا، ولا خيار إلا مواصلة العمل والتعبير الحر وتكريس مفهوم المواطنة"

عقدت اللجان اجتماعات عديدة لاحقًا، لم تخل من فوضى يراها غدير طبيعية في مجتمع يحبو في هذا المجال. وتوصّلت اللجان السبع في النهاية إلى وثيقة تأسيس تمهّد إلى نقل المبادرة إلى مستوى الحركة المدنية.

"اندساس وطني"

ترافقت التحضيرات مع صدامين، أولهما في قرية خربة المعزة بريف صافيتا، إثر اقتحامها من قوات إدارة العمليات العسكرية للقبض على مطلوبين من "فلول" النظام. انصبّ العمل في تلك اللحظة على التفريق بين حقائق وشائعات عن "إبادة" تجري في القرية. أنفق الناشط فؤاد شدود وقتًا طويلًا في الاتصالات بمعارف في المنطقة للتأكد والتهدئة.

بيد أن الامتحان الأصعب تمثل في الصدام الثاني، بعد يوم من أحداث "الخربة". تظاهرة لعلويين بعد فيديو يظهر إحراق مقام الخصيبي في حلب. يقول فؤاد إن شعورين متضاربين انتاباه وهو يراقب التظاهرة أمام مبنى المحافظة؛ شيء من سعادة برؤية تعبير سلمي في الشارع، ورهبة مما قد تنقلب إليه الأمور.

اختار فؤاد "الاندساس" مع غدير في صفوف المتظاهرين، لنقل عدوى شعار "الشعب السوري واحد". هتفا به، متنقلين بين "تظاهرة الخصيبي" وأخرى قادمة لمواجهتها. جرت التهدئة بمساعدة عناصر الهيئة الذين اكتفوا بالمراقبة من دون عنف، وسُمع أخيرًا شعار الشعب الواحد بـ "قدرة قادر".

مبادرة "مشيخية"

لم تشهد طرطوس في سنوات الثورة صدامًا علويًا ــ سنيًا مباشرًا، إلا في ريفها. جراح البيضا ورأس النبع والمتراس لم تلتئم، فيما بقيت المدينة هادئة، محتقنة بطبيعة الحال. بعد سقوط النظام، انقسمت المدينة، دون صدام، بين فرِحين يصعب حصرهم بطائفة واحدة، ومكروبين لم يستوعبوا أن الأمر حصل فعلًا. سارعت شخصيات عامة لتهيئة الأجواء للتغيير الجديد. ولم يخل المشهد من مشايخ حاولوا التصدي للمهمة، داعين شخصيات عامة للانضمام إليهم، لكن باسم طوائفهم. 

كان الناشط والمعتقل السابق نبيه نبهان ممن وُجهت إليهم الدعوة. انضم إليها بداية ثم انسحب. يقول: "حاول رجال دين تقديم أنفسهم كممثلين للذراع المدني للسلطة الجديدة، وتطعيم مبادرتهم بكوادر مدنية من طوائف مختلفة، لكنّي رفضت اعتباري ممثلًا لطائفة، واشترطت المشاركة على أساس المواطنة السورية، كما تحفّظت على غياب التمثيل للمرأة، وعلى تسمية اللقاء بأنه لقاء بين ممثلي الطوائف. هذه التسميات لا تبني دولة مدنية ديمقراطية، بل تؤسس لصدامات أهلية".

في المقابل، يتفاءل نبهان بمبادرة "الحوار المدني" الآخذة في تشكيل كيانها الجديد في طرطوس، كحركة مدنية ديمقراطية لنشر ثقافة المواطنة والسلم الأهلي والدفاع عن القضايا ذات الصلة، عبر أدوات نضال سلمية والمشاركة في أعمال الإغاثة والدعم الإنساني، ورصد وتقييم الحوار الوطني ومسار العدالة الانتقالية والحريات العامة، وغيرها من القضايا الأساسية.

اللقاءات بـ "المؤثرين" مجتمعيًا

في "جمعية فضا" للتنمية المجتمعية، تحاول رئيسة مجلس الإدارة ماريا عباس دعوة شخصيات إيجابية مؤثرة، في محيطها أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، للتوعية ومشاركة التجارب الناجحة. تقول: المجتمع المدني في سوريا ضعيف، كمعارف وإمكانات، لذا نحاول بناءه معرفيًا استعدادًا للمرحلة المقبلة، كالتوعية بالعدالة الانتقالية، ولامركزية المحاسبة، واختيار أشخاص خبراء ونزيهين يمثلون كياناتهم حقًا، ليكونوا جزءًا من التأثير المطلوب.

ترى ماريا ضرورة لإرساء ثقة متبادلة بين السلطة الجديدة والأهالي. تشيد بتجربة مدينة الدريكيش في تقاسم مسؤوليات المخفر بين شباب من الأهالي وعناصر من الهيئة،لسد الفراغ الأمني، وتأمل بتعميم التجربة في مختلف الدوائر.

"من يخاف يخسر"

رئيس جمعية أصدقاء الموسيقى في طرطوس، المايسترو بشر عيسى، من المتفائلين. حوّل الجمعية في الشهر الأول بعد سقوط النظام إلى ملتقى لممثلي الجمعيات وأعضاء الكورالات الأربعة وعائلاتهم. يراهم جميعًا بذرة لمجتمع مدني مؤثر وضاغط. يركز في اللقاءات على الفعل الإيجابي، بعيدًا عن سلبية الخوف والتشاؤم. يقول: "من يخاف يخسر. الكرة في ملعبنا، ولا خيار إلا مواصلة العمل والتعبير الحر، وتكريس مفهوم المواطنة من خلال الفن".

يتفاءل الفنان نغم عرنوق بدوره بالأفضل. يرى أن المجتمع محكوم بالتجربة، وأن التجربة المدنية في طرطوس ستنضج وتزدهر، وأي ارتباك حالي هو نتيجة طبيعية في مناخ كان يمنع العمل المدني أو يشترطه عبر مظلات سلطوية محددة. يقول: "أمام المجتمع فرصة ليكون قويًا أمام أي سلطة قادمة، عندها يستطيع فرض إرادته وإيجاد صيغة تعاون مع الدولة".