داخل "الخارج" وخارج "الداخل"

لأنّي أشعر دائمًا بأنّي أضع قدمي بصورة أو بأخرى بين عالمين: عالم داخل سوريا وآخر خارجها، فإني أستطيع التماهي مع أحاسيس كل من الجانبين وتفهّم مشاعر الضيق والحساسيات الصغيرة التي قد تنشأ بينهما في قادم الأيام. 

لا أعلم حقًا كيف احتمل المغتربون بصورةٍ قسرية، من المعارضين السياسيين والمطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية، هذا الحرمان من العودة إلى البيت طوال كل هذه الأعوام. ولا أعلم على المقلب الآخر كيف احتمل من ظل داخل سوريا تلك الحياة المليئة بالخوف والعوز والظلم والضيق. 

غادرتُ سوريا قبل ثلاث سنوات، ولم أُمنع من العودة إليها برغم أن الاحتمال هذا كان ممكنًا في أي لحظة، نتيجة موقفي السياسي أو عملي الصحفي. زرتها أربع أو خمس مرات في السنوات الماضية. ومع ذلك، فقد هزّت مغادرتها كياني بالكامل وما زال أثر ذلك مستمرًا حتى الآن. 

اخترتُ الرحيلَ طواعيةً لأسباب عديدة، منها بالتأكيد عجزي عن محاربة طواحين الهواء وشعوري بأن البلاد سرقت شبابي. لم أشعر يومًا أنّي حاضرة بكل كياني في اللحظة التي أعيشها في اسطنبول. دائمًا، وفي كل لحظة، كنت أشعر أن هناك جزءًا مفقود مني تركته في سوريا.

حين نحزم حقائبنا للسفر، نبذل قصار جهدنا كي لا ننسى شيئًا ورائنا. لكن هذا الجزء المفقود من الهوية لا يمكن توضيبه في حقيبة. وبرغم أنّي كنت أعود إلى البلد في زيارات قصيرة، إلا أني لم أعثر عليه يومًا.

 كيف احتمل من غادروا البلاد قسرًا، مدركين أنهم قد لا يعودوا إليها يومًا، هذا الشعور العميق باليُتم وانقطاع الأوصال؟ وبماذا رمموا الجزء المفقود من أرواحهم؟

أعلم أن الكثير منهم اختاروا في سبيل النجاة "قتل البلاد في ذاكرتهم". تظاهروا بأنهم ينفصلون عنها إلى غير رجعة للتحايل على شعورهم بالنبذ والحرمان. وفي اللحظة التي عادت فيها البلاد لتكون لهم، سقطت دفاعاتهم جميعها واعترفوا بأن جل ما يريدونه فقط هو العودة إلى البيت.

 يمتلك السوريون الذين ظلوا في سوريا جوعًا عنيدًا إلى الحياة، ولهذا ربما أنا سعيدة بأن سقوط النظام حصل بهذا التوقيت من العام

في الأسابيع الأخيرة، انشغلتُ بتخيّل لحظات اللقاء الكثيرة بين المهاجرين قسرًا ومن ظلّوا في البلد لأنهم استطاعوا ذلك أو اختاروه. ولأنّي أشعر دائمًا بأنّي أضع قدمي بصورة أو بأخرى بين عالمين: عالم داخل سوريا وآخر خارجها، فإني أستطيع التماهي مع أحاسيس كل من الجانبين وتفهّم مشاعر الضيق والحساسيات الصغيرة التي قد تنشأ بينهما في قادم الأيام. 

يشعرُ من بقي طوال حياته داخل سوريا، تحديدًا من الفئات الشابة، بأن أقرانه حصلوا على فرصٍ أفضل في التعليم، وتمتعوا بإجازات صيفية مُرفّهة، وزاروا مدنًا أوروبية لم يتعرّفوا هم إليها سوى على الخرائط. أما هم ـــ أي من آثر البقاء ـــ فقضوا شبابهم في خوف على حياتهم وفي انتظار الكهرباء والمطالبة بأبسط حقوقهم المعيشية والسياسية. هؤلاء بالتأكيد يشعرون الآن بنوعٍ من الحرج، لأن الحصار الاقتصادي جعل هيئاتهم رثّة، وبيوتهم متواضعة ومهلهلة. 

وفي الحقيقة، يمتلك السوريون الذين ظلوا في سوريا جوعًا عنيدًا إلى الحياة بأبسط صورها الطبيعية. ولهذا ربما أنا سعيدة بأن سقوط النظام حصل بهذا التوقيت من العام. فمن يدخل إلى سوريا اليوم بعد اغترابٍ طويل سيرى بأم عينيّه ظروف الحياة المزرية التي عاشها السواد الأعظم من الناس، وسيختبر معهم البرد وانقطاع الكهرباء، كما سيختبر معهم فرحه بالرجوع إلى مكانٍ تغرّب عنه قسرًا. 

ففي اللحظة التي دخل فيها المصورون والصحفيون العاملون في وكالات الأنباء أفواجًا إلى دمشق، فكرت بأخي وأصدقائي المصورين الفوتوغرافيين، أولئك الذين حاولوا طوال سنوات الالتفاف على هوامش الرقابة، وانشغلوا بتصوير العشوائيات من كل زاوية ممكنة لأنهم لم يستطيعوا تصوير ما أرادوا تصويره حقًا.

فكرت بمن كان منشغلًا بدلالات اللون الرمادي لأنه لم ير يومًا بلاده ملونة. حزنت على هؤلاء بكاميراتهم الصغيرة المتواضعة وعدة تصويرهم القديمة التي لم يمتلكوا ترف استبدالها أو تطويرها. 

أعود هذه الأيام كثيرًا لتذكر مقالة كتبتها عام 2013، عنوانها: "قليلٌ من الضيق فحسب" عبّرت فيها حينذاك عن ضيق طفيف أصابني من مقارنة الحياة التي أعيشها في دمشق بحيوات الآخرين من رفاقي في الخارج.

يميل بعض من عاش في الخارج إلى اتهام من بقي في البلد بـ"التطبيع مع النظام"، فيما لا يعرف الذين ظلوا داخل سوريا شعور المهاجرين باليُتم

في المقالة، اعترفت كعادتي بالمشاعر التي يخجل الآخرون من الإفصاح عنها. تحدثت عن الغيرة والصراع المخفي وغير المنصف بين من ظلوا داخل سوريا ومن خرجوا منها، ودافعت عن مشاعر الطرفين وحاولت التماهي معهما. في ذلك اليوم من عام 2013 كتبت: 

"أفكر أحيانًا: ماذا يعني الانتماء لبلادٍ حقًا؟ أتظل البلادُ بلادًا إن فقدت سكّانها؟ أليست بحاجة لأبطالٍ كي يؤدوا مشاهد الحياة الطبيعية أو لقطات الحرب؟ من سيكنس الشوارع ويشم رائحة الشتاء الأول إن ذهب الجميع؟ من سيخلق أزمة المواصلات وطوابير الخبز؟ من سيُقتل، أو يتدبّر أمره في البقاء على قيد الحياة؟ من سيحصي العصافير والقذائف؟ من سيجلس أمام شباكٍ مفتوحٍ معترفًا بأنه يشعر بالقليل من الضيق فحسب؟".

ربما أكثر ما يُحزنني هو أن النظام السوري نجح طوال المرحلة الماضية بتأليب الناس على بعضهم البعض، وخلق معارك وهمية بينهم قد نتعامل مع نتائجها لسنوات.

يميل البعض ممن عاش في الخارج إلى اتهام من بقي في البلد، أو عاد إليها مُبكرًا، بـ"التطبيع مع النظام" ومنح الشرعية لبشار الأسد. حتى أن البعض يعاير غيره بتاريخ الخروج من سوريا. فمن خرج مبكرًا كان بنظره أقل تطبيعًا مع النظام مقارنة، مثلًا، بمن خرج بعد عام 2018. كما لو أنه حدث مرّة، في التاريخ البشري، أن غادر شعبٌ بأكمله بلاده لإظهار عدائه للديكتاتور.

في المقابل، لا يعرف أولئك الذين ظلوا داخل سوريا شعور أقرانهم المهاجرين باليُتم. هم لم يُجربوا شعور الاشتياق إلى البيت دون القدرة على العودة إليه، ولا الشعور بالضياع لفقدان البوصلة. لم يُجربوا الشعور بالوحدة التي تنخر عظام المرء وتجعله يُشكك بقيمته ومعنى وجوده.

أعتقد أنّي أستطيع الاستمرار على هذا النحو لكتابة مجلدات تثبت فكرة بسيطة لا تحتاج إثباتًا: "من بقي في البلد ومن تركها كان خاسرًا. جميعنا خسرنا، وخساراتنا أخذت أشكالًا مختلفة".

منذ الثاني من كانون الأول/ديسمبر، تاريخ خروج حلب من قبضة النظام السوري حتى اليوم، شاهدنا أطنانًا من اللقطات المؤثرة، لكنّي ما زلت أرى في مشهد لقاء شقيقين أشيبين يتمرغان على الأرض ويبكيان لحظة العناق في ريف حلب المشهد الأكثر أيقونيّة.

من يستطيع أن يميّز مَن بقي منهما في الداخل ومن عاش في الخارج؟ ماذا فعلنا جميعنا، داخل البلاد وخارجها، لنخسر ما خسرناه ولنعيش ما عشناه؟

زمن "الـسكوبات": الإعلام السوري الخاص غارقٌ في النميمة الفنية

كان يمكن التساهل مع المحتوى الإعلامي السوري لو كانت اللقاءات الصريحة والفظة مع المشاهير جزءًا من لقاءات ص...

نور أبو فرّاج
قطاع غزّة حبيس تلفزيون الواقع

المفزع في التشابه بين "تلفزيون الواقع" و"واقع غزّة" أن المُشاهد تجاوز مرحلة "اعتيادية مشاهد الدمار والقتل...

نور أبو فرّاج
خطاب الكراهية ضد السوريين في تركيا: سارقو الأنقاض ومكتنزو الذهب وبيضة القبان!

في الأشهر الماضية، وصلت حملات التحريض التي تستهدف السوريين في تركيا إلى درجات غير مسبوقة، وساهم في تأجيجه...

نور أبو فرّاج

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة