حرائق الساحل السوري: ما العمل؟
فيما كانت فرق الإطفاء تكافح لإخماد الحرائق في اللاذقية، كانت دعوات تظهر لجمع أموال والتحضير لعملية تشجير المناطق المحترقة. لكن الخطر يكمن في التشجير الخاطئ الذي قد يقضي على فرص تعافي النظام البيئي الطبيعي.
فيما كانت فرق الإطفاء تكافح لإخماد الحرائق في اللاذقية، كانت دعوات تظهر لجمع أموال والتحضير لعملية تشجير المناطق المحترقة. لكن الخطر يكمن في التشجير الخاطئ الذي قد يقضي على فرص تعافي النظام البيئي الطبيعي.
مرّ شهر على موجة الحرائق الواسعة التي اندلعت في الساحل السوري (أوائل تموز/يوليو 2025)، وطالت مساحة قدّرتها وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي السورية بنحو 14 ألف هكتار، أي ما يعادل نحو 3 في المئة من الغطاء النباتي في سوريا (وفقًا لأرقام الحكومة السورية لعام 2023). حجمُ الأرضي المحروقة في الساحل تلك يفوق مساحة العاصمة دمشق.
وبرغم أن الحرائق هذه هي الأكبر التي يشهدها الساحل السوري خلال العقدين الأخيرين على أقل تقدير، فإن النظر إليها باعتبارها كارثة آنية لا يصحّ، إذ إن موجات الحرائق أنتجت خلال السنوات العشر الماضية جرحًا بيئيًا كبيرًا في سوريا، فيما ساهمت عوامل بشرية في اتساع هذا الجرح.
وقد اندلعت الحرائق بعد أيام قليلة من إنذار أطلقته "منظمة الأغذية والزراعة" التابعة للأمم المتحدة (الفاو) مفاده أن سوريا تمر بأسوأ موجة جفاف في العقود الأخيرة، مقرونة بواحد من أقصر فصول الشتاء التي عرفتها البلاد منذ سنوات طويلة. وساهمت سرعة الرياح وحالة الجفاف في اتساع رقعة الحرائق بشكل كبير في جبال اللاذقية، وصولًا إلى المناطق الحدودية مع تركيا، وشملت مناطق حرجية وغابات وقرى صغيرة.
وقد استمرت عمليات الإطفاء نحو 12 يومًا، وشاركت فيها دول من المحيط (تركيا وقطر والأردن والعراق ولبنان)، كما أعلنت السلطات السورية عن مشاركة أوروبية فيها أيضًا. كان هذا أول مؤشر عن حجم الجهد الذي تطلبه إطفاؤها وحجم الكارثة البيئية التي خلّفتها، خصوصًا في غابات الفرنلق، إحدى أكبر الغابات في سوريا، والمحمية الطبيعية التي تضم أنواعًا مختلفة من الأشجار التاريخية، وموطن عدد كبير من الحيوانات.
بين عامي 2010 و2018، شهدت سوريا موجات عدة من الحرائق، بعضها اندلع بسبب تجوازات بشرية غابت عنها المحاسبة. وعلى مدار العقد المذكور (بين 2010 و2020)، تراجعت نسبة الغابات في الساحل بنحو 25%، ونجم بعض ذلك عن العمليات العسكرية في المنطقة.
تآكلُ المساحات الحرجية هذا دفع وزارة الاتصالات والتقانة في سوريا، عام 2020، إلى إطلاق "منصة الغابات ومراقبة الحرائق"، التي قامت على مدار الأعوام اللاحقة بإصدار نشرات إنذارية حول الفترات التي يرتفع فيها مؤشر خطورة اندلاع الحرائق. وتُظهر الخرائط الدورية التي تنشرها المنصة أن غابات المناطق الساحلية السورية وأحراجها واقعة ضمن دائرة الخطر على الدوام، علمًا أن مؤشر الخطورة كان "مرتفعًا جدًا" قبل يوم واحد من اندلاع الحرائق الأخيرة في ريف اللاذقية (التي يتم إعدادها ـــ أي الخرائط ـــ عبر تعاون يجمع وزارتي الاتصالات والزراعة، وهيئة الاستشعار عن بعد).
شهدت السنوات الماضية حرائق متكررة وقطعًا عشوائيًا للأشجار وتشجيرًا بأنواع غير ملائمة، وهو ما أضعف قدرة الغابات على التجدّد الطبيعي
يُظهر آخر إحصاء نشرته وزارة الزراعة أن الحرائق طالت 2,152 هكتارًا من الأراضي الزراعية التي تضم بساتين زيتونٍ وحمضياتٍ وأشجارٍ مثمرة، ما يعني أن الأُسر التي كانت تعتاش على هذه الزراعات خسرت مصدر رزقها.
ووفقًا لتقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في 13 تموز/يوليو 2025، فقد تأثر أكثر من14,000 شخص جراء الحرائق في ريف اللاذقية الشمالي، وتم إجلاء أكثر من 1,150 من بين هؤلاء.
وقد ذكر وزير إدارة الكوارث والاستجابة للطوارئ في الحكومة السورية، رائد الصالح، أن دراسة تُنجز لبحث سبل تعويض المتضريين، غير أن الآلية التي ستُعتمد للتعويض لم تتضح ملامحها بعد.
وتحتاج الأشجار المتضرّرة إلى وقت طويل للتعافي. وفي بعض الحالات، قد يتطلب الأمر زراعة بدائل لها، ما يعني أن الضرر قد يكون ذا أثر يمتدّ لسنوات.
فأبو حسان، مثلًا، وهو مزارع تضرّرت أرضه المزروعة بالزيتون نتيجة حرائق اجتاحت اللاذقية عام 2020، ما زال يعاني من أثر الحرائق حتى اليوم. يقول إن "عمر بعض الأشجار يفوق الستين عامًا". ويضيف: "الآن، وبعد كل ما بذلناه من جهد، لا يُنتج الزيتون إلا نصف محصوله السابق على اندلاع الحرائق".
ويرى الباحث في الأكاديميَّة الروسية للعلوم الزراعة، عبد الرحمن صالح، أن الحرائق الأخيرة في غابات الفرنلق وريف اللاذقية تسبّبت في دمار واسع للغطاء النباتي الطبيعي، خصوصًا في الأنظمة البيئية المتوسطية الحساسة. ويضيف أن "الأثر لا يقتصر على الأشجار فحسب، بل يشمل فقدان موائل للطيور والزواحف، وتدهور التربة، وتزايد خطر الانجراف، بالإضافة إلى اختلال في دورة المياه المحليّة بسبب تراجع قدرة الغابات على الاحتفاظ بالرطوبة. كما أن انبعاثات الدخان والجُسيمات الدقيقة أثرت على جودة الهواء والصحة العامة للسكان".
ويشير صالح إلى أن السنوات الماضية شهدت حرائق متكررة وقطعًا عشوائيًا للأشجار وتشجيرًا بأنواع غير ملائمة، وهو ما أضعف قدرة الغابة على التجدّد الطبيعي، وخلق خللًا في التوازن البيئي. فبعض المواقع أصبحت عرضة لغزو أنواع نباتية دخيلة، وهو ما زاد من هشاشتها أمام الكوارث البيئية.
ومن أنواع النباتات الدخيلة يذكر صالح الأوكاليبتوس ،(Eucalyptus)التي تُسمّى محليًَّا "كينا"، وهي شجرة أسترالية ضخمة تمتصّ كميات كبيرة من المياه الجوفية، وقد استُخدمت في عهد حافظ الأسد للتَّشجير بعد الحرائق بسبب رخص غراسها وسهولة إنتاجها. وهناك الباولونيا (Paulownia)أيضًا، وهي شجرة صينية سريعة النمو، ولسان الطير (Ailanthus Altissima) وهي نوع بالغ الخطورة لناحية تهديده النباتات المحليّة.
فيما كانت فرق الإطفاء تكافح لإخماد الحرائق، كانت تظهر دعوات لجمع أموال والتحضير لعملية تشجير للمناطق المحترقة. لكن الخطر يكمن ـــ كما يفيد خبراء بيئيون ـــ في التشجير الخاطئ الذي قد يقضي على فرص تعافي النظام البيئي الطبيعي.
وفي ظل التغيرات المناخية وموجة الجفاف التي تضرب البلاد، تبقى المناطق المتضرّرة عرضة لحرائق لاحقة، وهو ما يتطلب جهدًا خاصًا لتلافي وقوع كوارث بيئية جديدة وتراكم خسائر يصعب تعويضها.
يشجع صالح على ابتداع أساليب للحدّ من الخسائر في المستقبل من قبيل إنشاء ممرات عازلة في المواقع الحساسة، وزراعة نباتات أقل اشتعالًا على أطراف الغابات، وتعزيز المراقبة المجتمعية بالتعاون مع السكان المحليين، وإطلاق مشاريع توعية بيئية في المدارس، وإنشاء فرق متخصصة محليًا، وتحسين البنية التحتية للإطفاء.
قد يبدو ما ذُكر، في ظل الظروف التي تعيشها سوريا حاليًا، ترفًا لا قدرة عليه. غير أن إلقاء نظرة على النتائج التي قد يسبّبها إهمال هذا الملف تكفي لأخذه على محمل الجد، فالتذرّع بـ"الأوضاع الحالية غير المناسبة"، كما جرى سابقًا، له آثار تصعب مداواتها بسهولة في المدى المنظور.