
مرّ "يوم المرأة" باهتًا هذا العام. مرّ كأي يوم من أيام المجزرة الاسرائيلية الممتدة من غزة الى لبنان، والإعصار القائم على مساحات واسعة من بلاد الشام. يوم عادي من أيام المواجهة في بلاد اليمن. تلته أيام أخرى من العدوان والموت المتنقل في هذه الخريط.
في مساحة المواجهة، خرجت نساء صنعن الحدث، من دون تخطيط، ولا أي شكل من أشكال التنظير.
سنديانة الساحل التي كانت تحرس جثث أولادها، بصبر وكتمٍ للدموع، قبلت الموت ولم تقبل تهمة التآمر على أبناء بلدها، وقالت للقاتل "فشرت".
خرجت قبلها امرأة محجّبة، وقفت عند الحافة الأمامية لقرى جنوب لبنان، بثبات أمام آلة القتل الإسرائيلية، قبلت خطر الموت ولم تقبل احتلال الأرض مجددًا ، وقالت للجندي المحتل "قوصني".
خرجت قبلهما، وأحيانًا بالتزامن معهما، نساء من غزة، ومن الضفة، ومن جنوب لبنان يواجهن بثبات القاتل، ويواجهن الحرب الإسرائيلية التي لم تنتهِ بعد.
هؤلاء النسوة منتميات ــــ غالبًا ــــ لبيئات تُعرّف بالمحافظة، أمهات شهداء، شقيقات شهيدات، بنات عائلات استشهد أفرادها. لم تخرج من شفاه إحداهن كلمات انكسار رغم هول المجازر وثقل الفقدان، وتلذّذ القاتل بتنويع وسائل القتل. لم تحمل أي واحدة منهنّ راية الدعوة لترك هذه البلاد برغم التضحيات الجسيمة التي قدّمنها.
لقد خرجت هؤلاء النساء بصمت من مساحة الظل، ليصنعن دون تخطيط مسبق شكلًا جديدًا للمواجهة والهوية والبقاء، كأنهن يحرسن العائلة والبيت والخيمة والأرض والذاكرة والقصيدة، قصيدة الشاعر الراحل موسى شعيب حين كتب: "هنا باقون مثل الصخر لن نبرح".
خرجت بعض هؤلاء النسوة إذًا من مساحة الظل، لبعض الوقت فقط، ثم عدن إليها مستمرّات بصمت وخفر في المواجهة اليومية، مع آلة الحرب، مع سياسات التجويع في غزة، والقتل في الضفة وجنوب لبنان، وسياسات الإفقار والتخويف والتلويح بالتقسيم الذي تصنعه قوى ما (كبرى دولية أو صغرى محلية) في سوريا وربما أبعد منها. خرجن في ردائهن المختلف عن التصنيفات والرؤى الرأسمالية التي تُلغي ميزات المرأة العربية، ومن بينها أنهنّ في لبنان وفي غزة صامدات محتسبات، متمسّكات بالأرض.
كيف نحرر السردية النسوية العصرية من مفردات القاموس النيوليبرالي، من دون أن نقطع مع تطورات العصر ولا مع الحداثة المتقدمة؟
مرّ يوم المرأة باهتًا هذا العام. لكنّ تدقيقًا في وجوه نساء المواجهة يفتح الباب لنقاش جديد، ويعبّد لنا الطريق نحو فعل ما أكثر التصاقًا وفهما لواقعنا السياسي والاجتماعي، نحن المتفرجات والمتفرجين بألم وبعجز على المجزرة الممتدة منذ أكثر من عام. طريق لا نستسلم فيه لما "يُكتب" لنا في المستقبل والجغرافيا.
نحن أمام إعصار يعيد تشكيل جزءٍ من منطقتنا العربية. ثمة بلدان أمام خطر التفكك وأخرى غارقة في صراعاتٍ أهلية، وثالثة تنوء تحت وطأة انعدام الأمان الاجتماعي والفقر ونهب ثرواتها.
الإعصار يشتد، ومفاعيله كما نراها، لا تقتصر على السياسة بالمعنى المرتبط فقط بفن الحكم، بل بالتصاقها بحياة المجتمعات وتفاعلها معها وداخلها. سيولّد الإعصار الذي يجتاحنا أيضًا انقسامات مذهبية ومشكلات اقتصادية وتحديات تسهم في تشكيل جديد للمجتمعات، قد نتوقع بعضها ويغيب عن دائرة الرصد والتوقع بعضها الآخر. وكل ذلك سيتراكم فوق طبقات من الأزمات الممتدة منذ عقود طويلة.
النساء في قلب هذه التحولات، وسيرزحن تحت وطأة المشكلات الآتية. وإذا قامت نساء بفعل المواجهة المباشرة، فمن الضروري البحث في كيفية الالتحاق بهنّ لصياغة مشهد تحرري نهضوي، تتجاورُ فيه المرأة والرجل، ويعيد تعريف معنى "التحرر" مجددًا في بلادنا المهددة.
الالتحاق بهذا الفعل الذي صنعته النساء المذكورات يُخرجنا من موقع المتفرّج السلبي المقهور إلى مساحة الفعل. وأوّل الأسئلة هنا: كيف نخرج من دوائر التنظير إلى مساحات الاشتباك مع الواقع، من دون أن نتعامى عن هذا الواقع، فلا ننفي أبدًا أن الذكورية طاغية، حتى أيامنا، كأداء وتفسير لمفاصل الحياة العامة؟
كيف ننخرط في تمرين يستعيد مفهوم الإرادة كما عرّفته فاطمة المرنيسي في كتابها "سلطانات منسيات"، بحيث نوسّع مفهوم الإرادة لمواجهة كل "إرادات" الهيمنة على المرأة العربية، فتكون مواطنة مكتملة الحقوق والواجبات، لا جنسًا ثانيًا ولا ضحية فقط؟
ثم يأتي سؤال آخر: كيف نحرر السردية النسوية العصرية من مفردات القاموس النيوليبرالي، من دون أن نقطع مع تطورات العصر ولا مع الحداثة المتقدمة؟ كيف ننظف هذه السردية من الاجتزاء والاقصاء الذي انكشف بشكل كامل في رفض جمعيات "نسوية" غربية وعربية إدانة حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين، لتُخرج من فضائنا أي " خطاب نسوي ببغائي تغيـب عنـه القضايـا الوطنيـة، أفقـي، مجـزأ، مفتـت، وأطروحاتـه مفردنـة، وعنيفـة، وخائفـة مـن نفسـها ومـن هويتهـا"، وفق ما لفتت إليه الباحثة اللبنانية نهوند القادري؟
كيف نراكم تعلمًا ونقدًا فوق تجارب تحرريين وتحرريات منذ العاملية زينب فواز، وباحثة البادية ملك حفني ناصف، وهدى الشعراوي، وفوق تجارب رائدات في الفن والفكر مثل روز اليوسف، وأم كلثوم، وسعاد حسني، وآسيا داغر، وفيروز، أو المحاربات كجميلة بوحيرد، والفلسطينية فاطمة خاصكية، وغيرهن المئات بل الآلاف من النساء العربيات اللامعات في تاريخنا الحديث؟
كيف نجهد لتقديم تعريف جديد للنسوية، بما ذهبت إليه الكاتبة التونسية آمال قرامي، كنضالٍ سياسي مستمرّ ضدّ الأنظمة والبنى المرسّخة للهيمنة والاستغلال واللا مساواة واللاعدالة كافة، بحيث لا يكون النضال، بهذا المعنى، حكرًا على النساء؟
يواجه اليوم مقاومون ومقاومات آلة الحرب الإسرائيلية. في المقابل، فإن الشرائح المجتمعية المساندة لهم على امتداد الخريطة العربية، والرافضة للحروب الطائفية ولمشاريع التفتيت، لم تُنتج أطر اشتباك فعلية ضد مشاريع الهيمنة والحروب.
وتكاد صورة المثقف المشتبك تغيب، كما تُمحى من جداول الذاكرة والبحث صورة "النسوية" المشتبكة. هذا القنوط إنما يضرّ بنساء المواجهة أنفسهن، ويحيلهن بعد حين إلى مجرد صور نفتخر بها في ألبوم السنوات القاسية.