غزة: كيف وصلنا إلى هنا؟

النوايا الإسرائيلية واضحة تمامًا. إفشال الاتفاق، واستبداله إمّا بحملة متواصلة من الهجمات المتقطعة، أو بجهد أكثر تنسيقًا لإجبار الفلسطينيين على مغادرة غزة، وهو بند كان اقتراح ترمب الأرعن "ريفييرا غزة" قد أعاد وضعه على جدول الأعمال.

ترجمة: مهيار ديب

حتى لحظة كتابة هذه المقالة، أسفرت الغارات الجوية الإسرائيلية المكثّفة والقصف الإسرائيلي على مختلف أنحاء قطاع غزة عن مقتل أكثر من 400 فلسطينيّ، وإصابة مئاتٍ آخرين، في غضون ساعات قليلة. فكيف وصلنا إلى هنا؟

في كانون الثاني/يناير، أجبرت إدارة ترمب القادمة إسرائيل على قبول مقترح لوقف إطلاق النار كانت قد صاغته إلى حدٍّ بعيد الحكومة الإسرائيلية وكشف عنه، في أواخر أيار/مايو من العام 2024، رئيس الولايات المتحدة آنذاك جو بايدن.

وبإصرار من إسرائيل، لم يكن هذا المقترح اتّفاقًا شاملًا ينّفذ فيه كلّ طرفٍ التزاماتِه على نحوٍ متزامن ومتبادَل، بل كان عملية تتكون من ثلاث مراحل.

تتضمّن المرحلة الأولى، وتستغرق 42 يومًا، تعليق الأعمال العدائية، وتبادلًا محدودًا للأسرى، وانسحابًا إسرائيليًا محدودًا من قطّاع غزّة، وحرية الحركة للفلسطينيين الذين نزحوا قسرًا من منازلهم كي يعودوا إلى مجتمعاتهم، وتدفقًا للإمدادات الإنسانية إلى قطاع غزّة.

وتتمثل العناصر الرئيسة للمرحلة الثانية من الاتفاق في إتمام تبادل الأسرى، ووقف إطلاق نار دائم، وانسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من قطاع غزة، بما في ذلك حدودها مع مصر. ونظرًا إلى عدم تحديد آلياتٍ لتحقيق هذه الأهداف، فقد نصَّ الاتفاق على أنَّ المفاوضات حول تفاصيل المرحلة الثانية سوف تبدأ في اليوم السادس عشر من المرحلة الأولى، وعلى عدم استئناف أيٍّ من الطرفين الأعمال العدائية خلال هذه المفاوضات، حتى لو استمرت إلى ما بعد انتهاء المرحلة الأولى (تُعنى المرحلة الثالثة من الاتفاق بشكل رئيس بإعادة إعمار قطاع غزة).

كانت إسرائيل قد اقترحت هذا الاتفاق مفترضةً أنَّ "حماس" التي أصرت مرارًا وتكرارًا، منذ كانون الأول/ديسمبر من عام 2023، على وقف رسمي للأعمال العدائية وانسحاب إسرائيلي شامل من قطاع غزة مع بداية أي اتفاق، سوف ترفضه.

لا تريد إسرائيل تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، فالانسحاب من غزة ووقف إطلاق النار يعنيان انتهاء حملة الإبادة من دون تحقيق "نصر كامل"

وحين قبلت "حماس" الاتفاق في أوائل تموز/يوليو من عام 2024، خلافًا للتوقعات، ردّت إسرائيل بسلسلة من الشروط الجديدة: طالبت بسيطرة دائمة على المنطقة الحدودية بين غزة ومصر وبمنطقة عازلة ضمن قطاع غزة، ورفضت وقفًا رسميًا للأعمال العدائية، وأدخلت إضافات أخرى مصمَّمة لترفضها "حماس". وحظيت من إدارة بايدن بدعم كامل وغير مشروط لمناوراتها، وصرّح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ومسؤولون آخرون، بخضوع ومرارًا، بأنّ السبب الوحيد لعدم إتمام الاتفاق هو أنَّ "حماس" لم تقبل به بعد.

بعد فوز ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، كلّف مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، بالتوصل إلى اتفاق. ويبدو أنّ دافعه الرئيس كان تجنب أزمة في السياسة الخارجية خلال حفل تنصيبه في 20 كانون الثاني/يناير. ومع تصدر وفاة جيمي كارتر عناوين الأخبار في أواخر كانون الأول/ديسمبر، أراد ترمب بشكل خاص أن يتجنب ما يمكن أن يعتّم عليه مصير المواطنين الأميركيين المحتجزين في قطاع غزة.

ولم يحتج ويتكوف، برغم افتقاره إلى أي خبرة دبلوماسية سابقة، إلا إلى لقاء واحد مع بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي المتملّص، لإقناع إسرائيل بالموافقة. وبعبارة أخرى، فقد رفض بايدن لأكثر من نصف عام إجراء المكالمة الهاتفية الوحيدة التي كانت كفيلة بتحقيق النتيجة ذاتها.

وبرغم التهديدات العدوانية التي أطلقها ترمب بشأن "فتح أبواب الجحيم"، لم تكن هناك حاجة إلى الضغط على "حماس"، لأنها، على عكس حملة الدعاية التي شنتها إدارة بايدن، كانت قد أيدت الاتفاق بالفعل قبل نصف عام.

اتضح، على نحو يكاد يكون فوريًّا، أن هدف إسرائيل الرئيس هو تجنب تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق. فالانسحاب الكامل من قطاع غزة ووقف إطلاق النار رسميًا، يعنيان انتهاء حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية من دون تحقيق "النصر الكامل" الذي روّج له نتنياهو مرارًا، مما يُضعف "حماس" بدلًا من تدميرها، ويبقيها مسيطرةً على قطاع غزة.

توازيًا مع انتهاك الاتّفاقَ، تواصل التحريض الإسرائيلي على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بوتيرة متسارعة

كما أنَّ وقف الأعمال العدائية سوف يفضي أيضًا إلى انهيار الحكومة الإسرائيلية. وكان اليمين الكاهاني المتطرف بقيادة إيتامار بن غفير قد انسحب من الائتلاف الحاكم احتجاجًا على احتمال إنهاء المذبحة، وأكّدّت الصهيونية الدينية المتشددة بقيادة بتسلئيل سموتريتش على أنّها ستترك الائتلاف لحظة يوافق نتنياهو على وقف رسمي لإطلاق النار كما هو منصوص عليه في المرحلة الثانية من الاتفاق.

سوف تكون لخسارة نتنياهو السلطة تداعيات شخصية أيضًا، إذ سيصبح أكثر هشاشة حيال فضائح الفساد والمحاكمات العديدة المحيطة به (الأمر الذي تُعدّ مذكرة التوقيف الصادرة باسمه من قِبل المحكمة الجنائية الدولية أمرًا تافهًا بالمقارنة معه، إذ يُمكن لنتنياهو الاعتماد على حماية رعاته وحلفائه الغربيين للتهرب من المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية).

التحايل الإسرائيلي على الاتفاق

كان سرًا مكشوفًا، ومتداولًا على نطاق واسع، أن نتنياهو الذي جرّه ويتكوف مرغمًا إلى اتفاق كانون الثاني/يناير، لن يتوانى عن فعل أي شيء لتجنّب دخول مرحلته الثانية، المقررة في أوائل آذار/مارس. وكما كان من الممكن والواجب توقّعه، راحت إسرائيل تتلكأ منذ البداية، فلم تفِ إلا جزئيًا، أو راحت تنكث بالتزاماتها المختلفة، لا سيما ما تعلق بالسماح بدخول المساعدات الإنسانية والإمدادات إلى قطاع غزة على النحو المفصل في اتفاق كانون الثاني/يناير. كما استأنفت بسرعة قتل الفلسطينيين، بمن فيهم بالطبع الأطفال والعاملين في المجال الطبي والصحفيين. فقبل القصف الأخير، كانت قد قتلت أكثر من 120 فلسطينيًا، بمعدل أكثر من اثنين يوميًا، منذ دخول وقف الأعمال العدائية حيز التنفيذ في منتصف كانون الثاني/يناير.

ولتجنب التشكيك في نوايا إسرائيل، أعلن نتنياهو رفضه التفاوض على تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق كانون الثاني/يناير. واقترح بدلاً من ذلك أن تُطلق "حماس" سراح جميع الأسرى المتبقين، وتنزع سلاحها، وتغادر قطاع غزة نهائيًا، مع ضمانات مشكوك فيها بالمرور الآمن.

واستكمالًا لانتهاك إسرائيل الاتّفاقَ، تواصل التحريض الإسرائيلي على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بوتيرة متسارعة، وبلغ ذروته في شباط/فبراير حين تسلمت إسرائيل جثتي طفلين إسرائيليين صغيرين كانت إسرائيل تعلم بوفاتهما منذ أواخر العام 2023، كما أكد مؤخرًا وزير الدفاع الإسرائيلي السابق الملاحق دوليًا يوآف غالانت، لكنها ادّعت أنهما لا يزالان على قيد الحياة لأغراض دعائية.

وكانت "حماس" قد أعلنت آنذاك أنهما قُتلا في غارة جوية إسرائيلية، وهو ما يتوافق مع وفيات أسرى إسرائيليين آخرين. لكن الحكومة الإسرائيلية سرعان ما زعمت أن تشريح الجثتين كشف عن تعرضهما للخنق الوحشي حتى الموت، مع أنّه لم يُبلَّغ عن أي حالات مماثلة، ولم يُجرَ أي فحص أجنبي مستقل قبل دفن الطفلين.

بعد إنجاز تبادل الأسرى الإسرائيلي الفلسطيني الأسبوعي المنصوص عليه في المرحلة الأولى من اتفاق يناير، أعلنت "حماس" أنها لن تُفرج عن أي أسرى إضافيين إلا بعد إتمام مفاوضات المرحلة الثانية. ردّت إسرائيل باقتراح تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق التي يُستكمل خلالها تبادل الأسرى. وهذا كفيل بأن يتيح لها تجنّب المرحلة الثانية، لا سيما وقف إطلاق النار الرسمي أو الانسحاب من قطاع غزة، وعدم الاعتراف بما اتُفق عليه في كانون الثاني/يناير.

ولأنّ واشنطن أحبطها، في الظاهر، تعنّت إسرائيل وعرقلتها، فقد أرسلت مبعوثها الخاص بالرهائن، آدم بوهلر، للتواصل مباشرة مع "حماس". ركّزت المحادثات على إطلاق سراح الأسرى والجثث من حاملي الجنسية الأميركية المزدوجة، وهي أولوية لواشنطن. وفي محاولةٍ لإظهار المرونة وتوقٍ إلى إثارة الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة، عرضت "حماس" تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق لتشمل حاملي الجنسية الأميركية، إنّما شريطة البدء فورًا بمفاوضات جادة بشأن المرحلة الثانية.

بداية التصعيد الإسرائيلي

دقّت جهود بوهلر ناقوس الخطر في أوساط القيادة الإسرائيلية لأسباب متعددة. فلم يقتصر الأمر على تعامل الولايات المتحدة المباشر مع "حماس" لأول مرة، بل حصل ذلك من دون استشارة أو تنسيق مع إسرائيل، وفعلت واشنطن ذلك لضمان مصالحها لا مصالح إسرائيل. ومما زاد الطين بلة، أن بوهلر أشار في مقابلات صحفية إلى أن محاوريه من "حماس" بشرٌ لا حيوانات، وأن ما من قرون تبرز من رؤوسهم، وأنهم في رأيه "لطفاء للغاية". ثم ارتكب الخطيئة الكبرى بقوله: "نحن الولايات المتحدة. لسنا عملاء لإسرائيل".

خرجت المحادثات إلى العلن لأن إسرائيل الغاضبة سرّبتها إلى مختزليها الإعلاميين. وبرغم مما بدا من أنَّ بوهلر، الذي يتمتع بصلاحيات أضيق بكثير من ويتكوف، قد أنهى عمله ثم غادر، وأنّه لا يزال يحظى بثقة ترمب، فإن مصادر إسرائيلية ــــ عازمة على تحويل الأمل إلى واقع ــــ راحت تُفيد بأنه أُقيل بسبب تجاوزاته الصارخة.

هل تعتبر واشنطن التصعيد الإسرائيلي محاولةً لإجبار "حماس" على قبول التعديلات على الاتفاق أم حملة ذات أهداف أكبر من المفاوضات؟

بحلول هذه المرحلة، وخلافًا لالتزامات إسرائيل، استأنفت الأخيرة حصارها قطاع غزة في اليوم الأخير من المرحلة الأولى، ومنعت دخول الوقود والكهرباء والمياه إلى القطاع. ولم يوفّر المتحدثون الإسرائيليون فرصةً لتبرير ساديتهم الممنهجة بسخريةٍ لاذعة، بل أصرّوا على أنَّ السخاء الإسرائيلي يُهدّد بتأجيج جائحة من السمنة في قطاع غزة.

اقترحت واشنطن، سعيًا لتهدئة وكيلها الإسرائيلي، تمديد المرحلة الأولى من اتفاق كانون الثاني/يناير حتى نهاية عيد الفصح اليهودي في 20 نيسان/أبريل، على أن يشمل تبادل الأسرى خلاله إسرائيليين لا يحملون جنسية مزدوجة. وفي حين كانت "حماس" مستعدة لقبول تمديد محدود للمرحلة الأولى، فإنها رفضت ذلك ما لم تجري الموافقة أولًا على تفاصيل الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم، وضمان بدء مفاوضات المرحلة الثانية فورًا. ونظرًا إلى شدّة حساسية نتنياهو السياسية وحساباته الائتلافية قياسًا على تفاصيل اتفاق صاغه بنفسه، فقد رفض ويتكوف شروط "حماس" وحذّرها من عواقب وخيمة.

في تطور متصل، بدأت قوة المهام البحرية الأميركية في البحر الأحمر حملة قصف مفتوحة على اليمن ردًا على تهديد جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) باستئناف الهجمات على السفن الإسرائيلية إذا لم يُرفع الحصار عن قطاع غزة. وهذه في جوهرها عملية ترمي إلى جعل البحر الأحمر مكانًا آمنًا للإبادة الجماعية الإسرائيلية. وردّ الحوثيون بتعهّد بالاقتصاص من السفن العسكرية والتجارية الأميركية، في حين وجهت واشنطن أصابع الاتهام مباشرة إلى إيران. وما هي إلا بضع درجات قليلة أخرى من التصعيد، حتى يصبح حلم إسرائيل بمواجهة عسكرية أميركية ــــ إيرانية مباشرة حقيقة واقعة.

النوايا الإسرائيلية واضحة تمامًا. إفشال الاتفاق، واستبداله إمّا بحملة متواصلة من الهجمات المتقطعة، أو بجهد أكثر تنسيقًا لإجبار الفلسطينيين على مغادرة غزة، وهو بند كان اقتراح ترمب الأرعن "ريفييرا غزة" قد أعاد وضعه على جدول الأعمال. كما يحرص رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد، إيال زامير، على إثبات قدرته على تحقيق ما فشل به سلفه، هرتس هاليفي، بمذبحة وحشية. وليس هذا سوى استمرار لنسق إسرائيلي متّبع منذ زمن طويل بمواجهة التحديات السياسية بالعنف، نسق عادةً ما يخلص إلى أنّ الفشل ليس سوى إشارة إلى أن المقتلة المرتكبة لم تكن كافية.

لكن الموقف الأميركي أقل وضوحًا. لا شك أن أيًا من هذا ما كان ليحدث لولا موافقة واشنطن. ويبقى أن نرى ما إذا كانت واشنطن تعتبر هذا محاولةً لإجبار "حماس" على قبول التعديلات الأميركية على اتفاق كانون الثاني/يناير، أو بداية استئناف شامل لحملة عسكرية إبادية تحقق أهدافًا أكبر لا علاقة لها بهذه المفاوضات.

في هذه الأثناء، يُذبح من غير رادع مئات الفلسطينيين، بمن فيهم، مرة أخرى، عائلات بأكملها تمتد لأجيال متعددة،. وتواصل إسرائيل إفلاتها من العقاب، وفعلها ما تشاء كم دون أدنى محاسبة أو عواقب.

 

تُرجمت المقالة بالاتفاق مع الكاتب.