تأخذ قيمة العملة الوطنية – الليرة – أهمية خاصة في الوعي الجمعي للسوريين الذين لا يرون فيها انعكاسًا لقدراتهم الشرائية وواقعهم المعيشي وأمنهم الغذائي فحسب، بل أحد رموز كرامتهم. ولكن من منظور الاقتصاد، تتحدّد قيمة العملة الوطنية بالنسبة لسائر العملات بحسب الطلب عليها، والذي يتحدد بدوره نتيجة عوامل اقتصادية وسياسية ونفسية أحيانًا. وبشكل أدق، تتحدد قيمة العملة نتيجة:
أولًا، حجم العجز في الميزان التجاري، أي الفارق بين الصادرات والواردات. وكلما تفاقم العجز، ولم يكن من السهل إيقاف الاستيراد، انخفضت قيمة العملة الوطنية.
ثانيًا، حجم تدفق النقد الأجنبي من خارج عملية التصدير، وهذا ما يشمل تحويلات المغتربين، والتحويلات المالية للمستثمرين لإنشاء وتمويل المشاريع في داخل البلاد، فضلًا عن الودائع المالية والمساعدات الدولية. وكلما ازدادت هذه التدفقات وقلّصت من حجم العجز في الميزان التجاري، استقرت قيمة العملة الوطنية.
ثالثًا، الاستقرار السياسي والأمني في البلاد والذي يمكن أن يشجع المواطنين على الاحتفاظ بالنقد الوطني، أو يدفع غيابه المواطنين للتخلي عن النقد الوطني والبحث عن ملاذ آمن مثل الدولار أو الذهب (والذهب بدوره يكون في العادة مادة مستوردة يجب تمويلها بالنقد الأجنبي، مما يفاقم الطلب عليها من حجم العجز التجاري).
مسار الليرة السورية منذ الاستقلال كان باتجاه الانخفاض الذي كان تدريجيًا لعقود، وتسارع خلال سنوات الاضطرابات الأمنية والسياسية والعزلة الدولية. فقد انخفضت قيمة الليرة أمام الدولار من 2.19 ليرة للدولار في 1946 إلى 4.1 ليرة في 1980. ثم انهارت الليرة إلى مستوى 12 ليرة للدولار في 1986، ثم 48 ليرة للدولار في 1990.
الانخفاض الحاد خلال الثمانينيات كان نتيجة تبني بعض السياسات الليبرالية في سوريا، والتي سمحت للقطاع الخاص، اعتبارًا من 1971، بزيادة حضوره الاقتصادي. إلا أن النتيجة الفعلية كانت تنامي الاستيراد. فقفز عجز الميزان التجاري من 80 مليون دولار في 1970 إلى 1.71 مليار في 1977، وهو أول عام عانت فيه سوريا من مؤشرات نقص الاحتياطي من النقد الأجنبي.
كانت المساعدات المالية الخليجية في السبعينيات ــــ التي زادت عن المليار دولار سنويًا ــــ هي ما ساهم في تغطية عجز الميزان التجاري السوري. ولكنّ التباينات الناجمة عن الدخول العسكري السوري إلى لبنان في 1976 قلّصت المساعدات الخليجية، مما ساهم في أزمة النقد الأجنبي في 1977.
أعاد التقارب العربي مع سوريا، إثر توقيع مصر اتفاقية "كامب ديفيد" مع إسرائيل، المساعدات المالية العربية. كما هدأ معدل تضخم الواردات قليلًا خلال الثمانينيات لإدراك الحكومة السورية هشاشة احتياطاتها من النقد الأجنبي. لكنّ قدرات التصدير الذاتية بقيت متواضعة، وكان من الصعب احتواء كامل عادات الاستيراد التي تجذرت خلال العقد السابق.
في الأيام الأخيرة من 1986، كان المتبقي من النقد الأجنبي في المصرف المركزي السوري هو 144 مليون دولار فقط، وهو ما كان يكفي لتمويل أسبوعين فقط من الواردات
لهذا، بقي الميزان التجاري خاسرًا خلال الثمانينيات ويتراوح بين 1.5 و2 مليار دولار سنويًا. المساعدات الخليجية عادت لتتقلص خلال الثمانينيات، مما استنفذ مخزون سوريا من النقد الأجنبي. وفي الأيام الأخيرة من كانون الأول/ديسمبر 1986، كان المتبقي من النقد الأجنبي في المصرف المركزي السوري هو 144 مليون دولار فقط، وهذا ما كان يكفي لتمويل أسبوعين فقط من الواردات. وقد أثر ذلك بشكل حاد على سعر الليرة السورية خلال السنوات التالية، وعلى قدرة سوريا على الاستيراد. وهذا أدى بدوره لظهور أول أزمة قمح في تاريخ سوريا المعاصر والتي امتدت بين 1987 و1989.
الاكتشافات النفطية، في أواخر الثمانينيات في دير الزور، أعادت الاستقرار للميزان التجاري السوري. وخلال العقدين التاليين راوحت الليرة مكانها تقريبًا عند مستوى الخمسين ليرة للدولار. وفي 2010 تحديدًا كان السعر الرسمي والموازي متطابقًا عند 45 ليرة للدولار. إلا أن الليرة السورية كانت مهيئة لأن تشهد موجة أخرى من الانخفاض في قيمتها بسبب تنامي بعض المشاكل البنيوية وقرب خروجها عن السيطرة. والسبب هو التنامي الحاد للواردات وتراجع الصادرات. الرسم التالي يوضح ما حصل في الأعوام الخمسة السابقة للثورة السورية.
خلاصة المشهد أن الصادرات السورية بقيت تراوح مكانها تقريبًا عند 11 مليار دولار بين 2006 و2010، بينما تنامت الواردات بشكل مطرد، من 11.5 إلى 17.5 مليار دولار. وبالنتيجة، قفز العجز التجاري من 570 مليون دولار في 2006 إلى 6.2 مليار دولار في 2010. وبقيت الليرة السورية مستقرة أمام الدولار في تلك المرحلة لأن العجز تم تمويله من تحويلات المغتربين لعائلاتهم، وكذلك من دفع رسوم بدل الخدمة العسكرية الإلزامية للخزينة العامة، والتي بلغت آنذاك 5,000 دولار عن الشاب الواحد.
ومن المرجح أن العجز في العام 2010 اقترب من السقف الأعلى الذي يمكن لتحويلات المغتربين ورسوم بدل الخدمة العسكرية أن تغطيه. تنامي العجز – أي زيادة قيمة الواردات بالمقارنة مع الصادرات – جاء نتيجة ما يلي:
أولًا، تغيير عادات الاستهلاك السوري وزيادة الطلب على المستوردات كنتيجة للسياسات الليبرالية التي تبنتها الحكومة السورية بين 2003 و2005.
ثانيًا، تراجع حجم وقيمة الصادرات النفطية السورية التي كانت تشكل ما بين 35 و45% من مجمل الصادرات السورية. كما تراجعت الصادرات الزراعية الخام، خصوصًا من القمح والقطن، منذ 2008 وذلك بسبب الجفاف الحاد الذي ضرب البلاد.
ثالثًا، تراجع قدرات الإنتاج المحلي السوري، وتراجع التنافسية في أسواق المنطقة، خصوصًا بسبب منافسة البضائع التركية في تلك الأسواق. كما تضررت قدرات إنتاج الورشات الصغيرة في سوريا بسبب تنامي المستوردات من تركيا منذ توقيع اتفاقية التجارة الحرة في 2004.
الخسارة الأوضح نجدها في تراجع حجم الصادرات السورية لأكبر سوق يستورد منها، وهو السوق العراقي. ففي 2009 صدّرت سوريا للعراق ما قيمته 2.72 مليار دولار (28% من إجمالي الصادرات السورية) وفي 2010 صدرت سوريا للعراق ما قيمته 2.29 مليار دولار (20% من إجمالي الصادرات السورية).
الآن، حظوظ سوريا باستعادة حصتها من السوق العراقي ومنافسة البضائع التركية والإيرانية هناك منخفضة للغاية. فقد ارتفع حجم الصادرات التركية للعراق من 2.589 مليار دولار في 2006 إلى 6.036 مليار في 2010 ثم إلى 13.03 مليار دولار في 2024. كما ارتفعت صادرات إيران للعراق من 2 مليار في 2006 إلى 8 مليار في 2010 و12 مليار في 2024.
ماذا لو لم يحصل أي من أحداث 2011 وما بعدها؟
من المرجح أن تنامي الاستيراد كان سيستمر خلال العقدين الثاني والثالث من الألفية بما يفوق قدرات الصادرات السورية على المواكبة. والسياسات الاشتراكية التقشفية التي عادت سوريا لتبنيها في الثمانينيات، بدعمٍ من الكتلة الشرقية، لم يكن ممكنًا تطبيقها في القرن الحادي والعشرين. والتيار الليبرالي الذي يفضل الاستيراد كان سينتصر حتمًا. وإذا نجح هذا التيار برفع قيمة الواردات بـ6 مليارات دولار خلال السنوات الخمس، 2006 ـــ 2010، فليس هناك مبالغة في توقّع ارتفاع الواردات بـ6 مليارات أخرى خلال السنوات الخمس عشرة التالية، 2011 ـــ 2025.
يوضح الرسمان السابقان أن الصادرات السورية غير النفطية لم تتطور بين 2006 و2010. وهذه نتيجة طبيعية لتراجع أحوال الزراعة السورية، بتأثير الجفاف، وكذلك ضعف تنافسية الصناعة السورية أمام الصناعة التركية التي نافست المنتجات السورية داخل سوريا وفي أسواق التصدير على حد سواء. في أواخر العقد الأول من الألفية، كانت بعض الفعاليات الصناعية السورية، خصوصًا من الورشات الصغيرة، تغلق أبوابها بسبب المنافسة التركية.
والسيناريو الأكثر تفاؤلًا للوضع في 2025 – بالاعتماد على الوضع في 2010 – كان أن الصادرات السورية غير النفطية ستحافظ على وضعها من دون نمو كبير، ومن دون انهيار هائل. إلا أن النفط كان سيلعب دورًا سلبيًا كبيرًا في الميزان التجاري السوري. فقد كانت التوقعات السورية والدولية تشير إلى تساوي الإنتاج والاستهلاك في 2012 عند 300 ألف برميل يوميًا. ثم ستتحول سوريا لمستورد صافي للنفط، ويبلغ استهلاكها في 2025 نحو 450 ألف برميل من النفط، نصفها مستوردة.
هذا المشهد يعني خسارة الصادرات النفطية التي تراوحت بين 4 و5 مليار دولار بين 2006 و2010، واستيراد نفط بقيم أعلى. يعني هذا التغيير أن العجز في الميزان التجاري السوري كان سيرتفع، بحلول 2025، ليتراوح بين 16 و17 مليار دولار. وهذه الأرقام مثّلت السيناريو الأكثر تفاؤلًا على الإطلاق.
فهل كانت سوريا ستستطيع جمع 16 أو 17 مليار دولار سنويًا من تحويلات المغتربين لسدّ هذا العجز والحفاظ على استقرار الليرة؟ الجواب المرجح هو "لا"، والنتيجة الحتمية ستكون المزيد من الانخفاض في قيمة الليرة السورية.
ما سبق هو السيناريو الوردي غير الواقعي الذي يفترض أن سوريا لن تشهد أي نزاع مسلح أو أزمات سياسية منذ 2011 حتى اليوم. وبالعودة للواقع، نجد أن آخر البيانات المتوفرة للصادرات السورية تُقدرها بحوالي 771 مليون دولار (للعام 2022). هذه الصادرات غير نفطية والفجوة واضحة بالمقارنة مع الصادرات غير النفطية في 2010 والمقدرة بنحو 6 مليار دولار. أي أن سوريا خسرت نحو 5.3 مليار دولار من قدرتها التصديرية غير النفطية.
أما الواردات في 2022 والبالغة قيمتها 4.7 مليار دولار، فهي تلك التي تدفقت إلى مناطق سيطرة النظام السابق، لا إلى كامل مساحة سوريا (أي باستثناء شمال شرق سوريا وشمال غرب البلاد). ومن المرجح أن يرتفع إجمالي الواردات بشكل كبير خلال الفترة المقبلة، وذلك نتيجة العوامل التالية:
الأول، ميل الحكومة الجديدة نحو التحرير الكامل للاقتصاد السوري، وتسهيل الاستيراد بما في ذلك عبر تخفيض الرسوم الجمركية وإعادة تفعيل اتفاقية التجارة الحرة الموقعة مع تركيا في 2004، والتي علّقها النظام السابق في كانون الأول/ديسمبر 2011.
الثاني، قدرات الإنتاج المحلية متضررة بما يحدّ من قدرتها على تلبية الطلب المحلي، على نحو ما كانت تفعل قبل العام 2011. كما أن هناك متطلبات يجب استيرادها لتنفيذ عمليات إعادة الإعمار.
الثالث، ارتفاع فاتورة استيراد النفط بشكل كبير. فما تبقى من نفط الشرق السوري لن يغطي الاستهلاك المحلي وستحتاج الحقول هناك لعمليات إحياء مكلفة للغاية، ولا توجد نتائج مضمونة حول النتيجة. في 2024 وما سبقه، كانت سوريا تستورد – بالدين – نحو 3 ملايين برميل شهريًا من النفط من إيران. لا تقل حاجة سوريا الطبيعية عن 6 ملايين برميل شهريًا، بينما كانت تتراوح قبل الحرب بين 7.5 و9 مليون برميل شهريًا. هذا يعني أن فاتورة استيراد النفط الشهرية لا تقل عن 300 مليون دولار ويمكن أن تصل إلى 600 مليون دولار شهريًا. هذا سيضيف ما بين 3.6 و7.2 مليار دولار إلى عجز الميزان التجاري السوري.
ولهذا، من غير المستبعد أن تعود سوريا سريعًا لمعدلات الاستيراد التي وصلتها في 2010 مع إضافة الواردات النفطية الجديدة. وبالنتيجة يمكن أن يتجاوز عجز الميزان التجاري السوري في 2025 و2026 عتبة 20 مليار دولار سنويًا مع إمكانية الوصول إلى 25 مليار دولار. هذا الحجم من الواردات سيبقى أقل بالأرقام المطلقة من حجم مستوردات الأردن البالغة 31 مليار دولار سنويًا. هذا المشهد القاتم يعني أن الليرة السورية مرشحة للانهيار بشكل كبير في السنوات القليلة المقبلة والوصول لمستويات غير مسبوقة أمام الدولار. أما منع هذا الانهيار فيتطلب:
أولًا، تقليص الواردات إلى أقل مستوى ممكن، بما في ذلك متطلبات عمليات إعادة الإعمار الواسعة.
ثانيًا، تشجيع السوريين على الاستثمار في القطاعات الإنتاجية (الصناعية والزراعية) لسد الطلب المحلي وتوفير فائض للتصدير لتوفير النقد الأجنبي.
ثالثًا، تشجيع تدفق الاستثمارات الخارجية (من الحكومات والشركات والأفراد) بالسبل الممكنة كافة.
رابعًا، إعطاء الأولوية لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني بكل السبل الممكنة، وذلك لوقف هجرة رؤوس الأموال والخبرات، وتشجيع السوريين في الخارج على العودة.
هذه الوصفة بديهية للغاية. إلا أن تجربة سوريا والدول العربية، غير النفطية، تدفع إلى التشكيك بإمكانية تطبيق حتى هذه الوصفة البديهية.