
فتى لا يتجاوز الـ15 من العمر، أمامه طاولة عليها ملايين الليرات المغلفة والمختومة بختم المصرف المركزي (لا أحد يعرف كيف حصل عليها)، وورقة كُتب عليها بخط سيء "صرّاف". يبعد عنه مسافة أمتار صهريج يبيع "المازوت" الحر بكميات مفتوحة. وعلى مقربة منهما، "بسطة" عليها "أندومي" كوري، وشوكولا أجنبية، ومرتديلا وطنية.
لعل هذا المشهد يلخص هوية الاقتصاد السوري الضائعة منذ عقود، ويحقق فُرجة يبتسم لها كل من يراها مُعجبًا كان أم مستهجنًا، بعدما كانت مستحيلة منذ 40 يومًا: دولار، شراء غير محدود الكمية، بضائع أجنبية معروضة بالعلن.
وبعدما بدأ صوت الاحتفالات الممتدة منذ شهر بسقوط النظام ينخفض قليلًا، بدأ التفكير بالأمور المعيشية، وبدأ التخوف من قادم الأيام يَظهر ويُعبّر عنه في الإعلام وعلى منصات التواصل، ومن أهم أسبابه إعادة التفكير ببعض التصريحات الحكومية، وعلى رأسها إعلان وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة تصريف الأعمال ماهر الحسن، عن نية الحكومة إلغاء الدعم عن الخبز خلال شهرين مع تحرير السوق بشكل كامل، حيث سيبلغ سعر الربطة 40 سنتًا أميركيًا، في حين يتم بيعه حاليًا بـ 20 سنتًا في الأفران وليس من الباعة الجوالين الذين يتقاضون مبلغًا أكبر، مع تأخر صرف الرواتب نحو عشرة أيام، وعدم تسلم المتقاعدين العسكريين معاشاتهم بانتظار قرار اللجنة المكلفة بإقرار من سيستمر معاشه ومن سيُحرم منه.
يضاف إلى ذلك الارتفاع الكبير بأجور نقل الميكرو باص (السرافيس) الذي يعتمد عليه غالبية السوريين في تنقلاتهم اليومية، بعد إلغاء ميزة تزويد وسائل النقل بكميات محددة من الديزل بأسعار مخفضة (2000 ليرة)، مما اضطرهم لشرائه بالسعر الحر (14 – 16 ألف ليرة). هذا عدا عن ارتفاع سعر الغاز المنزلي نحو عشرة أضعاف عن السابق، وهي تصرفات علّقت عليها الخبيرة الاقتصادية وعميدة كلية الاقتصاد في القنيطرة سابقًا الدكتورة رشا سيروب بالتالي: "ما قامت به حكومة تصريف الأعمال خلال أيام، لم تجرؤ حكومات النظام السابق المتتالية على القيام به منذ سنين طويلة خوفًا من السخط الشعبي ولغايات فساد أخرى طبعًا".
وتابعت سيروب قائلة إن المهمة الأساسية للحكومة تتمثل ببناء ثقة ما بين الإدارة الجديدة والشعب، وتسيير شؤون المؤسسات العامة المنهكة وإعادة بنائها لخلق بيئة اقتصادية محفزة للاستثمار، لا تحديد هوية الاقتصاد السوري، لأن أي قرار غير مدروس بشكل جيد سيخلق تخبطًا مستقبليًا، وقد يحمّل الحكومات القادمة إرثًا من الأخطاء الكثيرة والكبيرة.
لدى المصارف محاذير كثيرة والتزام يوصف بـ"الإفراط في الامتثال" في ما يخص التدقيق في التهرب الضريبي وغسيل الأموال، وهي لن تغامر بخرق هذه القيود
وبعد تخفيض الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على سوريا عبر ترخيص عام جديد حمل اسم "GL 24"، استبشر السوريون خيرًا، خصوصًا فيما يخص الكهرباء التي تعطل الحياة بكل مناحيها، والتحويلات المالية التي كانت عملية معقدة خلال أكثر من عقد من الزمان.
تقول سيروب عن هذا الترخيص إنه مهم لقطاع الطاقة والكهرباء، لكن كاستهلاك لا لجهة تأمين استثمارات جديدة، لأن الترخيص الأميركي استثنى أي استثمار جديد، مما يشي بأنه يتم رسم مستقبل سوريا كبلد مستهلك وليس منتجًا، وقللت من أهمية استثناء التحويلات المالية الفردية عبر البنوك، معللة بقولها إن المصارف لديها محاذير كثيرة والتزام كبير يوصف بـ"الإفراط في الامتثال" فيما يخص التدقيق في التهرب الضريبي وغسيل الأموال وأمور أخرى. لذا، فهي لن تغامر بخرق هذه القيود من أجل حوالات شخصية لا تتجاوز مئات الدولارات.
وأبدت الخبيرة تخوفها من أمور اقتصادية مختلفة في المرحلة الحالية، مؤكدة الحاجة إلى إجابات شفافة، أولها عدم معرفة مصادر تمويل أمور عدة وما قد يترتب عليها مستقبلًا، مثل زيادة الرواتب التي قال عنها وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال محمد أبا زيد إن كلفتها الشهرية حوالي 127 مليون دولار ستُمول من خزانة الدولة الحالية ومساعدات إقليمية واستثمارات جديدة، والجهود الرامية إلى فك تجميد الأصول السورية الموجودة حاليًا بالخارج. لكن كيف وتخفيض العقوبات يمنع الاستثمارات الجديدة، وخزينة الدولة فارغة كما أكد أكثر من مسؤول وخبير؟!
يضاف إلى ذلك أن شراء القمح والبضائع يتطلب توافر مبالغ من المال، لأن الموجودة حاليًا قديمة من أيام النظام السابق. وينطبق هذا على ثمن الكهرباء التي ستؤمنها الباخرتين القطرية والتركية، إذ ستكون حتمًا بعقود طويلة الأمد!
كما توقعت سيروب أن زيادة الرواتب بهذه الطريقة ستؤدي إلى مشكلة، إذ إن التجار، منذ فترة، يكسرون أسعار بضائعهم خوفًا من كسادها، لكنهم حتمًا سيرممون هذه الخسائر من جيوب الناس بعد الزيادة.
أضف إلى ما سبق ما سُرب عن خطة اقتصادية للنائب الاقتصادي السابق عبد الله الدردري التي أكدت سيروب أنها ذاتها التي قدمها سابقًا ولاقت حينها اعتراضًا كبيرًا حول تحرير الأسواق بالمطلق والخصخصة والتخلي عن القطاع العام بالكامل بصرف النظر عما إدا كان الاقتصاد السوري مهيأ أم لا، لأن تكرار المشروع ذاته في بيئة مدمرة اقتصاديًا بأمس الحاجة إلى بقاء الدولة حاملًا لشرائح اجتماعية معينة هو كارثة. أما الكارثة الأكبر فهي توجيه الدردري خطابه للنخب التجارية ذاتها التي نهبت البلد عام 2005 بحسب سيروب، أي أن الخطة تتمثل بتوزيع ما تبقى من الاقتصاد السوري على الفئة نفسها.
وبعيدًا عن التخوفات، تصف سيروب الاقتصاد السوري بالبيئة الخصبة لأي مشروع، وأن بإمكانه امتصاص كل المشروعات، لكنها ترى ضرورة البدء بقطاع الإسكان وليس إعادة الإعمار، إذ لدينا 2 مليون لاجئ في مخيمات الداخل. لذا، إنسانيًا، يجب البدء فيه، واقتصاديًا أيضًا، لأنه يخلق فرص عمل كثيرة، وبعد الإسكان يجب العمل على قطاع الكهرباء بما أمكن من ترميم وإنتاج.
وحذرت سيروب مما تروج له الحكومة الجديدة حول اقتصاد سوق تنافسي حر وفتح أبواب الاستيراد على مصراعيها، لأنه سيدمر ما تبقى من الصناعة، وذكّرت تحديدًا بإغراق الأسواق السورية بالبضائع التركية، إذ إن تجربة عام 2007 مع تركيا دمرت العديد من الصناعات والورش والمهن، وكانت نتائج تلك السياسة الاقتصادية سببًا مباشرًا للثورة عام 2011 والأحداث التالية.
يرى حزوري أن هبوط سعر صرف الدولار المفاجئ والسريع هو هبوط وهمي
الدكتور في كلية الاقتصاد جامعة حلب، حسن حزوري، خالف سيروب في موضوع مهام الحكومة الحالية، واعتبر أن عليها أن تحدد بشكل صريح هوية الاقتصاد السوري، وأن الأخير يجب أن يكون حرًا تنافسيًا متكافئًا خاليًا من الاحتكارات. كما أن الحكومة يجب أن تتبنّى، برأيه، استراتيجية شاملة للتنمية الاقتصادية وفق برامج إسعافية على المدى القصير ومتوسطة وطويلة الأجل، تركز على التعليم والتأهيل، وتعزيز ريادة الأعمال، ودعم القطاع الصناعي والتكنولوجي، ثم تشجيع الاستثمارات المحلية والدولية من خلال سياسات اقتصادية محفزة، وذلك بعد تحقيق الأولوية الكبرى في تثبيت مناخ الثقة في السياسات والمؤسسات بترسيخ التعامل بمنطق الدولة المسؤولة عن جميع المواطنين دون تمييز.
ويرى حزوري أنه من الناحية الاقتصادية البحتة، يجب أولًا دوران عجلة الإنتاج الصناعي والزراعي من أجل زيادة الإنتاج وتأمين حاجة السوق وتصدير الفائض للحصول على القطع الأجنبي، على اعتبار أن الخزينة العامة شبه فارغة. لكن هذا يحتاج إلى توافر حوامل الطاقة لتأمين الكهرباء التي يفرض تأمينها على الحكومة أن تعمل بمحورين أساسيين: التعاون مع الدول العربية والصديقة وعلى رأسها تركيا وقطر والسعودية للمساعدة في تأمين حاجة سورية ولو بالحد الأدنى حاليًا، وأيضًا العمل مع مصر والأردن لتفعيل خط الغاز العربي لتأمين كميات إضافية لتشغيل محطات التوليد. أما المحور الثاني فيتمثل بدعم الطاقات المتجددة (الشمسية والريحية)، نظرًا لجدواها الاقتصادية.
ويتطرق حزوري في حديثه إلى رفع العقوبات الجزئي، ويرى أن من إيجابياته السماح بمعاملات بيع وتوريد وتخزين الطاقة، التي ستخفف من أزمة الكهرباء والوقود، إذ إن تحسين الإمدادات سيؤدي إلى انتعاش الإنتاج الصناعي والزراعي، وهو أمر أساسي لتحقيق استقرار اقتصادي مستدام.
ويتابع الخبير: "السماح بتحويل الأموال غير التجارية عبر المصرف المركزي السوري يعزز من قدرة الأسر على تلبية احتياجاتها الأساسية، وبالتالي يساهم في تنشيط الاقتصاد المحلي عبر زيادة الاستهلاك"، قائلًا إن الرخصة 24 تتيح الفرصة لتوسيع هامش المناورة الاقتصادية للدولة السورية، مما يمكن أن يشجع جهات دولية أخرى على الانخراط في حوارات اقتصادية أو تقديم مساعدات مماثلة.
لكن، في الوقت ذاته، يؤكد حزوري أن في الرخصة قيود صارمة تُحد من فاعليتها، مثل تعقيد العمليات المالية والقيود المتعلقة بالأفراد المدرجين في قوائم العقوبات، حيث قد يؤدي ذلك إلى إبطاء تدفق الأموال أو الحد من قدرة بعض الفئات على الاستفادة منها، إضافة إلى أن عدم انطواء الرخصة على إجراءات أكثر شمولًا، مثل فتح المجال للاستثمار الأجنبي أو تسهيل الصادرات، قد يُبقي تأثيرها محدودًا ولا يعالج الجذور العميقة للأزمة الاقتصادية. كما أن تحديدها بزمن محدود يعني أن تأثيرها قد ينحسر سريعًا إذا لم تتبعها خطوات أوسع لدعم الاقتصاد السوري.
ويلخّص حزوري ما سبق بتأكيده على أن الرخصة العامة رقم 24 تمثل فرصة مرحلية يمكن أن تكون بداية لتحسين الوضع الاقتصادي والإنساني في سوريا، لكنها ليست حلًا سحريًا، لذا يحب أن تدار الموارد بحكمة، مع التركيز على الشفافية والشراكات البناءة.
وبخصوص هبوط سعر صرف الدولار المفاجئ والسريع، يرى حزوري أنه هبوط وهمي، إذ إن الأثر النفسي لانتصار الثورة والتخلص من القيود المفروضة على التعامل بغير الليرة السورية وعودة آلاف السوريين لزيارة أهاليهم وإنفاقهم بالعملات الأجنبية، أدى إلى تحسن سعر الصرف، إضافة إلى تقييد وحبس السيولة بقرارات إدارية وقسرية وتأخر صرف رواتب العاملين في الدولة اللذين أديا الى شح في الليرة السورية، والاضطرار لصرف من لديه مدخرات بالدولار وتحويلها الى ليرات سورية لتأمين الاحتياجات الضرورية.
والدليل الأكبر على أنه هبوط وهمي ـــ يضيف حزوري ـــ هو ارتفاعه مجددًا بمجرد الإعلان عن بدء صرف الرواتب للموظفين والمتقاعدين، لأن الارتفاع الحقيقي لقيمة الليرة يكون عبر سياسة اقتصادية تستند إلى دعم الإنتاج الوطني وحمايته وتخفيض تكاليفه ودعم الصناعات التصديرية لا سيما تلك التي تمتلك ميزة تنافسية وقيمة مضافة عالية كالصناعات النسيجية والغذائية وأمور أخرى كالسياحة مثلًا. أما اتباع سياسة نقدية قسرية لتحسين سعر الصرف دون تنفيذ أهداف السياسات الاقتصادية فسيؤدي حتمًا إلى تحسن وهمي سينعكس سلبًا على تنافسية المنتجات السورية في الخارج مستقبلًا.
ومن الإجراءات الاقتصادية التي أثارت الجدل في الشارع السوري في الأيام الأخيرة، توحيد الرسوم الجمركية لجميع المعابر ورفع بعضها، حيث وجد فيه البعض دعمًا غير مستحق للتجار الذين أغنوا في السنوات الأخيرة بسبب رفع أسعار السلع بشكل كبير بحجة خسائرهم من إجراءات منصة تمويل المستوردات وفساد المسؤولين، والبعض الآخر وجده جيدًا لكن يحتاج إلى تعديلات، ومنهم الخبير حزوري الذي قال إن فرض رسوم جمركية على الكماليات وعلى البضائع المصنَّعة وتخفيضها على المواد الأولية ومدخلات الإنتاج يحمي الصناعة الوطنية ويكافح سياسة الإغراق، كما يؤدي إلى زيادة تنافسية المنتجات السورية في الخارج وبالتالي زيادة فرص التصدير، ويوجه الأموال للاستثمار بالقطاع الصناعي والزراعي بعد أن أصبحا يحققان عائدًا مجزيًا ومشجعًا للصناعي والفلاح والحرفي.
ويضيف الخبير: "لنكن منصفين، يجب الموازنة بين مصلحة المنتج الوطني وبين مصلحة المستهلك، لذلك يجب إعادة النظر ببعض الرسوم، فمثلًا طن الألبسة المستورد ارتفع رسمه الجمركي من 100 دولار للطن إلى 4000 دولار، وهذا يشكل عبئًا كبيرًا على المستهلك، لذلك يجب إعادة النظر به، وأيضًا يجب توحيد الرسم الجمركي على مدخلات الصناعة والمواد الغذائية الأساسية لتصبح 1% فقط، وتقليل البنود الجمركية التي يمكن فعليًا اختصارها للنصف".