
مقابلة مع أحمد اللباد، أجرتها هنادي زرقه
1- قلتَ مرّةً إنَّ والدك توقّف عن التوقيع على أعماله باسمه المعتاد، "اللباد"، وغيَّره إلى "محيي الدين اللباد" حين تخرجتَ أنت من "الفنون الجميلة"، وحين سألتَهُ عن ذلك، قال مبتسمًا: إنه من الآن، صار هناك لبّاد آخر.
أحمد اللباد، ابن محيي الدين اللباد، حامل إرث عظيم. كيف يمكن لفنان أن يمشي على خطى والده ويجترح هوية جديدة؟
أُعبّر دائمًا عن مدى امتناني لحسن الحظ الذي خصّني بوضع عائلي كان فيه والدي فنانًا بصريًا، وبحجم محيي الدين اللباد. صحيح أن ذلك الإرث المذكور في السؤال له وجوهه القاسية؛ بمعنى أن امتهان الإبن لنفس مهنة الوالد هو ثقل حقيقي ومرهق للابن؛ فذلك الأفق، وتلك القبة التي اختار الأصغر أن يعمل تحتها تبقى "محتلة" بحضور وسوابق إنتاج الأكبر، ما سيضيّق عليه الحيّز أكثر بالتأكيد، ويجعله دائمًا في موضع مقارنة أو تحكيم، فما بالك لو كان منجز الأب استثنائيًا وفارقًا في المهنة، وفي الحياة!
لكن لطف الأقدار تحقق بانتسابي لأب عميق الوعي بتلك الإشكالية، فتعامل معها مبكرًا بيقظة حنونة. أتذكر الآن مثلًا "حماقة الشباب" التي دفعتني دفعًا لمحاولة استبعاده، واستبعاد آرائه أثناء فترة دراستي بالكلية. كان دفاعًا ساذجًا (لكنه مشروع) عن استقلاليتي ومساحتي، وبحثًا عن شَق طريقي الخاص بعيدًا عن أي تأثر به، وعن سطوة حضوره. ومازلت أتذكر وأمتنّ كثيرًا لرقته وتفهمه اللاقط الحساس، بقبوله هذه الصيغة لعدة سنوات، وحتى تخرجت تقريبًا، ثم اقترابنا مرة أخرى بشكل أنضج (من ناحيتي)، وبدء علاقة عميقة ومعقدة مهنيًا، لأصير مريدًا لهذا "الأسطى" السخي، ذي الروح الجامحة والمعرفة المركبة المتجددة، والفريد بمرونته المذهلة في الرؤية الكلية للأشياء، وكذلك بقدرته على تفكيك التفاصيل الصغيرة في نفس الوقت.
محيي الدين اللباد في جانب أساسي من تكوينه مُعلِّم موهوب وكريم، ومؤسس مهني فذ. والمُعِّلم الحقيقي لا يفرح أبدًا بفكرة استنساخه، ويعرف جيدًا أن الحرية الشخصية وتفرّد المشروع، وتنوع المنتجين، هو المؤسس والحامي للمهنة، لذلك فأنا أقول بثقة تامة أن واحدة من أكبر الاستفادات من مجاورته كانت في الانتباه الدقيق لضرورة الحرص على اختراع وامتلاك المنطق الخاص بي، وحتمية أن يكون مرادفًا لتركيبتي الخاصة وخبراتي الذاتية، ومن ميولي العاطفية والتكوينية. وبالتأكيد من ناتج تجاربي المتواصلة. أظن أن كل من اقترب من اللباد بأي قدر من الاقتراب استفاد بشدة من ذلك التحريض، ومن تلك الدعوة الصارمة.
بلا أي شك أنا استفدت على أصعدة أخرى عديدة: من صيغه التقنية، ومن ضرورة الاستقتال للحفاظ على الدقة التنفيذية المتناهية، ومن قدراته المحفزة على الاختلاق المتوالد للسياقات الأنفذ والأرفع، والأعلى عصرية. وستظل رقبتي مطوقة للأبد بمعروف دعواته المخلصة النافذة لضرورة بحث كل شخص يعمل في الإبداع عن صوته الخاص. وأن يكون إنجازه الإبداعي رهين بالقدرة على إطلاق الأسئلة المتجددة المختلقة، وتراكم الإنتاج عبرها. وكلما مرّ الوقت أجدني أكتشف جوانب جديدة حيويتها مثيرة وملهمة بحق؛ جوانب تثبّته كمرجع مهني وإنساني كبير نادر.
6- ما دمت تقرأ الكتاب قبل تصميم الغلاف، هل يعني هذا أنك ترفض تصميم الغلاف إن لم يعجبك الكتاب؟
الاحتراف لا يعنى أبدًا الارتضاء بالعمل لصالح أفكار معادية. يظل الاحتراف محكومًا بحدود أخلاقية لا فصال فيها، ولذلك فبالتأكيد أنا لا أتصور أني من الممكن أبدًا أن أعمل على غلاف يروج كتابه مثلًا للعنصرية أو الصهيونية أو الطائفية، أو لصالح أي أفكار حقيرة أو دنيئة. هذه كتب أنا في خصومة وعداء مع محتوياتها، لا في مقام مناقشة إمكانية أو عدم إمكانية للعمل لها بأي صورة.
من ناحية أخرى قد تكون هناك كتب مستوى محتوياتها شديد الارتباك، أو تحت المستوى المهني بمسافة تجعل التعامل معها بالجدية البديهية مستحيلًا، وتغلق أمامي أي قنوات للتفاعل.
لكن للحقيقة فإن حالات رفضي لتصميم أغلفة لكتب كانت قليلة، لأني في العادة أتعامل مع مؤلفين، أو دور وجهات نشر أعرف توجهاتها وانحيازاتها منذ البداية. قد يكون هناك تراوح في مستوى بعض العناوين، لكنها بشكل عام لا تكون خارج أو تحت المستوى لدرجة أن أضطر لرفضها.
7- سبق لك القول إن تصميم الأغلفة ليس مهنة ... حسنٌ، هل تمارس هذا العمل كهواية أو كشغف، مثلاً؟
بالفعل تصميم الأغلفة ليس مهنة في حد ذاته، هو تخصص داخل علم كبير هو التصميم الجرافيكي، والتصميم الجرافيكي هو الباب الرئيسي للاتصال البصري. صحيح أن لتصميم الأغلفة أسرارًا وخصوصيات، لكنه يعمل تحت آليات وبمعارف التصميم الجرافيكي. باختصار: ليس هناك إمكانية لاحتراف تصميم الأغلفة من دون معرفة وممارسة "التصميم الجرافيكي" وامتلاك أدواته، بل والعمل الضروري دوماً على منتجات أخرى منه. هل رأيت أبدًا سائق محترف يعرّف نفسه بأنه سائق سيارات "بيجو" فقط ؟! كما ذكرت سابقًا، فأنا شخصيًا، وإلى جانب الرسم والحفر الفني، تخصصت في الجرافيك التحريري: مثل صناعة الكتاب ككل بغلافه وصفحاته الداخلية، تصميم وإخراج المجلات والمطبوعات، تصميم الملصقات، تصميم الشعارات وأنظمة الإرشادات، وغيرهم. وأنا محظوظ جدًا بهذا التنوع والتنقل فيما بين المنصات، فكل اختصاص من السابق ذكرهم أتاح لي مكتسبات تكمل وتعزز مقدرة المصمم بخبرة ثمينة، وتطيل نَفَسه، وتقوي عضلات يديه وحساسيتها، وتجعل ذهنه مشحوذًا ومتقدًا. مثلاً، وسريعًا وبلا حصر: خبرة خلق المشهدية الدراماتيكية الناجحة في أغلفة الكتب والملصقات، وخبرة كيفية الوصول إلى الاختزال النافذ في تصميم الشعارات، بأكثر السبل اختصارًا وتحققًا، وكذلك خبرة اختلاق الإيقاع المنضبط والمتجدد لصفحات المجلات، وكيفية توخي البلاغة والدقة في ترجمة الكليات والفرعيات في أبوابها وموضوعاتها، وعكس روحها الكاملة النظرية باشتمال ... هكذا، كلما تراكمت عناصر من تلك الأدوات ازدادت قدرتي على التفخيخ أكثر، وازداد استمتاعي، بالموازاة مع تحرر أكثر لحركتي عندما أعمل على أي من تلك الأفرع.
في النهاية أنا لست هاويًا أبدًا، أنا محترف ممتلئ بعملي تمامًا، وذلك الامتلاء هو الشاحن المولد للشغف المتجدد، سواء كنت أعمل على تصميم غلاف، أو غيره من الأشغال. وأحب أن أعترف بأني أفرح في كله مرة أجلس فيها على طاولة العمل، فرحًا حقيقيًا مباشرًا. لأني مؤمن تمامًا (بخليط متساو من السذاجة والحكمة) بأنني عبر العمل هذا أضبط حياتي شخصيًا، بل وأضبط الحياة كلها.
أنا ممتن دائمًا لعملي، وأحمد الله عليه في كل وقت، وأقدّر قيمة فرصتي النادرة التي جعلتني من بين أفراد تلك الفئة النادرة التي تعيش وتتكسب من ممارسة ما تحب ممارسته، وسط مليارات البشر التي تعيش نصف حياتها اليومية في آداء عمل لا تحبه، لتغطي تكاليف النصف الثاني.
هذا فضل غير محدود، أقبّل عليه يدي وجهًا وظهرًا كل يوم.
