ويتمان الآخر: الشاعر والأمّة.. وضحاياها

بالرغم من وجود قصائد تصوّر الآخر، الأسود، بإنسانية متفردة بمعايير زمنه، فإن ويتمان تعاطف مع مالكي العبيد أيضاً. كما أنه لم يتخلّص من العنصريّة وفكرة النقاء وتفوق العرق الأبيض في مهمته التاريخيّة.

مرت قبل أيام الذكرى المئوية الثانية لولادة الشاعر الأميركي والت ويتمان (١٨١٩-١٨٩٢)، وسبقتها ورافقتها احتفالات تشيد وتذكّر بمنجزه وأثره الهائل على الشعر الحديث عالمياً. وممّا يتكرر عادة عند الحديث عن ويتمان وشعره هو مديح تلك الذات العابرة للطبقات والفئات والأعراق، التي تتوق إلى احتضان الآخر/ين: الذات التي تحتفل بـ «أمّة متآخية مع نفسها ومع أمّم العالم». لكن هناك ذات أخرى نجدها في شعر ويتمان وفي كتاباته الصحفية، تفصح عن رؤية مختلفة أكثر التباساً وإشكالية في علاقتها مع الآخر، بل حتى مع الطبيعة. وهذه ثيمة أخرى مهمّة جداً. إنها ذاتٌ احتفلت بالحيز الديمقراطي والمساواة، لكنها كانت، في الوقت ذاته، تحتفي وتشرعن، بوضوح أحياناً، مشروع الأمّة الاستيطاني- الاستعماري الذي تأسس على محق الآخر وإفراغ الأرض. ليس الهدف هنا الانتقاص من ويتمان البتّة، بل التعامل مع الإشكالية التي نواجهها عندما نقرأ أو نعيد قراءة كبار الشعراء الأيقونيين قراءة نقدية، تضعهم في سياقهم التاريخي، فنكتشف، بخيبة أمل، نصوصًا، أو مقولات ومواقف، أعادوا فيها إنتاج الخطاب السائد في زمنهم، كما نكتشف قصائد تورطت في مشاريع سياسيّة وحشيّة لا نستطيع إغفالها. التاريخ الأدبي بحاجة أيضاً إلى مراجعة نقدية مستمرّة. ليست القراءات النقدية لويتمان جديدة في الولايات المتحدة، فقد بدأت منذ عقود، لكنها خرجت مؤخراً من الإطار الأكاديمي إلى حيز ٍ ونقاش أوسع، خصوصاً بعد عودة موضوع العنصرية إلى الواجهة في الولايات المتحدة وصعود القوميين البيض في السنين الأخيرة، حيث تصاعدت أصوات المطالبين بنقد جذري للثقافة الأميركية وأيقوناتها، وويتمان واحد منها بالطبع. بالرغم من وجود قصائد تصوّر الآخر، الأسود، بإنسانية متفردة بمعايير زمنه، فإن ويتمان تعاطف مع مالكي العبيد أيضاً. كما أنه لم يتخلّص من العنصريّة وفكرة النقاء وتفوق العرق الأبيض في مهمته التاريخيّة. فنجده يقول في حوار في آخر سنواته: «سيتم محق الزنجي والهندي الأحمر، إنه قانون الأعراق والتاريخ»، ويتذمّر من قدوم ملايين «الجهلة الأجانب»، ويشبه السود بالقردة في مستواهم الفكري. كما نجد في عدد من أشعاره أصداء عقيدة «القدر المتجلّي» (manifest destiny) التي كانت مركزيّة في الأسطورة القومية الأميركية. وهي تؤمن بمهمّة أميركا التاريخيّة وحتمية توسّعها جغرافياً ونشر حضارتها. وهي التي برّرت استعمار الأرض وذبح وتهجير سكانها الأصليين. وتجسّد قصيدة «يا أيها الروّاد!» لويتمان هذه العقيدة وتحتفل بها. والرواد هنا هم المستعمرون الذين كانوا يتقدمون نحو غرب القارة الأميركية لاغتصاب الأرض وتوسيع رقعة الأمّة الجديدة. وليس مضمون القصيدة وحده لافتاً، بل إنها تتميز بإيقاعها الحربي الذي يحاكي قرع الطبول ومسير المقاتلين. «تعالوا. أعدوا أسلحتكم!/بنادقكم معكم؟ فؤوسكم الحادّة معكم؟ الروّاد، يا أيّها الروّاد ... هلمّوا إلى مقدمة الجيش، بسرعة إلى مواضعكم. الروّاد، يا أيّها الروّاد» القصيدة عبارة عن أنشودة طويلة تؤجج حماسة المستعمرين وتهلل لحتمية انتصار العرق الجديد على الأعراق الأخرى. لا نجد في سطورها إلا ذوات الرجال البيض والأمة التي تنجز مهمتها التاريخية بإخضاع الطبيعة وما ومن عليها. في قصيدة «أغنية شجرة السيكويا»، وهي من قصائد ويتمان الشهيرة أيضاً، تخضع الطبيعة لسطوة وعبقرية الأمّة الجديدة. فتودّع الشجرة الأرض والسماء والأشجار الأخرى، ولكنها توصيها بألّا تحزن، فهي تفسح المجال بسقوطها «لعرق أسمى». تتحوّل الطبيعة هنا من مصدر إلهام روحي إلى مورد لبناء أميركا الجديدة. هل أشجار السيكويا الحمراء الشامخة التي تهوي بحزن في القصيدة هي الهنود الحمر الذين ظنّ ويتمان أنهم سيختفون؟ لم يختفوا لكنهم، وغيرهم، كانوا ضحايا الأمة الجديدة. (تنشر بالتزامن مع موقع "جدلية")