عراقيل أمام مشروع الضمّ الإسرائيليّ

كما كان الضمّ عند نتنياهو شعارًا انتخابيًا، فهو يعود اليوم ليغدو كذلك من جديد. وليس مستبعدًا أن يكون هذا هو الحل الأقرب إلى عقلية نتنياهو بعدما أفلح في العامين الأخيرين في إبقاء الكيان في حالة توتر داخلي جراء رغبته في البقاء في الحكم.

قبل أسبوع من الموعد المفترض لبدء إجراءات ضم الأراضي العربية المحتلة، أبلغ وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي مقربيه أن "الجميع يفهم أن الضم لن يشمل غور الأردن". وبصرف النظر عن دقة هذا الإعلان، فإن ما يدور من خلافات داخل المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وبينها وبين الإدارة الأميركية حول الضم يُظهر بشكل قاطع أن الأمر ليس بالسهولة التي افترضها اليمين الأميركي والإسرائيلي. فالضم هذه المرة يعني تغييرًا جوهريًا، ربما يقلب الطاولة في المنطقة رأسًا على عقب جراء تداعياته المحلية والإقليمية. لا يمكن فهم ما يدور في الداخل الإسرائيل من دون العودة إلى المنطق الذي قام عليه الكيان أصلًا، أي أسلوب "السلامي". يقوم هذا الأسلوب على فكرة اكتساب الأرض بالتدريج، وترسيخ أمر واقع يصعب الفكاك منه، وبشكل يسمح بابتلاع هذه الزراضي وهضمها. وهذا ما حكم قبول الصهاينة بمشروع التقسيم ثم اكتساحهم الأراضي المخصصة للدولة العربية. وهو أيضًا ما حكم سلوكهم بعد احتلال الأراضي العربية المحتلة عام 1967، حيث تم في البداية الإعلان عن ضم القدس الشرقية، ثم توسيع حدودها، وصولًا إلى الإعلان عن ضم هضبة الجولان. كان واضحًا منذ اللحظة الأولى لاحتلال العام 1967 أن الحكومة الإسرائيلية تنطلق من مبدأ جواز ضم أراضٍ عربية بالقوة. وهكذا ظهرت إلى العلن مشاريع الضم المختلفة مثل "مشروع ألون" و"مشروع التقاسم الوظيفي"، بل إن مخططات الاستيطان انطلقت أساسًا من مشاريع ضم، سواء في غور الأردن أو ما يسمى بـ"عنق الزجاجة" قرب قلقيلية أو "أعالي الجبل". وبعد وصول اليمين إلى الحكم العام 1977، تغيرت المعادلة بعدما بدأ اليمين الأيديولوجي يستوطن في عمق الضفة الغربية وصار الهدف يتمثل بمنع قيام دولة فلسطينية أو عودة الضفة الغربية إلى الأردن. وفرت اتفاقيات أوسلو، بما احتوته من مواقف هلامية، الفرصة للكيان لتوسيع الاستيطان بشكل غير مسبوق، في سباق محموم لفرض وقائع على الأرض. وانطلق الاستيطان هذه المرة من قاعدة وجوب جعل احتمال نشوء كيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية مستحيلًا. ومع توفر معطيات جديدة تتصل بالعلاقات العربية الإسرائيلية، منها تفكّك الوضع العربي وتنامي مساعي التطبيع ووجود إدارة أميركية محابية ودوافع شخصية لدى زعيم اليمين، بنيامين نتنياهو، تعاظمت دعوات الضم. وليس صدفة أن دعوات الضم اليمينية، خصوصًا التي أطلقها نتنياهو، لم تكن تلقى ترحيبًا من المؤسسة العسكرية أو الدبلوماسية الإسرائيلية. وقد رأى كثيرون فيها نوعًا من الاستفزاز ورش الملح على الجروح الفلسطينية والعربية، أكثر مما تحمل مكاسب للكيان. فمنهج الضمّ من دون ضجيج أقرب إلى روح الصهيونية العملية منه إلى منهج الضمّ الصاخب. وهذا ما يفسر تنامي الخلافات داخل المؤسسة الحاكمة وعدم توفر، حتى الآن، غطاءٍ مؤسسيٍ عسكري لدعوة الضمّ التي يقودها نتنياهو.
من الواضح أن الإدارة الأميركية تترك اليوم الحلبة السياسية الإسرائيلية لـ"تنضج"، خصوصًا بين قوى اليمين وبين هذه القوى وشركائها، حول حجم الضم وطريقته
في نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فإن استمرار الضغط على الفلسطينيين قد يقود إلى انفجار الوضع على شكل انتفاضة ثالثة تأتي بعد انهيار السلطة الفلسطينية. وعدا ذلك، فإن الضم قد يخلق وضعًا متفجرًا في الأردن، يقود إما إلى إلغاء اتفاقية "وادي عربة"، أو حتى اهتزاز الاستقرار هناك لدرجة تعرّض أمن الكيان الاستراتيجي للخطر. وبعد ذلك، هناك الآثار المتوقعة من الضم على العلاقات مع المحيط العربي ومع الأسرة الدولية، وحتى العلاقة بالقانون الدولي وبالمحكمة الجنائية الدولية. من الواضح أن الإدارة الأميركية التي شجعت على الضم بإعلانها "صفقة القرن" لم تكن تتحسّب جديًا للعقبات القائمة أمامها. والواقع أن هذه الإدارة، وإن وجدت عند بعض العرب نوعًا من الصمت، إلا أنه يصعب عليها ادّعاء العثور على شريك فلسطيني يرغب بالتعاون مع هذه الخطة، وهو ما أفقدها القدرة على زعم الرعاية أو الوساطة بحدودها الدنيا. ومن المؤكد أن الانشغالات الداخلية الأميركية بالتظاهرات المناهضة للعنصرية وانتشار وباء "كورونا"، أسهمت في تمييع التأييد الأميركي للضمّ، خصوصًا بعدما حاول نتنياهو تجزئة الخطة وأخذ ما يريد منها دون الباقي. وبرغم أن قادة أميركا يتبنون خطًا يميل إلى اليمين الإسرائيلي المتشدد، إلا أن رفض هذا اليمين "التنازل" عن أي جزء من الضفة الغربية لم يرُق لهم. وقد أعلن اليمين الإسرائيلي المتشدد منذ اللحظة الأولى لإعلان "صفقة القرن" رفضه لها، لما تحتويه من احتمال إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ولو على جزء يسير من الأرض ومن دون القدس ولو بعد عقود. على أي حال، من الواضح أن الإدارة الأميركية تترك اليوم الحلبة السياسية الإسرائيلية لـ"تنضج"، خصوصًا بين قوى اليمين وبين هذه القوى وشركائها، حول حجم الضم وطريقته. ويجري الحديث حاليًا عن خطة تدريجية يحصل بموجبها الضم بأقل قدر من الاستفزاز وضمن جدول زمني مختلف عن ذاك الذي أراده نتنياهو، حتى لا يثير الكثير من ردود الفعل. بل هناك في المعسكر الإسرائيلي من يعتقد أن نتنياهو بعدما أوصل النقاش حول الضم إلى حالة الغليان في الكيان، يمكن أن يندفع نحو حلّ الحكومة وإجراء انتخابات عامة جديدة. وكما كان الضمّ عند نتنياهو شعارًا انتخابيًا، فهو يعود اليوم ليغدو كذلك من جديد، في ظل الخلافات حول الميزانية العامة وسبل إدارة الحكم. وليس مستبعدًا أن يكون هذا هو الحل الأقرب إلى عقلية نتنياهو بعدما أفلح في العامين الأخيرين في إبقاء الكيان في حالة توتر داخلي دائم جراء رغبته في البقاء في الحكم، برغم إجراءات محاكمته في قضايا الفساد. عمومًا، أعلنت الأسرة الدولية في اجتماع مجلس الأمن الدولي الأخير موقفها من المساعي الإسرائيلية. وشدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على أن الضم "إذا ما تم يشكل انتهاكًا بالغ الشدة للقانون الدولي، ويلحق ضررًا خطيرًا بمستقبل حلّ الدولتين ويقوض فرص استئناف المفاوضات". ومعروف موقف الاتحاد الأوروبي من المسألة، حيث أعلنت دول عدة، بينها مناصرة للكيان، أنها ستؤيد فرض عقوبات إذا ما أُقر المشروع. في هذه الأثناء، وبعيدًا عن المبالغات، من الواضح أن الرفض الرسمي والشعبي الفلسطيني الضم واسع وعميق. وقد أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن المشروع يعني أن على دولة الاحتلال تحمل المسؤولية عن إدارة شؤون الأراضي المحتلة كافة بموجب معاهدة جنيف الرابعة. كذلك أعلنت فصائل المقاومة رفضها للخطة واستعدادها لتصعيد المواجهة مع تل أبيب.