ترامب أو بايدن: منظور دمشق وطهران

التحدي الذي سيواجه إيران هو تحديد الجرعة المناسبة من التصعيد التي تساعد الإدارة الأميركية على إظهار أن تخفيف بعض العقوبات على إيران ليس انهزاماً أو تنازلاً مجانياً، ومن المرجح أن يشمل التصعيد الإيراني المسرحين العراقي والسوري واليمني مع زيادة الخروقات في الملف النووي.

ريثما ينتهي الجدل القضائي والسياسي في الولايات المتحدة حول هوية الفائز في الانتخابات الرئاسية، من المفيد أن نحاول مقاربة نتائج الانتخابات الأميركية على منطقة الشرق الأوسط ولكن من منظور بعض العواصم المعنية، تحديداً دمشق وطهران وموسكو. فائدة مثل هذه المقاربة هي أن التغيير المحتمل في السياسة الأميركية لا يعتمد فحسب على معرفة هوية صاحب المكتب البيضاوي في البيت الأبيض للسنوات الأربع المقبلة، بل يتأثر أيضاً بالتفاعل الطبيعي بين السياسات الأميركية وردود الفعل المعنيين في المنطقة. اختيار عبارة "ردود الفعل" هو اختيار متعمد بطبيعة الحال. فبالرغم من كل الحديث المستمر منذ سنوات عن بدء نهاية القرن الأميركي، والاندحار الأميركي في الشرق الأوسط، إلا أن المعنيين، أي موسكو وطهران ودمشق، ظلوا، في أحسن الأحوال، في مرحلة رد الفعل على السياسة الأميركية. وهذا ما أبقى كلفة السياسة الأميركية في سوريا، من الناحيتين المادية والبشرية، منخفضة للغاية. فكلفة الوجود العسكري الأميركي في سوريا تبلغ حوالي 300 مليون دولار سنوياً فقط، وهذا أقل من نصف كلفة الوجود الأميركي في الصومال (700 مليون دولار) وأكثر بقليل من كلفة وجود قاعدة أميركية صغيرة في مالي (180 مليون دولار)، وهذه القاعدة الأخيرة تقوم فقط بتقديم الدعم للقوات الفرنسية في المنطقة ولا تقسم البلاد عملياً وتقوم بتجميد أجندات قوى إقليمية ودولية كما هو الحال في سوريا. وبعيداً عن حجم القوات الأميركية وكلفة وجودها واحتمال بقائها من عدمه، فقد أظهر سلاح العقوبات تأثيراً مدمراً على اقتصاد كل من سوريا وإيران، وأقلق روسيا وقيد خياراتها بشكل كبير. هذا هو توصيف المرحلة السابقة. أما في توصيف المرحلة المقبلة، فمن المفيد أن نفرد للنقاش الخاص بمنظور موسكو للمشهد الأميركي مساحةً خاصة، وذلك في ظل تشابك العلاقات الأميركية الروسية الذي يمتد من القطب الشمالي وشرق أوروبا والبحرين المتوسط والأسود مروراً بآسيا الوسطى، وصولاً إلى غرب المحيط الهادئ. أما في ما يخص منظور طهران ودمشق، فمن الواضح أن طهران هي أكثر من يرحب بوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، وإن كان المسؤولون الإيرانيون – الذين اتقنوا لعبة الخطابات السياسية – يصرون على أنهم لا يكترثون بنتائج الانتخابات الأميركية. ولكن في المؤشرات الملموسة، فإن سعر الدولار الأميركي في أسواق طهران هو «بارومتر» لا يمكن تجاهله حول حقيقة الرهان الإيراني على نتائج الانتخابات الأميركية. فبعدما وصل سعر الدولار إلى حوالي 320 ألف ريال إيراني في أسواق طهران خلال الشهر الماضي، هبط نهاية الأسبوع الماضي إلى حوالي 265 ألف ريال، بانخفاض قارب نسبة 20%. وهذه أكبر وأسرع نسبة تحسن في سعر الريال الإيراني منذ وصول ترامب إلى الحكم منذ أربع سنوات. وبعيداً عن دراما رفع الراية الحمراء على مسجد جمكران في قم، والضربة الصاروخية الحذرة للغاية على قاعدة عين الأسد، فقد ظهر بالمجمل أن إيران حرصت على ابتلاع إهانة عملية اغتيال قاسم سليماني، واللجوء إلى الصبر وتجنب تصعيد الضغط بشكل محرج لترامب. وهذا ما شمل حلفاء إيران في العراق الذين توقفوا عن استهداف السفارة الأميركية بعيد تحذيرات أميركية بسحب كوادر السفارة إلى أربيل، وهو الحدث الذي فهم بوضوح على أنه سيكون إشارة الانطلاق لحملة جوية أميركية على مواقع الميليشيات العراقية. هدأت طهران من تصعيدها في وجه ترامب كما فعلت في نهاية الولاية الثانية لجورج بوش الابن. بكشف حساب ولاية ترامب، يظهر أن إيران لم تتعرض لخسائر استراتيجية مهمة. أما الخسائر الاقتصادية فقد اعتادتها طهران، بينما الشعب الإيراني لا يمتلك سوى خيار التأقلم.

الأرجح أن دمشق تتضرر من فوز بايدن الذي سيدعم خطط "الحزب الديمقراطي" في ما يخص تنفيذ عقوبات "قانون قيصر"

تريد طهران الخروج من العقوبات الأميركية الخانقة. والرهان على روسيا والصين والاتحاد الأوروبي لم يقدم أي منفذ اقتصادي جدي. ولهذا لا مفر من المفاوضات – حتى لو كان ذلك من قبيل المناورة لتخفيف الضغوط الاقتصادية ريثما تصل إيران إلى امتلاك سلاح نووي على خطى النموذج الكوري الشمالي. ما يبقى هو التساؤل عن الطريقة التي سيبدأ فيها خامنئي وبايدن رقصة "التانغو". المرجح أن أوضاع إيران الاقتصادية ستدفعها، في الأسابيع المقبلة، نحو المزيد من التصعيد لإجبار الإدارة الأميركية المقبلة على إعطاء الأولوية للملف الإيراني، خصوصاً في ظل تعدد الملفات والأزمات التي خلّفها ترامب، وعلى رأسها الوضع الاقتصادي والسياسي الداخلي الأميركي. التحدي الذي سيواجه إيران هو تحديد الجرعة المناسبة من التصعيد التي تساعد الإدارة الأميركية على إظهار خيار التفاوض على أنه المخرج الدبلوماسي الصحيح، وعلى أن تخفيف بعض العقوبات الأميركية على إيران ليس انهزاماً أو تنازلاً مجانياً. ومن المرجح أن يشمل التصعيد الإيراني المسرحين العراقي والسوري واليمني مع زيادة الخروقات في الملف النووي، وذلك تجنباً لما حصل في المفاوضات النووية الماضية عندما توصلت طهران إلى اتفاق نووي رفع القسم الأكبر من العقوبات عنها، إلا أنها تعرضت للمزيد من الضغوط على مواقع نفوذها في المنطقة. رفع العقوبات المتعلقة بالملف النووي وترك ما سواها، خصوصاً المتعلق بسياساتها في المنطقة والعقوبات على المؤسسات التابعة لـ"الحرس الثوري"، لا يخرج إيران من أزمتها الاقتصادية الحادة. لهذا من المرجح أن تمضي لعبة التصعيد والتلميح بالاستعداد للتفاوض لأشهر عديدة، على أقل تقدير. أما دمشق فتقدير مقاربتها نحو الانتخابات الأميركية هي مسألة أكثر تعقيداً. ولو استكملنا استخدام سعر الدولار كمؤشر للتفاؤل أو التشاؤم من ملامح السياسة الأميركية في دمشق، فإن سعر الدولار عاد للارتفاع في أسواق دمشق، حيث ارتفع بحوالي 10% خلال الشهر الماضي وصولاً إلى مستوى 2500 ليرة، وذلك بعد ثباته على مستواه لأربعة أشهر بالرغم من تأثيرات عقوبات "قانون قيصر". اللافت أكثر أن سعر الدولار قد انخفض، في الفترة نفسها في الأسواق اللبنانية، وبهامش مقارب. وهذا ما يدعم التصور بأن سعر الدولار في دمشق يعبر عن مزاج قاتم. الأرجح أن دمشق تتضرر من فوز بايدن الذي سيدعم خطط "الحزب الديمقراطي" في ما يخص تنفيذ عقوبات "قانون قيصر"، وسيقدم المزيد من الدعم لـ"قوات سوريا الديمقراطية" ("قسد")، وهذا ما سيثبت خطوط الفصل الحالية بين شرق نهر الفرات وغربه، خصوصاً في ظل الانهيار الاقتصادي في «سوريا المفيدة». أما اعتراف المسؤولين السوريين المتأخر بأن 80% من موارد سوريا الاقتصادية هي في الشرق السوري، فسيؤكد فقط للمسؤولين الأميركيين صحة رهانهم على إبقاء الشرق السوري، بنفطه وغازه وقمحه، خارج طموحات دمشق. واعتراف المسؤولين السوريين بحقيقة الحاجة الماسة للشرق السوري سيعني أيضاً أن مقايضة الوجود الأميركي هناك بمحتجز أميركي واحد، أو مئة، ليس بالصفقة التي يسيل لها لعاب واشنطن. هل تتمنى دمشق فوز ترامب؟ هذا مرجح. من الممكن طبعاً القول إنها لا تكترث، وأن كلا المرشحين سواء من منظور دمشق. إلا أن هذا لا يفسر حقيقة أن دمشق رفضت، في مطلع 2019، استلام رسالة ترامب أو حتى الحديث مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حول المحتجزين الأميركيين في سوريا، بينما قبلت لقاء موفدي ترامب في أغسطس/آب 2020. رفضت دمشق الحوار مع ترامب عندما كانت شعبية الأخير مرتفعة حين كان "الحزب الديمقراطي" لا يزال حائراً بين الدفع بمرشح تقدمي أو بجو بايدن أو مايكل بلومبيرغ ليهزم ترامب. بينما قبلت استقبال موفدي ترامب عندما كانت المؤشرات الموضوعية ترجح هزيمته في الانتخابات، وأن دافعه الوحيد للتواصل مع دمشق هو البحث عن إنجاز إعلامي لأغراض انتخابية، لا التوصل إلى صفقة كبرى معقدة يصعب تسويقها في الداخل الأميركي. ولكن بالرغم من أهمية هذا السؤال لأغراض تأريخ الحرب الأهلية السورية وتحليلها مستقبلاً، إلا أن قيمته وأولويته العملية تتراجع بحدة أمام أسئلة أخرى أبرزها حقيقة موقف دمشق من استخدام طهران المرجح للميدان السوري في الضغط التفاوضي على واشنطن، خصوصاً أن مثل هذا الضغط سيشمل تعزيز الوجود العسكري الإيراني في سوريا، كماً ونوعاً. وهذا ما سيقود إلى تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية، التي ارتفعت وتيرتها بشكل حاد هذا العام، وشملت الشهر الماضي توغلاً برياً نادراً من نوعه في منطقة الجولان. لم تستفد دمشق من الاتفاق النووي الموقع في تموز/يوليو 2015، ومن الصعب تصور فوائد مباشرة تعود على دمشق من أي اتفاق نووي جديد، ومن نتائج التفاوض الأميركي - الإيراني المحتمل. فهل ستجد دمشق سبيلاً لتقليص خسائرها من فوز بايدن ومن نتائج سياسة التصعيد الإيرانية في المرحلة المقبلة؟ هذا سؤال يعتمد جوابه على الكثير من التكهن القاتم أيضاً.
الاقتصاد السياسي للبنى التحتية في سوريا: الكهرباء مثالًا

يتركّز النقاش السوري على مدى توفّر المواد الأولية اللازمة لتلبية المتطلبات المباشرة للسوريين، خصوصًا..

محمد صالح الفتيح
الآثار الاقتصادية العميقة للحرب الروسيّة - الأوكرانيّة

قد تتمكن القيادة الروسية من الحد من الانكماش الاقتصادي. لكن الحفاظ على النفوذ في الخارج يحتاج إلى قدرات..

محمد صالح الفتيح

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة