المسلسلات التركيّة وفن التعويض عن الحياة

بالنسبة لشريحة واسعة من ربّات المنازل اللواتي يعشن مشكلات يوميّة، فإن المسلسلات التركية تأتي لتخطفهنّ من الواقع. هكذا تحلّ هذه المسلسلات، بشكل ممثلاتها وممثليها "الجذاب"، وبيوتها الجميلة وشوارعها النظيفة، وقصص حبّها التي تتجاوز فنتازيا الروايات، مكان الواقع الذي لا ترغبن به.

بين الحلقة والأخرى، تركض ربّة المنزل الخمسينيّة لتضع الثياب في الغسالة. فهي لا تريد تفويت ولو دقيقة من "فضيلة خانم وبناتها". مازال الزوج بكرشه المتدلّي جالساً على كرسي كبير، يصل المسلسلات بعضها ببعض، طالباً بين الفينة والأخرى فنجان قهوة أو صحن مكسّرات. وبين مشهد الزوج ومشاهد متقطّعة من ذاكرة الماضي هرباً من حرب، أو جرياً وراء خبر عن قريب مفقود، ومعايشة فقر لم يخرج يوماً من الباب ليطلّ من الشباك، ترى السيدة المسلسل مهرباً من واقع لم تتخيّله بهذا القبح، وطريقة لإرضاء رغبات لن تجد، وهي في عمرها هذا، أملاً بإرضائها.

في طريقها لتصبح جزءاً من حياة عائلات كثيرة في لبنان والمنطقة، كشفت المسلسلات التركية عمّا يختبئ وراء الحاجة إليها، بل اللهفة إليها أحياناً. تتابع هذه المسلسلات، المعروفة باسم "ديزي" (مسلسل) بالتركية، أعدادٌ هائلة من المشاهدين حول العالم. إذ يقدّر عدد متابعي واحد من أشهرها (Muhteşem Yüzyıl  الذي حمل اسم "حريم السلطان" بالعربيّة) بـ 500 مليون شخص حول العالم. وقد لوحظت نسبة متابعة عالية من قبل النساء تحديداً، حيث قُدّر عدد مشاهِدات مسلسل "نور" (Gümüş) في العالم العربي، مثلاً، بـ 50 مليون امرأة [1] من أصل 85 مليون مشاهداً عربياً [2]-  بينما قُدّر عدد متابِعات مسلسل "سنوات الضياع" (Ihlamurlar Altında) بـ39 مليون امرأة من أصل 67 مليوناً في العالم العربي. هذه السنة، عُرض عدد من المسلسلات التركيّة على الشاشات العربية واستحوذت اهتماماً كبيراً، أهمّها "حب أبيض وأسود" و"فضيلة خانم وبناتها" و"البحر الأسود". أجريت عدداً من المقابلات والنقاشات والمُشاهَدات التي ظهر بنتيجتها أن الأكثر اهتماماً بهذه المسلسلات كانت ربّات المنازل في منتصف العمر. فكان السؤال إذ ذاك: ما الذي يجعل هذه الشريحة بالذات تبدي تعلّقاً بالمسلسلات التركية اليوم؟ لنفكّر بحياة شريحة واسعة من ربّات المنازل وقد انتصفت أعمارهنّ في المشرق العربي: زوج بكرش، ربّما يعنّفها جسدياً، وعلى الأغلب لفظياً ونفسياً. أولاد متزوجون/ات على الأغلب، يعيشون حياة صعبة، بعضهم بلا عمل أو يعمل في مجال لا يطيقه، وبعضهم هاجر منذ سنوات تاركًا إياهن وحيدات، بعدما أفنَين حيواتهنّ في ظلال حروب واحتلالات واشتباكات صغيرة، وخوف دائم على حياة عائلاتهنّ من القتل أو المرض أو الفقر أو الأذى بأشكاله كافة، في منطقة لم يكن الأمان يوماً قريباً منها. بعضهنّ فقدن شعرهنّ، وربّما أسنانهنّ أيضاً من تأثير الضغط والقهر والأزمات النفسية التي مررن بها، فيما كثير من الأزواج - إن كانوا أحياء - نسوا قصة الحب التي جمعت بينهما، إن كان هناك من قصّة أصلاً. بالنسبة لشريحة واسعة من ربّات المنازل اللواتي يعشن مشكلات يوميّة مع الزوج والعائلة والجيران والأقارب والمجتمع ككلّ، فإن المسلسلات التركية تأتي لتخطفهنّ من الواقع. هكذا تحلّ هذه المسلسلات، بشكل ممثلاتها وممثليها "الجذاب"، وبيوتها الجميلة وشوارعها النظيفة، وقصص حبّها التي تتجاوز فنتازيا الروايات، مكان الواقع الذي لا ترغبن به. وفي استبدالهن الواقع الملموس بآخر افتراضي، تكون "الرغبة" بالحصول على حياة أجمل وصباح أكثر هدوءاً وعلاقات أكثر صدقاً وبائع خضار أكثر ابتساماً، هي المحرّك الرئيسي الذي يدفعهنّ للبحث أصلاً عن بديل. هكذا، تصبح هذه المسلسلات أشبه بترياق يعين على تجاوز صداع المشكلات اليوميّة التي لا تنتهي، من انقطاع الكهرباء، إلى ضجيج أطفال الجيران، وضجيج المدينة وحرّها الذي لا يُحتمل، والشعور الكامن دائماً بأن حياتهنّ لن تصير أفضل، وأن الانعتاق من المسؤوليات التي تقع على عاتقهنّ يحتاج إلى اجتراح عالم موازٍ للعيش فيه.
الذكورية الطافحة التي تميّز الكثير من المسلسلات التركية تُشعر شريحة من المشاهدات والمشاهدين بوجود تشابه بين هذه الأنماط السلوكية وبين ظروف حياتهم في مجتمع "محافظ"
اللذة، عند جاك لاكان، هي القوة الكامنة وراء كل رغبة. بالنسبة للاكان، "الرغبة هي شعور بنقصان شيء يتمّ قمعه، وهو توق لا واعٍ للآخر"[3] تشاهد أعداد من ربّات المنازل هذه الحلقات وفي بالهنّ بحث عن علاقات تعطيهن شعوراً بالسعادة، والهدوء، والراحة، والحب، والدعم. وهذه الرغبة تعكس توقاً لدور اجتماعي تلعبنه وتعشنه، ولا تجدنه في عائلاتهن وبين معارفهن وفي مجتمعاتهن، وهي أيضاً تعكس توقاً للحصول على شريك يشبه البطل. ذاك الذي لا تلمع عيناه لرؤية أي فتاة، بل لرؤيتها هي فقط، البطلة الجميلة - ربّة المنزل التعيسة. الرغبة تصبح حيّة في سياقها الاجتماعي: المجتمع يقول إن علينا أن نرغب بالحبّ والعيش في قصر ولو صغير. لذا، وفي ظل نظام رأسمالي، يأخذ تمظهر الرغبة هذه شكل الاستهلاك. فيصبح المشاهدون أمام المسلسلات والأفلام والصورة، مستهلكي الصورة والقصة التي تختبئ وراءها. قد يكون جزء من هذه الرغبة ما يسميه رينيه جيرار "الرغبة النسخية" mimetic desire، وهي تقوم على فكرة أن التقليد يلعب دوراً مهماً في عملية خلق الحافز لدى الفرد. هكذا، تصبح الرغبة، كمركّب اجتماعي، نتيجة لمعركة الحصول على "برستيج" ما، أو اعترافاً بالإنجازات المادية. [4] أي أن الرغبة لا تعود مجرّد تعبير عن حاجة شخصيّة، بل تصبح انعكاساً للسعي نحو إثبات موقع اجتماعي، كالرغبة بامتلاك قصر كبير، أو موقع اجتماعي مرموق، الخ. من هنا يقول جيرار [5] إن الرغبة قد تكون فعل تقليد-نسخ، حيث نرغب بما يرغب به الآخرون، تحديداً لأنهم يرغبون به، و"من دون خيارات لمعرفة ما نريد، يصبح الآخرون مثالنا، ونصبح نحن منافسيهم."[6] للمسلسلات التركية كذلك سحر يتعلّق بالتشابه بين المجتمع التركي وبين مجتمعات المشرق العربي، وبالتشابه بين الممثلين/ات والمشاهدات/ين وبين أبناء هذا المشرق. فربّات المنازل أولئك يرَين أنهنّ كنّ قادرات على أن يكنّ مكان الممثلات في صباهنّ، بوجوههنّ التي لا يظهر عليها تعب، وثيابهنّ التي لا تتّسخ. الممثلات يشبهن المشاهِدات، لكن بلا هالات سوداء تحت العيون، ولا توتر أو خوف أو صدمات نفسية. الممثل يُختطف ويضرب ويُسرق، والممثلة تُغتصب وتُحرم من أطفالها، لكن وجوه كلّ منهم بالكاد تتغيّر، ولا تحمل وزر الصدمات والمآسي. كما أن مواضيع المسلسلات سهلة، واضحٌ فيها تموضع الخير والشر، على عكس الحياة التي تعيشها المُشاهِدات. والطرقات كذلك جميلة، لا تتدلّى على جوانبها التمديدات الكهربائية، بل حتى البيوت الفقيرة جميلة، نظيفة، لا يظهر فقرها إلّا لصغر حجمها، أو لأن شخصيات المسلسل تقول ذلك. كذلك فإن الذكورية الطافحة التي تميّز الكثير من المسلسلات التركية تُشعر شريحة واسعة من المشاهدات والمشاهدين بوجود تشابه بين هذه الأنماط السلوكية وبين ظروف حياتهم في مجتمع "محافظ"، قياسًا على ما يمكن أن يتابعوه من مسلسلات قد تعالج مواضيع حسّاسة، أو تقدّم شخصيات أقل التصاقاً بالموروثات الاجتماعية، أو من أعراق متعدّدة، أو بتوجّهات سياسية يسارية، الخ. بل إن كثيراً منهم يشجّعون على شرعنة ممارسات أكثر ذكورية وأبوية ومحافظة ممّا يعيشونه، فنراهم يعتبرون ضرب شقيق لشقيقته أمراً طبيعياً ومفروغاً منه، وينظرون إلى الاغتصاب كما لو كان عاراً على المرأة التي تعرّضت له، لترسّخ المسلسلات هذه منطقاً ذكورياً أبوياً وتجعله "طبيعياً". في النقص الذي نعيشه وتعيشه بالذات الكثير من ربّات المنازل في منطقتنا، على المستوى الاقتصادي-الاجتماعي والشخصي-العاطفي أيضاً، ثقب أسود يمتصّ حتّى أحلامنا وأملنا في أشياء أفضل قد تأتي. ومن الإحباط وقلّة الحيلة تأتي الحاجة للتمسّك بأبسط الأشياء، وأكثرها عبثية أحياناً. وقد تأخذ هذه الأشياء شكل مسلسل تركي.   [1] Kraidy, Marwan M., and Omar Al-Ghazzi. "Neo-Ottoman cool: Turkish popular culture in the Arab public sphere." Popular Communication 11.1 (2013): 17-29. [2] Buccianti, Alexandra. "Dubbed Turkish soap operas conquering the Arab world: social liberation or cultural alienation?." Arab Media and Society 10 (2010): 4-28. [3] Girard, Rene´ (1987), Things Hidden since the Foundation of the World, Stanford, CA: Stanford University Press. “Desire is a feeling of lacking something that is really a repressed ad unconscious longing for the Other who is needed to take possession of the Self. [4] Girard, Rene´ (1987), Things Hidden since the Foundation of the World, Stanford, CA: Stanford University Press. “We desire things because others desire them. Without other possibilities of knowing what we want, others become our models as we become their rivals.” “ Girard, Rene´ (1977), Violence and the Sacred, Baltimore: Johns Hopkins University Press. [5] Girard, Rene´ (1987), Things Hidden since the Foundation of the World, Stanford, CA: Stanford University Press. [6] Girard, Rene’ (1987), Things Hidden since the Foundation of the World, Stanford, CA: Stanford University Press.
ترميم المدينة المدمّرة للمرة الألف

حين نزلنا إلى الأحياء المنكوبة كمهندسات ومخطّطات مدينيات متطوّعات، ولفترة أكثر من ثلاث أسابيع، بقي..

جنى نخال
كوفيد-19 والعمران الفائض: كيف أنتجنا مدناً ومبانٍ لا حاجة لنا بها

بينما تبدو لنا المساحة مكاناّ حراً للحركة، يساعد العمران في تحويلها إلى مربّعات أمنية طبقية عنصرية..

جنى نخال
كوفيد-19: كيف خلقنا ما يقتلنا 

المطلوب من أجل احتواء التعامل مع النتائج الكارثية للجائحة تغييرٌ على مستوى التمدّن. فالشكل الحالي..

جنى نخال

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة