السومريون «الجدد» في العراق

السومريّة قد تصبح صيغة أخرى لهوية مناطقيّة، ولجغرافيا هويّاتيّة إقصائية. الآشوريون والكلدان في الشمال، والسومريون في الجنوب. وماذا عن الباقين؟ أين محلهم من الإعراب الهويّاتي؟

ليست الهوية ثابتة، أو جامدة، لدى الفرد أو الجماعة. بل هي متغيّرة، تخضع لضغوط ومؤثرات محيطها المعقّدة والمتشابكة. كما أنّها محكومة بسياقها التاريخي. الهوية حيّز، تتقاطع وتتنافس فيه، وعليه، خطابات سياسية واجتماعية واقتصادية، تنتجها وترسخها وترسم حدودها. وقد تعيد تشكيلها أيضاً، وفق معادلة أو سردية مختلفة، إذا اقتضى الخطاب المهيمن والمرحلة التاريخية.

لكن الذات تنزع، عموماً، إلى ما يشبه الإيمان بـ «طبيعيّة» الهوية وبثباتها. وتفعل الأيديولوجيا فعلها فتجعل امتدادات وجذور الهوية ومكوّناتها تبدو وكأنها عابرة للتاريخ وليست محكومة به. هناك، بالطبع، من يشعرون بضرورة التمرّد على الهوية «المفروضة» والمتخيّلة، وما تفترضه أو تعنيه، لأنها إقصائية، أو لأنها ترسّخ ممارسات أو أفكار عنصرية أو طائفية، ولأن إطارها لا يتسّع لهم، أو للآخر/ين الذين يظلّون على الهامش. فيرفض هؤلاء مضمون الهوية وسرديتها، رفضاً تختلف حدّته. ويأخذون بإنتاج أو اعتناق هوية أرحب. تكون أقل إقصائية، أو عنصرية، أو طائفيّة. ولكن الهوية، المتمرّدة ظاهراً، قد تحمل، هي الأخرى، إشكالياتها. وقد تمارس، أو تتورط في ممارسة، إقصاء ما، وإن بطريقة أقل فجاجة ومباشرة.

كُتِب الكثير عن صعود ما يسمى بالهويّات الفرعية بعد غزو واحتلال العراق وإسقاط نظام "البعث" وسقوط نسخته من الهوية العراقية. وهي نسخة سرديتها التاريخية معروفة وكذلك خطابها الذي كانت مؤسسات الدولة تعيد إنتاجه وفرضه بالقوة. في نظام ما بعد الغزو، الذي قام على أنقاض الدولة العراقية، أصبح الخطاب الطائفي هو السائد، بلا منازع. لا يعني هذا البتة أنه لم يكن له وجود قبل ذلك. لكن لا يتسع المجال هنا للخوض في تاريخه وتحوّلاته. غير أنه، أي الخطاب الطائفي، تمأسس سياسيّاً وترسّخ اجتماعياً بشكل جديد بعد الاحتلال. وساهم إعلام الدولة وإعلام الأحزاب الطائفية، على اختلاف انتماءاتها، في ترسيخ مفردات وسرديّات الطائفية السياسيّة. وانضوى معظم المثقفين تحت هذه المظلات الطائفية، وتخندقوا وتموضعوا، كل مع جماعته. وكان العراق الذي يتخيلونه ويتمنونه ويبشّرون به (أو يرثونه) عراق هذه الطائفة أو تلك، وعراق هذه الجماعة أو تلك، قبل أن، ودون أن يكون، عراق الجميع. وانسحب الأمر بالطبع، على إطار الهوية الوطنيّة وتراتبيّتها الجديدة وعلى فضائها (الذي ضاق كثيراً). ودفع ضيق الفضاء الطائفي الخانق ببعض الليبراليين إلى الإعلان على الملأ عن تخلّيهم وتبرؤهم من الطائفة في طقس غريب واستعراضي رسّخ مركزيّة الطائفة، والخطاب الطائفي، بدلاً من الاشتباك معه بطريقة جديّة. وهناك من يلجأ إلى هوية عراقية رافدينيّة. فنجد الكثير من العراقيين، على وسائل التواصل الاجتماعي، يعرّفون أنفسهم بأنهم «سومريّون». هناك من يلجأ للهويّة السومرية، كرد فعل على خطاب عنصري إقصائي طبقي يستهدف ذوي الأصول الجنوبية. ويصوّر هذا الخطاب المقيت، الرائج حالياً، قدوم هؤلاء ووجودهم في فضاء العاصمة سبباً رئيسياً في زوال نقاء متخيّل، وفي التدهور والانحطاط الحالي.

ليس غريباً أن يتم استدعاء رموز ماضي البلاد العريق، المرتبط بإنجازات حضارية، بشكل عفوي، في إنتاج هوية يراد لها أن تكون هوية جامعة وعابرة للهويّات الفرعيّة. لكن السومريّة قد تصبح صيغة أخرى لهوية مناطقيّة، ولجغرافيا هويّاتيّة إقصائية. الآشوريون والكلدان في الشمال، والسومريون في الجنوب. وماذا عن الباقين؟ أين محلهم من الإعراب الهويّاتي؟

(تُنشر بالتزامن مع موقع "جدلية")