أنصاف حقائق كاذبة
نشر موقع "الجمهورية.نت" رسالة مفتوحة، بعنوان "محو الناس عبر التضليل: سوريا و"أنتي إمبريالية" الحمقى". من يدقّق في ما جاء في الرسالة ويقارنه بالوقائع، سيصدمه اكتشاف أنَّ أصحابها قد اخترعوا خصماً لا وجود يُذْكَر له في الواقع السوري.
نشر موقع "الجمهورية.نت" رسالة مفتوحة، بعنوان "محو الناس عبر التضليل: سوريا و"أنتي إمبريالية" الحمقى". من يدقّق في ما جاء في الرسالة ويقارنه بالوقائع، سيصدمه اكتشاف أنَّ أصحابها قد اخترعوا خصماً لا وجود يُذْكَر له في الواقع السوري.
مدبّجو البيان، أو طليعتهم بصورة أدقّ، هم، باختصار، يسار سوري سابقصحيحٌ أنّه ليس لرسالةٍ أشبه ببيان أن تورد أمثلةً على اليسار المقصود أو استشهادات من كتاباته وأقواله، لكن مشكلة مدبّجي الرسالة ومن تلاعبوا بهم من الأجانب وبعض العرب أنّهم لا يستطيعون جديّاً، سواء في الرسالة أو في سواها، إيراد أمثلة واستشهادات تُذكَر من هذا النوع. فاليسار السوري المناهض للإمبريالية في عمومه، ما عدا حلفاء النظام التاريخيين، لا يبدي ولاءات مؤيدة للنظام، لا منذ 2011 ولا قبل ذلك، ولا ينحاز من دون مبرر لحكومتي روسيا والصين. وكان له قصب السبق في تبيان واتخاذ الموقف من الدكتاتورية وتقديم البدائل الديموقراطية في إطار تصورات برنامجية ومشاريع سياسية وسواها، إنّما من دون أن يهمل قط ضرورة دحض الأوهام السخيفة (أو الخطوط العامدة المدروسة) الداعية للتدخّل الأجنبي (الإمبريالي الأميركي خصوصاً) والداعمة لـ"بدائل" للنظام لا تقل وحشية واستبداداً وسحقاً لأيّ نزوع ديموقراطي وتحرري. وهذه الأوهام (أو الخطط) الأخيرة هي ما بات يؤمن به أصحاب الرسالة السوريون وبعض العرب، لا منذ 2011 فحسب، بل منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وخصوصاً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي والغزو الأميركي للعراق. يصل بنا هذا إلى هوية مدبّجي البيان وما اضطرهم إلى اختلاق هذا اليسار أو خياطته في خيالهم. مدبّجو البيان، أو طليعتهم بصورة أدقّ، هم، باختصار، يسار سوري سابق انضوى غالباً ضمن إطار، وفي محيط، حزب الشعب الديمقراطي (كان اسمه سابقاً، الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي- رياض الترك) الذي انشقّ أوائل سبعينيات القرن العشرين عن الحزب الشيوعي السوري (خالد بكداش) لكنه بقي لسنوات عدّة بعد ذلك في "الجبهة الوطنية التقدمية" مع النظام. لاحقاً، في أحداث ثمانينيات القرن العشرين في سوريا (صراع "الإخوان المسلمين" مع النظام) تلطّى خلف تنظيم "الطليعة" الإخواني دعماً معلناً غير مكتوب، وأقام علاقة تحالف غير معلن مع النظام الدكتاتوري العراقي أيام صدام حسين، وواصل تأييده، معتبراً إيّاه حارس البوابة الشرقية للأمّة، طوال الحرب العراقية - الإيرانية (على الرغم من حماس شديد سابق للثورة الإيرانية ونظامها) وحتى مجيء الاحتلال الأميركي، وهنا انتقل إلى تأييد هذا الاحتلال باعتباره "صفراً استعمارياً" ينقل العراق وأمثاله من تحت الصفر الى الصفر، بحسب رياض الترك زعيم هذا الحزب. كما أيّد هذا الحزب ميشال عون وامتدحه أرفع المديح طوال خلافه مع النظام السوري ليسوّد صفحته أشد التسويد لاحقاً، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أنَّ المعيار المطلق لدى هذا الحزب هو "العداء للنظام السوري"، كأنّه القفا للعملة التي وجهها من انشقّ عنهم الذين معيارهم المطلق "الدفاع عن النظام السوري". وإلى هذا، فقد امتاز هذا الحزب ومحيطه بأنّه من أوائل من "نظّروا" لقسمة الشعب السوري إلى مكوّنات (طائفية وإثنية)، وبأنّه من أعتى الداعين إلى السلاح والتدخّل الخارجي ومن أشد المدافعين عن "جبهة النصرة" ("القاعدة") بعد انطلاق الانتفاضة السورية.
الاستخدام الطائش لمصطلح علمي مثل "الإمبريالية"، ومثل هذا التعميم للوعي السلبي تجاه مناهضتها، لا تقلّان سوءاً عن انتقائية حلفاء الاستبداد وانتهازيتهملا شكّ أنَّ عديد الموقعين السوريين على الرسالة لم ينضووا يوماً في أطر هذا الحزب، لكنهم من الذين لفّوا لفّه منذ 2011 فصاعداً على الأقلّ، سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوه. تنضاف إليهم زمر خرجت من أحزابها اليسارية الأخرى وسارت في هذا الاتجاه. ولأنَّ هؤلاء جميعاً بلغوا مأزقاً رهيباً بجرائمهم السياسية خلال السنوات العشر الماضية، وبالهزيمة والمجزرة المهولتين اللتين جرّوهما على الشعب السوري وساهموا فيهما إلى جانب النظام (كما اعترفوا في بيانات عديدة ومقابلات شخصية كثيرة، مسمّين جرائمهم السياسية الكبرى أخطاءً وأوهاماً)، كان لا بدّ من اختلاق خصم يُحمّلونه جميع أوزارهم ويُسقطونها عليه (بالمعنى التحليلي النفسي للإسقاط). وكان ذلك بحاجة إلى كلّ ما أبداه البيان من كذب وانعدام للنزاهة وهو يطمس الملامح الحقيقية لليسار السوري الثوري ومشروعه الوطني الديمقراطي وجدلية مواقفه من النظام الدكتاتوري وحلفائه الدوليين، كما ومن الإمبريالية الأميركية وأدواتها الإقليمية النافذة (التي تتناساها الرسالة بخبث حين تقول إنَّ "الولايات المتحدة غير مركزية في ما حصل في سوريا"). غير أنَّ الحاجة النفسية لا تكفي لتفسير أمر من هذا النوع. ولا بد أنَّ هنالك وعياً سياسياً ومصالح تقف وراء مثل هذا التزييف الذي يساوي بين من يناهضون الامبريالية والأنظمة الاستبدادية من جهة، وحلفاء النظام بمنظورهم الخاص لـ"مناهضة الامبريالية" من جهة أخرى، كما لو أنّه يتوخّى تعميم وعي سلبي تجاه مناهضة الامبريالية الغربية الأوروبية والأميركية لحصر المناهضة بما يدعوه "الإمبريالية" الصينية والروسية، وتكريس "تساوي إمبريالي" بين ضواري الإمبريالية الغربية ودول صاعدة لا تزال تتصف بالانتقالية لم تُبد إلى الآن، على الرغم من سلطويتها الداخلية وميلها للتوسع الاقتصادي، ما يزيد على ما يقتضيه الخلاف الأميركي الصيني والخلاف الأميركي الروسي. مثل هذا الاستخدام الطائش الغبيّ لمصطلح علمي مثل "الإمبريالية"، ومثل هذا التعميم للوعي السلبي تجاه مناهضتها، وما يمارسه من انتقائية وانتهازية لا تقلّان سوءاً عن انتقائية حلفاء الاستبداد وانتهازيتهم، هو شهادة انتماء إلى تلك الجوقة من المثقفين العرب والدوليين بخطاطتهم الإيديولوجية البائسة المتماهية مع وجهة النظر الأميركية "الرسمية" في صراعات الإدارة الأميركية وما تمثّله من مصالح مع خصومها ومنافسيها الدوليين، لا سيما الصين وروسيا. لا يغيّر من ذلك فائض إنشاء الرسالة المبتذل عن القوة التدميرية للإمبريالية الأميركية سابقاً، ولا إخفاء الرسالة الخبيث دعم الولايات المتحدة اللامحدود لدولة اسرائيل وتحويلها الى ثكنة متقدمة وتسليحها ودعم ترسانتها العسكرية وتكريس تفوقها على كل دول المحيط، ولا سكوتها عن أنَّ التدخلات الخليجية في سوريا (تمويلاً وتسليحاً) ليست إلا بأمر و/ أو ترخيص أميركي، ولا صمتها عن التدخلات الأميركية السافرة حتى في قوائم تشكيل "المجلس الوطني" و"الإئتلاف الوطني" الذي خرج كالأرنب من قبعة هيلاري كلينتون والدفع به ممثلاً حصرياً للشعب السوري، ولا خرسها إزاء التعزيز الأميركي لخيار العسكرة الذي أطاح بمسار الثورة السلمية الشعبية عبر دعم المجموعات العسكرية المناوئة للنظام. إنّها الجوقة ذاتها التي بات جزءاً لا يتجزأ من إعداداتها البنيوية خدمة مصالح الإدارة الأميركية، حتى لو لم ترد هذه الإدارة سوى تخريب البلدان والحيلولة دون أي تغيير ديمقراطي فيها. ولأنَّ كثيراً من الموقعين على الرسالة، لا سيما الأجانب، سبق أن عبّروا عن مواقف نقيضة لكلّ ذلك، فإنّ من الممكن القول بثقة إنهم قد تعرضوا لعملية نصب كبرى جوهرها أنّهم لم يُطْلَعوا على تعقيد وضع اليسار السوري وتاريخه، فظنّوا اليسار الثوري أولئك الحمقى والمضلّلين الذين دعوهم إلى التوقيع.