ملامحُ الطريق السوريّة نحو المستقبل

بعد عقدٍ من الحرب والتدخلات الدولية والإقليمية، بات العامل السوري حاجةً أساسيةً يُجمع عليها معظم السوريين، وقد تعلموا الكثير خلال هذه السنوات العشر، بما في ذلك اليأس الحاصل من تأخر المجتمع الدولي في وضع حدٍ لمأساةٍ فاقت كل التوقعات.

في تداعيات المسألة السورية لا بدّ من التوقف عند التشابه المأساوي بين الحالتين العراقية والسورية، والخراب الذي طال هذين البلدين، كما الاستبداد – التوأم الذي حكمهما. لا يقلّل من ذلك التشابه أن العراق قد تعرض لاحتلالٍ خارجي مباشر، بينما "انفجر" الواقع السوري وتناثرت شظاياه تاركةً المزيد من الضحايا والخراب. وفي الحالتين، ثمّة واقعٌ غير سويّ انتهى إلى الخضوع للإرادات الخارجية. بعد عشر سنوات على الانتفاضة الشعبية والقمع والإرهاب والحرب الداخلية المُدارة من الخارج الإقليمي والدولي، ترزح سوريا تحت كمٍ كبير من المشكلات والأزمات المستعصية على الصعد كافة. فمن الناحية العسكرية، يبدو أن نار الحرب قد بدأت بالتخامد وتم تقاسم النفوذ بين الدول الأربع المتدخلة مباشرةً في الشأن السوري؛ الولايات المتحدة والاتحاد الروسي وتركيا وإيران. ومن الناحية الاقتصادية والإنسانية، تعيش البلاد، ولو بدرجاتٍ مختلفة، في أسوأ حالات العوز والمعاناة. ومع أن المزيد من القضايا الشائكة تنتظر الحل، فإن العثور على مخرجٍ سياسي هو نقطة البداية، وربما يتوقف عليه بقاء سوريا ذاتها على خارطة المنطقة. ليس البديل سوى استنقاع الحالة الراهنة وتثبيت مناطق النفوذ وتقسيم سوريا كأمرٍ واقع إلى ثلاثة مناطق خاضعةٍ لنفوذ قوى دولية مختلفة عجزت عن الوصول إلى توافق في ما بينها. قد يجثم هذا الواقع بسبب فشل السوريين في إيجاد بديلٍ سياسي وطني مستقل يلتزم المصلحة السورية كسياسةٍ محورية في التعامل مع الداخل والخارج، خصوصًا مع وصول هيئات المعارضة التي ارتبطت بمصالح الدول التي شكلتها إلى طريقٍ مسدودةٍ وفقدانها أيّ مصداقية شعبية ووطنية. لقد بينت وقائع السنوات العشر المنقضية على المأساة السورية بأن العامل الحاسم فيها هو إرادة الولايات المتحدة، خصوصًا لجهة إمكانية فرض الحل السياسي أو تعطيله إن اقتضت مصلحتها ذلك. لا يغير من هذا الواقع أن روسيا لعبت دوراً مهماً كزعيمةٍ لتحالف أستانة وتقاسمت النفوذ مع شريكتيها، تركيا وإيران. لم يكن الدور الروسي بعيداً عن مصلحة الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب والحد من تأثير الجماعات المسلحة وربطها بالدول ذات النفوذ، تسهيلًا لحلٍ ما في المستقبل، خصوصًا في الوقت الذي انشغلت فيه الولايات المتحدة بقيادة التحالف الدولي ضد "داعش" منذ عام 2014. ما يؤكّد على مفصلية الدور الأميركي هو فشل روسيا، بالتحالف مع شريكتيها إيران وتركيا في مؤتمر أستانة، من فرض أو تحقيق أي حل سياسي عبر الالتفاف على توافقات مؤتمرات جنيف. وقد كانت اللجنة الدستورية آخر محاولات روسيا وحليفتيها بهذا الصدد، مع أنها تبنّت القرار الأممي 2254 للحل في سوريا.

السلاح الأهم الذي تستخدمه الولايات المتحدة الآن لفرض الحل السياسي الذي يناسبها هو العقوبات الاقتصادية على إيران وروسيا، والعقوبات المرتبطة بقانون قيصر على سوريا

ومع ذلك، تبقى روسيا الشريك الرئيس للولايات المتحدة في الوصول إلى حلٍ سياسي قابلٍ للحياة، استناداً إلى القرار 2254، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية. يعمل التوافق الأميركي-الروسي على تحييد الطرفين الإقليميين الرئيسين المتدخلين في سوريا. فمن جهة، تمثل إيران خطراً إيديولوجياً على سوريا ذات التنوع العرقي والديني، في حين تُعتبر تركيا، من جهة أخرى، الخطر الأكبر على وحدة الأراضي السورية، وتعمل على تثبيت احتلالها لمناطق واسعة في الشمال السوري، وتهدد بالمزيد من عمليات القضم، من خلال استغلال الخلافات الأميركية-الروسية. السلاح الأهم الذي تستخدمه الولايات المتحدة الآن لفرض الحل السياسي الذي يناسبها هو العقوبات الاقتصادية على إيران وروسيا، والعقوبات المرتبطة بقانون قيصر على سوريا، علاوة على قدرتها على تعطيل أي حل روسي بات من الواضح أنه لا يمكن تمريره لسببين رئيسين؛ عدم القدرة على تمويل إعادة الإعمار وحل مشكلة اللاجئين. في هذا الكم الكبير من التدخل الدولي وتضارب الإرادات، ما زال العامل الوطني السوري هو الغائب. يتمثل هذا العامل بضرورة تبلور قوة/ قوى سياسية مستقلة نسبياً في تعبيرها عن المصلحة السورية المتمثلة ببناء دولة ديمقراطية حديثة، الأمر الذي يعدّ ضرورياً للحد من استمرار النفوذ الخارجي وتحجيم دور القوى السياسية المرتبطة بهذا النفوذ، والمتمثلة في منصات الدول والهيئات السياسية المصنّعة في الخارج على قياس مصالح هذه الدولة أو تلك. بات العامل السوري حاجةً أساسيةً يُجمع عليها معظم السوريين، وقد تعلموا الكثير خلال هذه السنوات العشر، بما في ذلك اليأس الحاصل من تأخر المجتمع الدولي في وضع حدٍ لمأساةٍ فاقت كل التوقعات. كما قد يدفع هذا العامل القوى الدولية ويشجعها على التعجيل بالتوافق على الحل السياسي المرتقب. وستزداد أهمية هذا العامل بعد التخلص من سيطرة قوى الأمر الواقع المستبدة وتحكّمها بحياة السوريين في بدء المرحلة الانتقالية وفي مختلف المناطق. وبانتظار تبلور حلٍّ سياسي ما ضمن المعطيات السابقة، يبدو أن سوريا القادمة تحتاج إلى عقدٍ اجتماعي جديد، توافقي وديمقراطي ولامركزي الإدارة، كنقيضٍ للمركزية والأوامرية الإدارية التي وسمت مرحلة الاستبداد. سيكون هذا مصدر قوةٍ لسوريا على المدى البعيد للتخفيف من حالة الانقسام الاجتماعي، شرط تحقيق حدٍ أدنى من العدالة الانتقالية والمصالحات المرتبطة بها. البديل عن ذلك هو تحوُّل الواقع المؤقت القائم اليوم إلى حالةٍ دائمة، ما لم تحصل جهودٌ جبارة على صعيد الوعي بالمصلحة السورية في ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية والتنوع السوري، كمصدر غنى، في مختلف المجالات.   من ملف: "عن غدٍ سوريٍ لا يأتي"