سوريا: عقدٌ اجتماعي بلا هوية جامعة!

بات لكثير من السوريين عقدان اجتماعيان: الأول، ظاهري يدّعي واحدهم أنه راضٍ عنه، ويتظاهر أنه ملتزمٌ به، إما مجبراً بحكم القبضة الأمنية، أو بدافعٍ انتهازي لتحقيق مكتسباتٍ خاصة؛ أما الثاني، باطني يحتفظ المرء به لنفسه منتظراً الفرصة لتطبيقه، وربما لإجبار الآخرين على التقيّد به ولو ظاهرياً، تماماً كما أُجبر هو في السابق على فعل ذلك

Image Credit: Bettmann via Getty Images


لا يكاد بحثٌ أو مقالٌ عن العقد الاجتماعي يخلو من الإشارة إلى آراء أبرز المنظّرين للمفهوم من أمثال توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو. وأثناء مراجعتي لأبرز ما كُتب عن مفهوم العقد الاجتماعي، استوقفتني بشكلٍ خاص فقرة قد تشكل مفتاحاً لفهم الأزمات المتكررة والمتنقلة التي تعاني منها دول منطقتنا عموماً، وسوريا خصوصاً، حيث يتناول هوبز مفهوم الدولة بالقول: "الدولة ككيان سياسي منظّم هي نتاج توافقٍ بين مجموعة من الأفراد في تعاقدٍ اختياري". وهنا يكمن السؤال: إلى أيّ حدٍّ ينطبق هذا التوصيف على دول المنطقة بشكلها الحالي؟ نحن، على الأرجح، متفقون على أن دولنا لم تكن نتاج توافقٍ بين الأفراد والمكونات، ولم تنشأ أصلاً نتيجة تعاقدٍ اختياري، بل نتيجة توافق الدول الاستعمارية الكبرى، وتحديداً بريطانيا وفرنسا، التي قسّمت المنطقة إلى دويلات تفصل بينها حدود تم تلغيمها، بما يتيح الإفادة منها في أزماتٍ وصراعات مختلقة. لم تكن ردّة فعل القسم الأكثر فاعلية من النخب الوطنية (التي من المفترض أن تقود الشعوب) مكافئة لحجم الأخطار المتوقّعة من جرّاء الخلل البنيوي الهائل ذاك. وإن جاز تبرير ذلك خلال مرحلة الانتداب بما تضمنه من احتلال عسكري مباشر، فإننا لا نستطيع تبريره ما بعد الاستقلال. أكثر من ذلك؛ وبدلاً من العمل على تضييق الفجوة، والبحث عن نقاط التوافق بين المكونات عبر تنظيم عقدٍ اجتماعيٍّ يحظى بقبول كل مكونات الدولة كخطوةٍ على طريق تضييق الفجوة التي أوجدتها اتفاقية "سايكس بيكو" وما تلاها من ترتيبات، وقع قسمٌ من النخبة في خطيئة التنظير لعقدٍ اجتماعيٍّ بعيد عن ضمان وحماية الحقوق الطبيعيّة للإنسان، وتحول العقد الاجتماعي إلى أداةٍ لفرض أيديولوجياتٍ قوميّةٍ أو دينيّةٍ، أو العمل على ضمان استمرار قوننة الأمر الواقع خدمةً للسلطة. لقد اختبرت سوريا اللاإستقرار مراتٍ عديدة، سواء في مرحلة الانقلابات التي امتدّت عملياً حتى ما قبل العام 1970، أو في مرحلة العنف الأولى (ما عُرف بأحداث الثمانينيات)، انتهاء بالانفجار الكبير في آذار 2011. وهكذا، قد يساعد التفكير في الأساسيات التي تتفق عليها مكوّنات الدولة السورية  في استيعاب حجم الأزمة التي نعيشها، لا منذ عشر سنوات فحسب بل منذ نشوء "الدولة السورية" الحديثة. وأول هذه الأساسيات هي اللغة. برغم أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة في سوريا، فهناك العديد من اللغات الأخرى المستخدمة في أوساط المجتمعات السورية كالكردية، والسريانية، والأديغية (الشركس)، والتركمانية، والأرمنية، والآرامية، والدومرية (النّوَر أو القرباط). يمكن لتعدد اللغات في بلدٍ ما أن يكون مبعث قوة إن اعتبرته السلطات عامل إثراءٍ وسعت إلى حمايته عبر نص دستوري، بدلاً من إقصائه لحساب اللغة السائدة كما حصل في سوريا. وإذا ما انتقلنا إلى التاريخ، نسأل أنفسنا: هل نحن متفقون على التاريخ؟ لن أعود كثيراً إلى الوراء وسأكتفي بمثالٍ عن الحقبة العثمانية، فالسوريون منقسمون اليوم بين من يراها خلافةً إسلاميةً قدّمت الكثير لشعوب المنطقة وللمسلمين خصوصاً، وبين من يراها فترة احتلالٍ ما زلنا حتى الآن نعاني من تداعياتها. وأستدلُّ هنا للتأكيد على استمرارية تأثير هذا العامل بالتجمعات الشعبية التي شهدتها مؤخراً بلدتان سوريتان متجاورتان في ريف حلب الشمالي، هما تل رفعت واعزاز، وفي اليوم ذاته (الجمعة 22 تشرين الأول/أكتوبر 2021)، ففي تل رفعت طالب المحتشدون بـ"تحرير الأراضي السورية من جيش الاحتلال التركي"، بينما طالب متظاهرو أعزاز الجيش التركي بمساعدتهم على "تحرير الأراضي السورية من سيطرة الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية". وأخيراً، حين نصل إلى النظر للمستقبل يكون السؤال: ما هو المشروع المستقبلي الذي يتفق السوريون عليه ويعملون على تحقيقه؟ هل هو مثلاً "بناء مجتمعٍ عربيٍ واحدٍ لأمّةٍ عربيّةٍ واحدة"؟ أم هو "بناء دولةٍ إسلاميةٍ"؟ أم هو "تأسيس كياناتٍ مرتبطة بما وراء الحدود"؟ أم ماذا؟ ولمزيد من إيضاح هذه الفكرة سأطرح المثال التالي من واقعنا الحالي: تقع القامشلي في أقصى شمال شرق سوريا على المثلث الحدودي السوري العراقي التركي، فهل هي مدينة عربيّة، وبالتالي هي جزءٌ من "الوطن العربي الكبير"؟ أم هي كرديّة، وبالتالي هي جزءٌ من "كردستان"؟ أم سريانيّة، وبالتالي هي جزءٌ من دولة سريانية مُشتهاة؟ أم آشوريّة، وبالتالي هي جزءٌ من دولة آشورية مُشتهاة؟ أم إنها أرمينيّة، وبالتالي هي جزءٌ من "أرمينيا الكبرى"؟ والسؤال الأهم: هل يُرضي تطلّعات أبناء كل مكوّناتها اعتبارها مدينة سوريّة؟ وسوريّة فقط؟ إن هذه التساؤلات والإشكاليات لهي أكبر دليلٍ على المثالب الموجودة في العقد الاجتماعي المعمول به في سوريا، إلى حدّ أنه بات لكثير من السوريين عقدان اجتماعيان: الأول، ظاهري يدّعي واحدهم أنه راضٍ عنه، ويتظاهر أنه ملتزمٌ به، إما مجبراً بحكم القبضة الأمنية، أو بدافعٍ انتهازي لتحقيق مكتسباتٍ خاصة؛ أما الثاني، باطني يحتفظ المرء به لنفسه منتظراً الفرصة لتطبيقه، وربما لإجبار الآخرين على التقيّد به ولو ظاهرياً، تماماً كما أُجبر هو في السابق على فعل ذلك.

العقد الاجتماعي هو خط الدفاع الأول عن الدولة، ولا نبالغ إن قلنا إنه خط الدفاع الرئيس، وما تبقى مجرد تفصيلات. لذا نحن في سوريا أحوج ما نكون إلى عقد اجتماعي جديد بلا شك

قد تساعد هذه النقطة في الإضاءة على زاوية هامة من صورة الحرب السورية، إذ باتت لدينا في واقع الحال عقود اجتماعية عديدة، تتناسب طرداً مع تعدد مناطق السيطرة. لدينا بداية عقد اجتماعي في مناطق سيطرة الحكومة السورية، ثم عقد اجتماعي في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطيّة، وهنالك عقد اجتماعي في مناطق سيطرة حكومة الإنقاذ التابعة لـ"هيئة تحرير الشام"، وأخيراً يوجد عقد اجتماعي في مناطق سيطرة "الحكومة المؤقتة" التابعة لـ"الائتلاف الوطني المعارض"، وفي هذه المنطقة نجد عدداً من العقود الاجتماعية الأخرى، كما هو عليه الحال في منطقة عفرين على سبيل المثال (65 كم شمال غرب مدينة حلب) إذ قُسّمت المنطقة إلى قطّاعات، كل قطاعٍ يضم عدداً من القرى، ولكل قطاعٍ عقده الاجتماعي الخاص، وقوانينه، ومحاكمه، وسجونه وإلى ما هنالك من المؤسسات. وتجدر الإشارة إلى أن مستوى الانتهاكات في هذه المنطقة من قتل، وخطف أو اعتقال بهدف الفدية، وتعذيب، واستيلاء على المنازل والأراضي، ونهب الآثار وقطع الأشجار بلغ حدا قياسياً، وهذا ما يفسّر تسمية البعض لعفرين بـ"جهنّم حلب" بعد أن كانت تعرف سابقاً بـ"جنّة حلب". لقد دفع الواقع المأساوي كثيراً من السوريين خلال البحث عن إيجاد حلولٍ ومخارج إلى التركيز على العقد الاجتماعي (قبل الحرب لم يكن تداول مصطلح العقد الاجتماعي أمراً شائعاً، بل ربما كان القسم الأكبر من السوريين لا يعلمون معنى المصطلح)، والدعوة إلى كتابة عقدٍ اجتماعيّ جديد. ولكن يغيب عن ذهن البعض أن المعالجة إن كانت سطحية فلن تؤدي إلى النتائج المرجوّة، والتي لم تتحقق، ولن تتحقق إلّا إن غيرنا طريقتنا في الفهم، والتفكير، والتنفيذ. العقد الاجتماعي هو خط الدفاع الأول عن الدولة (أي دولة)، ولا نبالغ إن قلنا إنه خط الدفاع الرئيس، وما تبقى مجرد تفصيلات. لذا نحن في سوريا أحوج ما نكون إلى عقد اجتماعي جديد بلا شك، ولكنه حسب ظني لا ينبغي أن يكون الخطوة الأولى، فالخطوة الأولى تكمن في الاعتراف بأن الأساس المعتمد سابقاً لبناء العقد الاجتماعي ثبت أنه أساسٌ مخلخل نتيجة وجود ثغراتٍ وفجواتٍ عديدة، ومهما كان البَنّاء ماهراً فلن يكون البِنَاء ثابتاً وراسخاً طالما كان هذا حال الأساسات. ففضلاً عن أن دول المنطقة – كما أسلفنا – لم تُبن وفقاً للإرادة الحرة للشعوب بل نتيجة توافقات دولية، فالثغرة الثانية في الأساس الذي بُني عليه العقد الاجتماعي به في سوريا تكمن في عدم الاتفاق على هويةٍ وطنيةٍ جامعة، وعندما تعالج هذه الإشكالية ستكون مسألة كتابة عقدٍ اجتماعي جديد، ودستورٍ جديدٍ ضامن وحامٍ للعقد الاجتماعي مجرد تحصيل حاصل، ولا تحتاج لا إلى مؤتمرات، ولا لجانٍ تتفرع عنها لجان.


الرياض - طهران - دمشق: مفصل تاريخي أم سكون بين عاصفتين؟

يذهب البعض إلى القول إنّ الأحداث التي تعيشها سوريا منذ آذار/مارس 2011 إنما هي نسخة موسّعة لأحداث..

ريزان حدو
لقاء موسكو من زاوية أخرى: طهران في صف "قسد"؟

من المرجح أن تحمل الأيام المقبلة أخبارًا عن لقاءات تركية-إيرانية. ولعل مصلحة "قسد" تكمن اليوم بالتواصل..

ريزان حدو
تصعيد تركي في الشمال السوري: ما السيناريوهات المحتملة؟

بات من المسلّم به أن أنقرة جادة ومصرّة على تنفيذ "مشروعها الاستراتيجي" للشمال السوري عبر استكمال ما..

ريزان حدو

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة